الفوائد الجعفرية

اشارة

نام كتاب: الفوائد الجعفرية موضوع: فقه استدلالى نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، عباس بن حسن بن جعفر تاريخ وفات مؤلف: 1323 ه ق زبان: عربى قطع: وزيرى تعداد جلد: 1 ناشر: مؤسسه كاشف الغطاء تاريخ نشر: ه ق

ص: 1

الفوائد الجعفرية

ترجمة المؤلف

اشارة

الحمد لله الذي زين شوارق معالم شريعتنا المحمدية بمشارق أنوار عظمته القدسية، و أودع برائع حكمه الجلية في محكمات أحكامه المرضية و قيض لها من العلماء العاملين من كشفوا عن مخدرات عقائلها الغطاء فأسفر سنا عقودها الجوهرية و لا إسفار ذكاء، و الصلاة و السلام على سيد أنبيائه و خاتم سفرائه، و على الأئمة الطاهرين من عترته سدنة الدين الحنيف و أمنائه.

و بعد: فهذه لمحة خاطفة من ترجمة غيث العلوم المدرار و عيلم الفقاهة الزخار الفقيه الكبير و المحقق النحرير فخر الطائفة الجعفرية و واسطة عقد محاسنها السنية مؤلف هذا الكتاب المستطاب فنقول و بالله التوفيق:

هو الإمام المجتهد الفقيه الأصولي الأوحد الشيخ عباس نجل الفقيه حسن صاحب كتاب أنوار الفقاهة، بن شيخ الطائفة الجعفرية الشيخ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كتاب (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء) قدست أسرارهم.

مولده:

ولد في النجف الأشرف سنة 1253 هج، و لما شب عن الطوق و بلغ سن التلقي، و نزع عرقه الأصيل- و العرق دساس إلى العروج في مدارج الترقي قرأ علوم الآلة و المبادئ من نحو و صرف و بلاغة كما قرأ الباب الحادي عشر على الشيخ إبراهيم قفطان. و قرأ المعالم و الشرائع على الشيخ محمد حسين الأعسم ثمّ حضر خارجا على ابن عمه آية الله العظمى الشيخ مهدي ابن الشيخ علي كاشف الغطاء و على الفقيه الأصولي المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري، و السيد المجدد الميرزا حسن الشيرازي و كان من أبرز تلامذتهم و المشار إليه بالبنان من حضار بحوثهم، و عاصر كثيرا من العلماء الأعلام و استفاد منهم كالسيد مهدي القزويني و الميرزا حبيب الله الرشتي و الحاج الملا علي الخليلي و الشيخ محمد الزريجي و غيرهم، حتى استغنى بعدهم عن الحضور و آلت إلى سدة حضرته جميع الأمور.

ص: 2

مقامه العلمي:

كان (قدس سره) فقيها محققا و أصوليا بارعا قوي العارضة في محاكمة الآراء و مناقشة الأدلة حاضر البديهة، حسن الذهن متوقد الفطنة قوي الحافظة، و كان مضافا إلى مكانته العلمية و رتبته السامية في الفقه و الأصول أديبا شاعرا تتهادى المعاني بين يديه، و تلقي كرائم الألفاظ مقاليدها إليه، هذا إلى نفس توشحت بالإباء و اكست بأخلاق أصحاب الكساء، و لا عجب فهو سليل دوحة العلم الشماء التي بجدها عن مبهمات الشريعة كشف الغطاء، و أضاءت ب" أنوار الفقاهة" محافل الفضلاء.

آثاره العلمية:

دبح يراعه المبارك جملة من المصنفات الرائقة و المؤلفات الشائقة في علوم الإسلام و معارفه، و هذا ما حضرنا من أسمائها:

" منهل الغمام في شرح شرائع الإسلام" في المعاملات تعرض فيه لكلمات أستاذه علم الهدى الثاني الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله).

" منظومة في الصوم و الخمس و الحج" حذا فيها حذو السيد بحر العلوم الطباطبائي و هي منظومة وافية المباني محكمة المعاني بليغة التحرير مليحة التحبير دلت على ما وهبه الله تعالى من ملكة راسخة في علوم الأدب و العربية.

" الفوائد الجعفرية": يحتوي مائة فائدة في الأصول و الفقه و هو الكتاب الذي بين يديك.

و قد وجدنا على وجه الصفحة الأولى من مخطوطة الكتاب أبيات في تقريظه منها:

فوائد حققتها من كل فنّ دروس كجنة الخلد فيها ما تشتهيه النفوس

و قد ذكر في هذه الفوائد آراء أساتذته و آراء المعاصرين من أقرانه من أمثال الفقيه الكبير السيد حسين الكوه كمري و الفقيه المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي و الفقيه الأصولي المؤسس الشيخ مرتضى الأنصاري و المحقق القمي و غيرهم.

" رسالة في الإمامة": و قد أوفى فيها على الغاية في تقرير مباحث الإمامة و تحرير مواضع النزاع و نصرة مدارك أهل النص على الشبهات غيرهم بأبلغ عبارة و أسنى بيان.

" الرد على الرسالة اللاهورية" لمفتي بغداد السيد أبو الثناء محمود أفندي شهاب الدين الآلوسي المتوفى سنة (1270 هج)، عاد بها قول (الأفندي) مفندا دليل شيعة أهل البيت على قواعد العقائد الحقة مشيدا.

" شرح اللمعة الدمشقية" من كتاب الطهارة و بعض الصلاة.

" رسالة في الاجتهاد و التقليد".

" رسالة في مواليد الأئمة و وفياتهم".

" رسالة في الاختلاف و المواعظ".

" كتاب في المسائل الأصولية" أطنب فيها الكلام لمسألة الضد و مقدمة الواجب و إجماع الأمر و النهي و غيرهما.

وفاته:

توفي في الثامن عشر من رجب سنة (1323 هج) و شيع تشيعا حافلا و دفن في مقبرة آبائه في النجف الأشرف، و أرخ وفاته ولده العلامة الشيخ مرتضى بقوله:

يا له من مرقد قد خصه بسحاب الرحمة الله طاب للعباس أرخه بجنان الخلد مثواه

ص: 3

ص: 4

بسم الله تعالى شأنه

قال الجاني على نفسه القادم إلى ضيق رمسه العباس بن الحسن بن جعفر كاشف الغطاء النجفي هذه عدة فوائد مما تعم به البلوى منها رسمتها لتكون لي ذخرا في العقبى و أجرا، و استأذنت الولي المطلق فيها و الله الموفق و المعين.

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و به نستعين و صلى الله تعالى على محمد و آله

الفائدة الأولى (في الواجب التوصلي):

قال المحقق (رحمه الله) في" الشرائع" (و الوضوء الواجب ما كان للصلاة الواجبة و الطواف الواجب) انتهى.

الظاهر من هذه العبارة القول بوجوب الوضوء و ان لم يقصد المكلف فعل الصلاة أو الطواف و مرجع هذه المسألة إلى إن المكلف، هل يجوز له أن يأتي بالواجب الغيري التعبدي بنية الوجوب مع عدم قصد.

التوصل إلى ما وجب له أم لا؟ و الواجب التعبدي الغيري هو ما اشترط فيه النية مثل الوضوء و الغسل يظهر من غير واحد من أصحابنا الجواز و صحة الوضوء- و ان نوى الوجوب فيه- و لم يلتفت إلى ما وجب لأجله و ظاهر الفاضل و الفخر عليه حسب ما حكاه الكركي (رحمه الله) أيضا حيث سأل العلامة (طاب ثراه) عن الغسل قبل الوقت بنية الوجوب فأجاب: أن أعد كل صلاة تصلى بهذا الغسل، فخرج السائل، و استقبل الفخر، و سأله فأجاب بأنه اعد أول صلاة صليتها فقط فرجع السائل إلى أبيه و اخبره بجواب الفخر فاستجوده قال الكركي (رحمه الله) و بداهته أي الفاضل أحسن من ترويه و مرجع الصحة إلى كفاية أن يجب على المكلف أحد العبادات المتوقفة على الغسل أو الوضوء و ان لم يقصدها و لا التفت إليها فان الصلاة الأولى لما بطلت ثبت قضائها في الذمة فصحت نية الوجوب في مقدمتها التعبدية و ان لم يلتفت أو قصد عدمها فضلا عن الإتيان بها فقصد التوصل عنده غير لازم في الواجب الغيري بل وجوب ما يرتب عليه اكسبه الوجوب و ان لم يقصد التوصل به إليه. و ذهب جمع من الفقهاء إلى عدم الصحة و يظهر ذلك من جواب الكركي أيضا و إليه مال جمع من مشايخنا المتأخرين و هو الأجود و الفهم العرفي يساعد عليه فان الواجب الغيري إنما نشأ وجوبه من وجوب ما وجب له سواء نشأ وجوبه من تحريك العقل أو كان بخطاب شرعي فالخطاب به على وجه الإلزام إنما توجه من جهة وجوب ما توقف عليه فكيف يكون المكلف بنفس إتيانه مع عدم ملاحظة ما وجب له ممتثلا و مطبعا فلا وجه للصحة مع عدم قصد التوصل.

نعم الواجب التوصلي يسقط بفعل المكلف له و بفعل غيره مطلقا لحصول المطلوب للأمر و عدم اشتراط التعبد فيه كإزالة النجاسة عن الثوب و البدن المتوقف عليها الصلاة و غيرها و معنى بطلان الواجب الغيري التعبدي من جهة عدم صدق الامتثال المشترط في التعبديات و إلا فصفة الوجوب لاحقه له و يترتب عليه إنه من نذر أن يدفع لمن صنع واجبا غيريا درهما تبرأ ذمته لمن توضأ لا بقصد التوصل لأنه فعل واجبا غيريا و هو واضح، و زاد بعض متأخري المتأخرين و هو صاحب الفصول فشرط في صحة الواجب التعبدي

ص: 5

الغيري ترتب ما وجب لأجله عليه و ان مجرد ذلك الغير لا يكفي في الصحة و حينئذ أن ترتب عليه فعل الغير كشف عن صحته و إلا كان لغوا و لم يتصف بالصحة فلا يجوز الدخول فيه بعبادة أخرى، و وجه ذلك بان وقوع مقدمة الفعل على الوجه المطلوب منوطا بحصول الواجب فلو وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب و المطلوبية فان وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل على اكثر من ذلك و الوجدان يقضي بان من يؤيد شيئا لحصول شي ء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه و يلزم أن يكون وجوده على الوجه المطلوب منوطا بحصوله.

و فيه أن ذلك يتم في العلة التامة لا في جزء العلة و العقل و العرف قاضيان بان من أتى ببعض المقدمات عازما على الإتيان بالباقي خرج عن العهدة فيما جاء فيه منها و لم يكن حالها كباقي المقدمات التي لم يأت بها أصلا.

توضيح الحال: أن الفعل المتوقف على مقدمات عديدة حال كل واحد منها بالنسبة إلى الواجب كحال الكل و ما اقترن بفعل المأمورية منها كالذي لم يقترن

ص: 6

و إن آل كلامه إلى التفصيل في وجوب المقدمة بين الموصلة و غيرها، و إن الواجب منها التي يحصل معها الواجب فهو تفصيل في المقدمات لم يسبق إليه و ليس له موافق فيه على أن اللام في الواجب لأجل غيره يلزم على مدعاه أن تكون تعليليه و حينئذ يكون دورا و عساه تصيد ذلك في قول (صاحب المعالم) إن حجية القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها و عازما عليه، و محط نظره إن الباعث لإيجاب المقدمة و الحكمة فيه هو التمكن من فعل الواجب و الإيصال إليه فلو عزم المكلف على تركه انتفت تلك الحكمة الباعثة على وجوبه فظن أن (صاحب المعالم) يقول: بوجوب الواجب الغيري الذي يترتب عليه الواجب النفسي دون غيره فحكم به و هو كسابقه لا محصل له للزوم التفكيك بين وجوب المقدمة و ذيها فيما لو قصد عدم الإتيان بذي المقدمة فانه يرتفع بذلك وجوبه على مدعاه و الملازمة عقلية فان بقي على صفة الوجوب كيف تكون مقدمته غير واجبه و وجوبها إنما نشأ من وجوبه؟ ثمّ كيف يكون وجوب الواجب بالإرادة و عدمها؟ و الحاصل عود هذا إلى التفصيل بين العلة التامة و ما قبلها من المقدمات كما ترى ممنوع كالثمرات التي ذكرها مثل الدخول في المغصوب ثمّ اتفق إنقاذ غريق لذلك الداخل فإنه زعم انكشاف وجوب الدخول عليه و ان أثم بحرمة التجري و هو لا وجه له بل فعل حراما واقعيا بدخوله و واجبا آخر لا دخل له بتلك الحرمة، و أيضا فرع على ذلك أن المستأجر للحج إن عزم في أثناء الطريق على عدمه ثمّ صد لم يستحق أجرة على ما قطعه من المسافة و ان لم يعزم على تركه لكنه اضطر إليه استحق الأجرة على ما قطع من المسافة فان التفصيل بين الاختيار و الاضطرار لا يوافق ما تقدم من مذهبه بل الواجب على مذهبه أن لا يستحق المستأجر الأجرة مطلقا لاعتباره الإيصال المفقود و لو عن قهر على انه لم نعثر على مفصل كذلك مع أن استحقاق الأجرة منوط باحترام العمل و عدمه و لا دخل له بما نحن فيه.

و الحاصل أن ليس للقصد و عدمه دخل في الوجوب الغيري المتوقف عليه غيره. نعم الامتثال فيما كان منه عباده متوقف على القصد لكن ذكر في يقال قولا (بان من توضأ فلم يصل و ان قصد الصلاة بوضوئه فوضوؤه غير مجز) و لم يعلم أن منشأ ذلك ما زعمه في" الفصول" أو غير ذلك، و مما ذكرنا يظهر انه لا ثواب و لا عقاب مستحق على ترك الواجب الغيري و فعله- و ان كان بخطاب أصلي- كما هو الملحوظ في المقام لكن يلو حينئذ في [القمي في سادس مقدماته] و غيره (ترتب الثواب و العقاب على فعله و تركه لكن المتجه خلافه لان الحاكم بالترتب أما العقل و هو لا يدل على أزيد من انه مطلوب للغير فلا يقضي بثبوت مدح أو ذم على تركه كما يقضي بذلك في المطلوب له إذ الثواب و العقاب منحصر بما يقرب العبد إلى مالكه و ما يبعده عنه، و الواجب الغيري مقرب إلى أوامر المولى لا إلى ما أمر به و ان قصد به الامتثال فان قصد به الامتثال لا يلزمه الثواب و لا يلزم تركه العقاب لأنه إن ترتب عليه المراد اختص به الثواب و ان لزم من تركه تركه اختص العقاب بالواجب المتروك فقصد التقرب لا يلازم قصد الامتثال و بالعكس).

و أما النقل فانه و إن أوهمت بعض الآيات و الأخبار ذلك مثل (أن الله لا يضيع أجر عمل عامل)" وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ*" و قوله تعالى" وَ لٰا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ" إلى آخره" إِلّٰا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ" و ما ورد في ثواب المتهيئ للحج و ثواب من زار بان له بكل خطوة حسنه، إلا إن المتدبر فيها يرى أن ذلك الثواب على فعل ذيها لا عليها نفسها و ان تفريق الشارع الثواب على المقدمات من باب الترغيب و يومي إليه ما ورد"

أن من زار أمير

ص: 7

المؤمنين" عليه السلام" له بكل خطوه حسنه ذاهبا و إيابا

" إذ الإياب ليس من المقدمات فالأخبار بثواب ذي المقدمة قد يكون عنه نفسه و قد يخبر عنه بمقدماته و الله العالم.

الفائدة الثانية: تشتمل على مسائل:

المسألة الأولى: أصالة الوجوب النفسي:

إن ظهور الواجب في الوجوب النفسي من المادة أو ما يؤدي مؤداها من الصيغ هل هو من جهة الوضع أم غيره من إطلاق أو انصراف؟ زعم بعض الأصوليين أنه من جهة الوضع فيكون مجازا في الغيري، و الأوجه خلافه بل هي موضوعة للقدر المشترك لصحة إطلاق الواجب على الغيري و المتبادر و عدم صحة سلب الواجب عنه. نعم يمكن فيه دعوى ظهور الواجب في النفسي حيث يطلق و لعل منشأه أما الانصراف أي أن المطلق ينصرف عرفا إلى اكمل أفراده أو الإطلاق فيكون ظهورا

ص: 8

إطلاقيا بمعنى أنه لو كان غيريا لقيد و اللفظ مطلق و تظهر ثمرة هذه الاحتمالات في المفاهيم، فان قلنا بكون الأمر حقيقة بالوجوب النفسي مادة و هيئة يكون المنفي في جانب المفهوم هو النفسي دون الغيري و هو مسكوت عنه، و إن حكمنا بالاشتراك كان المنفي في المفهوم كلا القسمين، لأن المفهوم نفي ما ثبت منطوقا، فمفهوم (إن جاء زيد فأكرم) نفى الإكرام عند عدم المجي ء لنفسه و لغيره، و ان كان منشئ الظهور الانصراف لا أنه اكمل أفراد الواجب كان المنفي هو النفسي أيضا في المفهوم لأنه ثبت منطوقا بدلالة لفظية من جهة الانصراف. و قد توهم بعضهم بأنه و ان قيل بالانصراف غير إن مفهوم قولنا (يجب الإكرام عند المجي ء، و لا يجب الإكرام عند عدمه) فالإكرام نكرة في سياق النفي و هي تقتضي بالعموم و مثله (أكرم الرجل إن أتاك) فانه منصرف لذا ألحقوا الواحد و مفهوم النفي عن مطلقه. و رده البعض بأن الانصراف أفاد الوجوب النفسي فهو بمنزلة القيد و ما كان قيدا في المنطوق ينفى مفهوما. و فيه أن المنفي في المفهوم على ما تحرر في بابه مفاد ذلك اللفظ لا القيد الذي يقيده نفس اللفظ، فالأحرى في الجواب أن المفهوم نفي ما ثبت في منطوقه و المفروض أن الثابت هو الوجوب النفسي فينتفي و ليس عندنا قضية مشتملة على ألفاظ يلاحظ فيها ألفاظها بل هو معنى يعبر عنه بأي عبارة تكون فلا نكره و لا عموم. و أما لو كان مستفادا في الإطلاق و عدم ذكر القيد لا من دلالة لفظية بل دليل عقلي لبي حينئذ يكون المنفي في المفهوم القدر المشترك لأنه مؤدى اللفظ و استفادة النفسية منه إنما كان من جهة إهمال القيد مثل ما لو قيل (اكرم زيدا إن أهان عمروا) فان مفهومه نفي الإكرام مع الإهانة و عدمها. و ربما اشتبه إلى بعض المحصلين الفرق بين استفادة الوجوب النفسي من الانصراف أو من جهة إهمال القيد فلم يفرق بينهما و لم يلتفت إلى قيام الانصراف مقام الوضع و انه يجري فيه حكمه بخلاف الظهور الإطلاقي فانه خارج عن اللفظ فلا يعتبر في المفهوم ثمّ لا فرق بين استفادة الإطلاق في المنطوق من جهة الشمول لجميع الأحوال و الكيفيات و هي المسمى بالإطلاق الأحوالي أو من جهة المادة لقابلية صدقها على الوجوبين من حيث الوضع لكن حيث لم يذكر القيد فالحكمة تقتضي إهمال المقيد فيحكم بالوجوب النفسي و ينفي في المفهوم القدر المشترك لأنه الذي وضع اللفظ بإزائه بخلاف ما لو كان موضوعا للنفسي أو منصرفا إليه فان المنفي هو النفسي لأنه الثابت في المنطوق فليفهم. بل عسى أن يقال إن استفادة الوجوب النفسي من القضية الشرطية بالنسبة إلى المنطوق لازمة على كل حال.

و تقريره أنا لو لم نحكم بان المستفاد من (إذا أحدثت فتوضأ) هو الوجوب النفسي للزم أن يكون الحدث غير علة تامة للوضوء و هو خلاف المتفق عليه في القضية الشرطية من كونها تفيد السببية التامة ضرورة أن الوضوء في المثال قد علق على الحدث فلو فرض أن الوجوب اعم من الغيري لزم أن يكون الوضوء معلقا على الحدث و غيره (كقيام زيد) مثلا حيث أن المنطوق لا يفيد اشتراطه بالحدث فقط بل يلزم خلوها من السببية لو لم يظهر منها الوجوب النفسي إذ لو احتمل فيها الوجوب الغيري لكان المعلق عليه الوجوب فيها معروفا و داعيا لذلك الغير و يكون الغير هو السبب التام في الوجوب لا المعلق عليه في اللفظ و المعلق عليه جزء العلة و هو خلاف ما نصوا عليه في الجملة الشرطية فكل مقام يعلق عليه الوجوب فيها يلزم أن يكون هو السبب التام في تنجزه إلا إذا قامت قرينة على إرادة غيره مثل (إذا زالت الشمس فتوضأ) إذ الوضوء لم يعلق على الزوال و إنما علق على الصلاة و لو لا القرينة لحكمنا بتعليقه على الزوال، و كذا (إن حضرت الجنازة فصل عليها) و (إذا أفطرت فصم شهرين) فإنه لو لا معلومية الكفائية و التخيير لحكمنا بالنفسية

ص: 9

و العينية فيهما بمقتضى السببية و إطلاق الوجوب المعلق بالنسبة إلى سائر الأحوال و الكيفيات فتفيد الجملة النفسية و العينية، فلو قامت قرينة على صرف الوجوب عن ذلك كان استعماله في الكفائي و التخييري مجازيا و لا فرق في ذلك بين المادة و الهيئة.

المسألة الثانية: دوران الأمر بين النفسي و الغيري

أنه لو دار الأمر في غير الجملة الشرطية بين النفسي أو الغيري أو هما و الاستحباب نفسيا أو غيريا أو النفسي العيني أو الكفائي أو هو و التخييري و كان الوجوب مستفادا من دليل لفظي يحمل على النفسية في الأول و على العينية في الأخيرين و يحمل على الغيرية دون الاستحباب النفسي لو دار الأمر بينهما لقرب الغيري إلى معنى الوجوب و ان كان الاستحباب نفسيا و يحكم بالاستحباب النفسي مقدما على الغيري منه و يجري ذلك منه حتى في الأوامر الإرشادية على إشكال من

ص: 10

حيث احتمال أنها بمنزلة الخبر و أن ترجح عندنا أن فيها نوع طلب، و ليست هي أخبار محضة فيجري فيها ذلك و أما لو استفيد الوجوب من أمر لبي كالعقل و نحوه و تردد بين النفسي و الغيري لا يمكن حمله على أحدهما لأن العقل حيث الزم مهمل بالنسبة إليهما لا يعين فردا منهما إلا بمقدمة خارجية من إطلاق و غيره من الأدلة الاجتهادية فلو حصل إطلاق انصرف إلى النفسي فان عدم ذكر القيد يكفي في حمله عليه. و توهم بعض متأخر المتأخرين بأن الإطلاق في الوجوب الناشئ من اللب لو اقتضى الحمل على النفسية لدخل في الأصول المثبتة الممنوع الأخذ بها و هو كما ترى لان أصالة الإطلاق من الأصول اللفظية أو ما بحكمها فهي من الأدلة الاجتهادية لا من الأصول التعبدية الشرعية.

توضيح المطلب: انه إن كان هناك دليل اجتهادي لفظي اتبع و إلا فصور الدوران لا يخلو من تردد الوجوب بين الغيري و النفسي بلا مرجح لأحدهما أو النفسي مع احتمال أن يكون غيريا أو العكس ثمّ الشك أما قبل دخول وقت العمل أو بعده و لا ريب في إجراء البراءة قبل دخول الوقت في الأول و أما بعده فمرجع الشك إلى الشك في الشرطية و الجزئية لظهور أن الوجوب للغير من أجزاء الواجب أو شروطه فان استقوينا أصالة الشك حكمنا بالغيرية فيكون [أصالة الشغل] واردة على البراءة و إن لم نحكم [بأصالة الشغل] و رجعنا إلى البراءة كما هو المتجه نفينا بها الغيري و النفسي لكن يلزم أداء المطلوب بنية منطبقة عليهما فرارا عن المخالفة الواقعية من حيث العلم الإجمالي بالوجوب و في ترك الوجوب النفسي يحصل عدم الامتثال إما لكون المشكوك فيه نفسيا و أما لأدائه إلى ترك واجب نفسي. نعم ننفي الآثار المترتبة على أحدهما بالأصل فلا يجب على المكلف شيئا منها. و أما لو كان نفسيا و شك بكونه غيريا فأصالة الشغل تحكم بالغيرية و أصالة البراءة تنفي الغيرية فيبقى الوجوب النفسي سليما عن المعارض. و أما لو كان غيريا و شك بكونه نفسيا أم لا فتجري فيه البراءة قولا واحدا و لا تجري أصالة الشغل في مثل هذا الشك بالاتفاق و يحكم حينئذ بالوجوب الغيري و حيث حكمنا بعدم ترتب الآثار في الصورة الأولى مع وجوب الإتيان بالذي وجب يلزمه القول بعدم اشتراط صحة ذلك الغيرية و ان احتملت فيه الغيرية و لزم الإتيان به كما لو شك في واجب نفسي أنه غيري بعد مضي زمان ما احتمل أنه واجب لأجله فإنه يجب على المكلف الإتيان به لاستصحاب الوجوب و ان مضى وقت ذلك الغير. و أما لو اشتبه حكم واجبين و لم يميز الواجب النفسي منهما عن الغيري وجب الجمع بينهما قبل دخول الوقت لاحتمال الغيرية في كل منهما و فيه لاحتمال النفسية و بعد دخول الوقت ما لم يأت بها فيه و أن أتى بأحدهما على تأمل لكن الاحتياط كذلك.

المسألة الثالثة: جواز نية الندب في الواجب الغيري بعد دخول الوقت:

جزم الشهيد و جماعة إن الواجب الغيري التعبدي بعد دخول الوقت لا يجوز أن ينوي به الاستحباب، و ذهب آخرون إلى الجواز و ركن المانع إلى عدم مجامعة الندب للوجوب و إن تغيرت الغاية لأن رجحانية المنع من الترك تفوق الرجحانية التي يجامعها الترك فكيف يبقى الندب مع وجود الوجوب؟ و كيف يجوز الأمر بالترك مع إرادة عدمه؟ فإذا لم يكن نية الاستحباب فيه و قد عملت مما سبق بعدم صحة المقدمة مع عدم قصد التوصل بها إلى ذيها فينتج أنه مع عدم إرادة ذي المقدمة بعد دخول الوقت لا يمكن الإتيان بالوضوء أو الغسل لا واجبا و لا مندوبا مع أن المشهور صحة الوضوء بين من تأخر و لعل وجهه أن صحة الفعل و إيقاعه على الوجه الصحيح و عدمه ليس بتابع للأمر به و إنما يدور مدار

ص: 11

المبغوضية و عدمها فرجحانه الذاتي كاف في صحته و الإتيان به بنية القربة المطلقة و إن نوى المكلف عدم التوصل أو قيل بعدم استحبابه بعد الوقت لكن جريان ذلك في التيمم مشكل إلا على القول بالبدلية مطلقا و مع ذلك لا يخلو من نظر فتدبر.

الفائدة الثالثة: أصالة التعبدية في الواجب و عدمه:

[أما الآية]

استدل المحقق في المعتبر و الفاضل في المنتهى على لزوم نية القربة في الوضوء بآية [وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] و يظهر منهما أصالة التعبدية في الأوامر مطلقا في مقام الشك. و تنقيح المقام أن الواجب التعبدي ما لزم فيه قصد القربة و لا يسقط وجوبه بشي ء غير مباشرة المكلف له أو ذهاب موضوعه، و التوصلي، هو ما لم يعتبر فيه ذلك، فكل واجب سقط بفعل غير المكلف فهو توصلي كالدين المأمور بأدائه و كتوجيه الميت و كإزالة النجاسة عن الثوب و البدن، و كلما لا يسقط إلا بمباشرة المأمور مع التفاته إلى العبودية و التقرب فهو تعبدي كالصلاة و الصوم من الواجبات الأصلية و الوضوء و الغسل مما وجب بالتبعية و لا واسطة بينهما في الأوامر الشرعية سواء كان الأمر مستقلا أو مستفادا من خطاب أخر كالمفاهيم و الملازمات و الأولوية المنصوصة و اللحن و الفحوى. و أما الواجب بغير الخطاب أو ما لزمه كان واجب بدليل لبي فهو تابع لدليله و كيف كان فلو أوجب الشارع فعلا بخطاب مستقل و اشتبه أمره بين أن يكون توصليا لا يراد منه إلا نفس إيجاده خارجا فلو وجد بأي أنحاء الإيجاد سقط الأمر به، أو تعبديا لا يسقط إلا مع نية العبودية و التقرب و لا يسقط الأمر به مطلقا إلا ممن أمر به بعنوان العبودية فقيل أن الأصل فيه أن يكون تعبديا و يظهر ذلك من غير واحد و أولهم صاحب الشرائع و هي المنتهى و قيل بأصالة التوصلية فيه فيحمل عليها في مقام الشك و هو الأوفق بالأصول و الأقوى بالنظر إذ الأصل لا يخلو من أن يكون ناشئ من الظهور اللفظي أو الأصل العملي أو العقل أو بمعنى القاعدة المستفادة من خصوص آيات أو نصوص.

فالأول: قد لا ينكر أن ظهور إطلاق الأمر يقتضي إيجاده خارجا مباشرة و جميع الأوامر العرفية على ذلك ونية القربة و التعبد و الامتثال و قصد العنوان لا إشكال بخروجهما عن ظاهر الأمر و لم تعتبر فيه لا شرطا و لا شطرا إذ لو كانت من أجزائه أو شروطه للزم الدور لتوقف الواجب على حصولها إذ المفروض أنها أجزاء أو شرائط و هي لا تحصل إلا بعد الأمر بالفعل المراد فلا بد أن تكون معتبرة فيه فإذا كانت نية التقرب خارجة عن مفهوم الواجب و مشخصه للتعبدي منه بمعنى أنها من الدواعي إليه فلو صدر الآمر بشي ء من أفعال المكلفين لا ريب أن الأمر يريد إيجاده في الخارج ممن أمره به مباشرة و هو القاضي به ظهوره لكن لو وجد في الخارج من غير المأمور به و لو في ضمن محرم سقط الأمر لحصول المطلوب إذ لو كان نفس وجود المطلوب في الخارج لا يفيد في سقوط الأمر للزم على الآمر البيان فلو قال لعبده (افعل كذا و كذا) ثمّ حصل المراد من غير العبد سقط الأمر به و اجتزئ الآمر بوجوده غايته أن المباشرة لم تحصل من العبد و ذلك لا يقتضي عدم السقوط فظاهر الأمر يقضي بان المراد إيجاده و قد وجد كون المراد إيجاده على نحو خاص فما كان ظاهر الخطاب و الأمر ليدل عليه ليقال أن وجوده خارجا لا يسقط معه الأمر فإذا اعتبره الآمر على نحو خاص في كونه منويا به القربة أو في مكان خاص أو زمان كذلك لم يكتف بوجوده في الخارج فلا يدل عليه ظاهر أمره أبدا بل يحتاج إلى ذكر ذلك مضافا إلى الأمر به. و مما حررنا تعرف اشتباه كثير من الأصوليين في هذه المسألة حيث أن جماعه منهم ذهبوا إلى اجتماع الواجب مع الحرام في مثل الغسل

ص: 12

المأمور به للثوب أو البدن بالماء المغصوب و لم يلتفتوا إلى إن الأمر و النهي لا يعقل اجتماعهما و ان الحرمة لا تجامع الأمر غاية ما في الباب بان المأمور به وجد في الخارج فسقط الأمر و لا داعي إلى الطلب ثانيا و ما ذلك إلا كإلقاء الريح للثوب مثلا في الماء أو لنزول الغيث عليه أو غير ذلك مما هو غير مقدور للمكلف و قد حصل المأمور به في الخارج به أنزى يصلح الأمر بغير المقدور من المقدمات أو ما توقف عليها؟ فكيف سقط الأمر بغير المقدور؟ بل لو أمر الأمر بالمقدور و غيره انصرف للمقدور جزما فسبب سقوطه ليس إلا وجوده في الخارج فلم يبق للطلب موضوعا.

و الحاصل إن حاق الأمر و طبعه لا يقضي إلا بحصول المأمور به في الخارج من المكلف حيث أمر فالمباشرة يقتضيها حاق الأمر في التوصلي و التعبدي و كذا الامتثال فلا وجه لما فرق به البعض بين القسمين بالمباشرة و عدمها فحكم أن كل ما لزمت فيه المباشرة هو تعبدي لمنعه بان ظاهر الأمر يقضي بالمباشرة مطلقا. نعم لا يقضي بعدم سقوطه عن المكلف لو أوجد لا بعنوان التقرب و الامتثال لان ذلك من الدواعي التي يلزم بيانها للأمر مضافا إلى الأمر، و أما كون حاق الأمر يدل عليها فلا، و من هنا اشتبه الحال على بعض العلماء فأوجب القصد للفعل المأمور به بدعوى أن المتبادر من الأمر بفعل هو كون عنوان ذلك الأمر مقصودا ملتفتا إلى انه واجب أو مندوب فان أراد بكون المتبادر منه ذلك بمعنى عدم صحة إرادة عدم الالتفات من المكلف للعنوان في الأمر فهو كذلك بل يقتضيه الأمر بحاقه إلا أن ظاهر أمره بالفعل هو إرادة إيجاده في الخارج بأي نحو اتفق و ان لم يدل الأمر عليه كأجزاء غير المقدور لو أمر بمشترك بين المقدور و غيره مع أن الأمر لا يدل عليه جزما.

و الحاصل أن التعبدي لو أريد من حاق اللفظ الدال على الأمر لزم الإغراء بالجهل لان حاقه لا يقتضيه كما يقتضي المباشرة و الامتثال من المأمور في المأمور به و عدم المباشرة لو أجيز الأمر به فهو لدليله في التعبدي و التوصلي فيصرف ظاهر الأمر عما اقتضاه لقرينة قامت عليه مثل العاجز عن الوضوء اللازم أن يوضئه غيره فعدم التمكن صرف الأمر عن ظاهره كما ورد في المسح على الجبيرة فقال" عليه السلام":"

نعم مٰا جَعَلَ الله عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ

" و ربما كانت الإمارة عامه كما في الإجارات على عمل فان ظاهر الإجارة إرادة العمل كيف ما اتفق لا من المستأجر الخاص إلا في الاستئجار على العبادة فعسى أن يكون للأجير خصوصية يلاحظها المستأجر خصوصا إذا اشتمل الأجير على الأوصاف التي ترغب فيها النفوس مثل الورع و العلم و الوثوق بالتأدية.

و أما الثاني: و هو الأصل العملي لو فرض عدم ظهور اللفظ في أحدهما مع القول بوضع الأمر للقدر الجامع بينهما كما هو الحق فلو أرجعنا الشك بينهما إلى الشك في الشرطية جرى فيه حكم الشك في المتباينين لعود الشك إلى الإتيان بهذا الفرد فقط أو هو مع قصد الامتثال فان الأصل العملي لا يعين أحدهما و المرجع حينئذ لقاعدة الاحتياط و يلزم الإتيان بالفعل بقصد القربة المطلقة و ان أجرينا الأصل في الشروط و الأجزاء المشكوكة فالمقام من مجاري البراءة لكن الشك في مثل ذلك يرجع إلى الشك في المتباينين و ان أجرينا البراءة في الشروط و الأجزاء لأن الشك هنا في داعي الأمر و ان الداعي له الامتثال كالأوامر الابتلائية أو مجرد حصوله فالمرجع لأصالة الشغل لا البراءة و فيه تأمل انهينا القول فيه بمحله مستوفى.

ص: 13

و أما الثالث: و هو القاعدة ربما يقال أو قيل بوجود الأصل في المقام بمعنى القاعدة و هو متصيد من خصوص الكتاب أو السنة أو الإجماع فمن الأول قوله تعالى [وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] و [إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ] إلى غير ذلك مما يدل على قصد الامتثال و الانقياد في الواجبات الشرعية، و أضاف بعض المتأخرين إلى ذلك آيات الإطاعة مثل: [أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ*] و لعل الاستدلال بمطلق مثل هذه الآيات لا وجه له. أما آيات الإطاعة فتقريب الاستدلال بها أن الإطاعة لازمه في أوامر الله تعالى فهي شرط في الأمر، و معنى الإطاعة هو الإتيان بالمأمور به على وجه الانقياد و الامتثال لعدم تحققها بدون ذلك و ذاك مفاديته القربة في الأوامر.

و فيه إن آيات الإطاعة و ما بمعناها مقررة لحكومة العقل بلزوم الانقياد و الامتثال و لا تفيد شيئا زائدا عليه فهي غاية ما تحكم بوجوب الإتيان بمطلوب المولى ما دام مريدا له و أما كون وجوبها يثبت حكما وضعيا و هو عدم سقوط الأمر و ارتفاع التكليف بدونها فلا، فلو ارتفع بوجوده في الخارج حسب ما أراد فلا إطاعة إذ لا طلب و لا ثبتت مقالة الخصم إلا بكون المطلوب لو حصل بدونها لم يرتفع الأمر و يجب تداركه إن أمكن و هذا شي ء خارج عن معناها و لا يفهم منها ذلك جزما.

و الحاصل أن قصد الإطاعة و التقرب واجب و الإتيان بالمأمور به واجب آخر فلو حصل المأمور به من المأمور أو غيره طبق الأمر سقط التكليفان لارتفاع الأمر بحصول موضوعه و ارتفاع الأمر بالإطاعة التي تدور مدار وجوده بل يحتمل أن تكون الإطاعة هنا بمعنى عدم العصيان على حد إطاعة الوالدين و لا يعتبر قصد القربة في أمرهما إجماعا، و يؤيده الفهم العرفي فان المتبادر من أمرته فلم يطع أي انه عصى لكن لا ريب بمجازية هذا المعنى فالأحرى ما حررنا فإن الأمر الوارد على المكلف لا يخلو من إن يعلم تعبديته بدليل يقضي به أولا.

و الأول: لا ريب في وجوب التعبدية زائدا على الإطاعة المؤكدة لحكم العقل.

و الثاني: إما أن يعلم بكونه توصليا أو يشك فيه.

و الأول لا شبهة في عدم لزوم ذلك المعنى الزائد فيه على معنى الإطاعة بل المكلف متى أتى به بعنوان انه مراد منه حصلت الإطاعة و ارتفع الطلب و ان جاء به لا بهذا العنوان أيضا يرتفع الطلب و لم تحصل الإطاعة.

و الثاني و هو المشكوك يرجع فيه إلى ما يقتضيه الظهور اللفظي. و أما تعيين تعبديته بهذه الآية و ما بمعناها عند الشك فلا، إذ التعبد و التقرب لا يفيده لفظها لما عرفت. و زعم بعض المتأخرين ممن قارب عصرنا إن وجوب الإطاعة فيما ورد الأمر بفعله يجري مجرى قول الآمر (أكرم كل عالم) بعد محروزية عدم إرادة إكرام العالم الذي هو عدو للآمر المطاع و خروجه عن الكلية فلو شك في عالم مخصوص بأنه عدو أو صديق للمولى وجب الأخذ بالكلية و لزم إكرامه حتى يظهر انه معاد بخيال إن مفاد الآية هو وجوب الإطاعة في جميع أوامره فيعمل بالعموم فالمردد من الأوامر بين القسمين لا بد من القول بأنه تعبدي لما عرفت من عموم لفظ الإطاعة و ان معنى العبودية لازم لها و لا يمكن حصولها بسوى الأمر التعبدي.

و فيه وضوح الفرق بين المقاس و المقاس عليه كيف و الحكم في (إكرام كل عالم) معلق على موضوع العالم و الصداقة و العداوة من لوازم الموضوع و الشك في اللازم لا يخصص

ص: 14

العام بعد إحراز موضوعه و لا يوجب خروجه عنه كما تقرر في محله بخلاف ما نحن فيه لتعلق الشك بالموضوع نفسه إذ موضوع الإطاعة هو موافقة الأمر فالأمر مأخوذ في مفهومها و معناها أن المأمور لو أتى بما أمر به من يلزمه نفوذ أمره بعنوان انه مراد منه فقد حصلت الإطاعة المأمور بها في الخارج و حينئذ فالشك بان هذا الفعل الذي وجب عليه أن يفعله يجب فيه نية القربة ليحصل بها مفهوم الإطاعة أولا يجب فهو شك في الموضوع لا في لازمه بعد إحرازه و الشك في الموضوع لا يثبت ما وضع له فيقال انه يجب الإطاعة في هذا الأمر. نعم لو أتى به المكلف بعنوان انه مأمور به فقد أطاع و أما لو أتى به لا بهذا العنوان فهل يسقط؟ الأمر عنه أم لا يسقط فالآية ساكتة عنه و أغرب من هذا التوهم، توهم أن أصالة عدم التوصلية يضم إلى الآية فيثبت المدعى فان المقصود في الاستدلال بالآية كونها بنفسها دليلا على المدعي لا بضميمة شي ء آخر و الأصل أن تم فهو دليل بنفسه على أصالة التعبدية لا يحتاج إلى ضم غيره معه كالآية لو تمت. و أما العقل فغاية ما يحكم به هو رفع العقاب الحاصل بالمخالفة بأي نحو يكون فلا دلالة فيه على لزوم التعبدية و ان ارتفع بها العقاب و لم يتحقق بغيرها كما هو ظاهر، و مثل آيات الإطاعة الآيات التي أمر الله بها بعبادته مثل: [فَاعْبُدِ اللّٰهَ مُخْلِصاً] و [قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ] لظهور أن الأمر بالعبادة لا يلزم منه شرطيتها في سقوط كل أمر أمر به و انه لا يرتفع بدونها بل مفادها إن إطاعة العبد يحصل بالعبودية و أداء الفعل الذي أمر به بقصد الامتثال فيسقط حينئذ الأمر عنه أما عدم سقوطه بغير ذلك حتى بإيجاده أو وجوده في الخارج بدون ذلك فلا دلالة في الآيات عليه.

و أما آية: [وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا الهَٰ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] فغاية ما بها يستدل أن حذف المتعلق يقضي بالعموم و ان اللام فيها للغاية و المعنى ما أمروا بأمر في جميع الأمور إلا لغرض التعبد مع الإخلاص و مرجع الضمير إلى أهل الكتاب فلا إجمال فيه و كون اختصاص هذا الحكم بأهل الكتاب فلا يعم واجبات شريعتنا لا معنى له و لا محصل لان سوقها و إن كان الإخبار عن أهل الكتاب إلا انه من باب (إياك اعني و اسمعي يا جارة) و ان شريعتنا مثل شرائعهم في خصوص ذلك مضافا إلى أصالة عدم النسخ و لزومه بالقاعدة المستفادة من الآية و لأجله استند إليها [المحقق في المعتبر] [و الفاضل في المنتهى] على لزوم قصد القربة في الوضوء قبالا لأبي حنيفة الذاهب إلى العدم لكن الوجه عدم دلالتها على المدعي لابتناء الاستناد إليها على أن لام (ليعبدوا) فيها للتعليل و الغاية و ليس كذلك، بل اللام بعد إرادة و الأمر للتقوية و الصلة حسبما ذكروا فهي بمعنى الباء أي ما أمروا بشي ء إلا بالعبادة حال كونهم مخلصين أي موحدين و نحوها: [إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ] أي إنما يريد ذهابه مع أن عطف يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة على (يعبدوا) قرينة على أن اللام غير تعليلية لظهور أن الصلاة و الزكاة ليس بغاية و سبب لجميع ما أمروا به، سلمنا أن اللام للتعليل فغاية مفادها أن أوامر الله تعالى خواصها و غايتها هي العبادة على وجه الإخلاص و هو التوحيد هنا بقرينة قوله تعالى: [أَلٰا لِلّٰهِ الدِّينُ الْخٰالِصُ] فقد فسر بالتوحيد في" مجمع البحرين" فغاية ما أمروا به هو التوحيد" أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ*" فلا يلتفت إلى ما زعم من أن الإخلاص هو نية القربة فالمأمور محصور بها فالآية تقضي بان الغرض الداعي للعبادة محصور بنية القربة أو إن المأمور به محصور بها فلا فرق بين أن تكون هي الداعي للأمر أو أن المأمور به محصور بها و يثبت الاشتراط على التقديرين من عدم تمام المأمور به إلا بها أو أنها الداعي لذلك و وجه عدم الالتفات سبق من كون الإخلاص

ص: 15

في الدين هو التوحيد الخالص لاستعمال الدين في الكتاب المختوم في غيرها مثل [فَاعْبُدِ اللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ] و مثل [أَلٰا لِلّٰهِ الدِّينُ الْخٰالِصُ] لورود مثل هذه الآيات في مقام النهي عن الشرك على إن الإخلاص لغة هو الخالص الصفي الذي لم يشب بشي ء فليست القربة من معناه، و لو سلمنا إن الإخلاص في الدين الأعمال المرتب

ص: 16

عليها الجزاء و هي التي تقرن بالقربة نقول (نعم) لا ينكر أن استحقاق الثواب مشروطا بالتقرب بالعمل في الواجب مطلقا لكن سقوط الأمر أيضا شرط بذلك أول الدعوى فليست الآية ناظرة إلى أن قصد القربة شرطا لوقوع الواجب على وجه الصحة و مع ذلك فالآية لا تخل من إشعار.

و أما السنة:

فهي كثيرة منها (

لا عمل إلا بنية

) و (

إنما الأعمال بالنيات

) و وجه الركون إليها ظاهر إذ لا معنى لنفي العمل من دون نية إلا نفي صحته إذ نفى ذاته مع وقوعه في الخارج غير متصور فيلزم أن يسلط النفي على صحته أو كماله مثل (

لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب

) كذا قيل. و فيه أن ذلك مسلم و لا ينفع إلا بضم إن النية هي نية القربة لا العمل الذي لا عن سهو أو غفلة و الحكم بذلك خروج عن معنى النية لغة و لم يثبت أنها حقيقة شرعية و لا قرينة على المجازية فإذ لم يمكن حمل النية لغة و لم يثبت أنها حقيقة شرعية و لا قرينة على المجازية على قصد القربة فاستعمالها بمعناها لا يفيد الخصم، لان العمل الموجود من الخارج في غير قصد و شعور لا يوصف بالصحة و ان كان مع قصد عنوانه وصف بها و لا دخل له بنية القربة و لو أريد بالعمل في الرواية خصوص الطاعات و العبادات كما هو الشائع من استعمال مثل: (هلك الناس إلا العالمين) (و هلك العالمون إلا العاملين)، و في الأدعية كثيرا ما يستعمل في ذلك مثل دعاء الأمير (ع): (

اللهم لا عمل لي أستحق به الجنة

) و غيره فأيضا لا يفيد المعتبر لها شيئا ضرورة أن العبادة الواقعة في الخارج لا تتحقق أنها عبادة إلا مع القصد إليها فالطاعات و العبادات الصادرة عن غير اختيار و قصد لا توصف بالصحة و أيضا لو تصرف بها فاعتبرت بالمعنى المذكور يلزم خروج الأكثر من الواجبات التوصلية التي تصح بلا قصد القربة أو حمل النفي على نفي الكمال أو الثواب غير الصحة و لو قلنا به سقط الاستدلال بها من أصله، فغايته أن يقال في معنى هذه النصوص إن قصد القربة معتبر في حقيقة العبادة و صحتها و هو لا ينفع حالة الشك في كون المأمور به من أي القسمين لأنها لا تثبت الشرطية في التعبديات إلا بعد إحراز كون الواجب تعبدي و لا تشخص الأمر عند الإطلاق حسب ما هو مدعي و مثل ذلك قوله" عليه السلام": (

لكل امرئ ما نوى

)، فإن معناها أن الثواب بقدر النية و هذا المعنى يتأتى بإظهار العبودية حتى في الواجب التوصلي بل في المباح و دعوى أن المراد بالعمل المنفي هو الواجب مطلقا و النية يراد بها قصد القربة ممنوع لاحتياج ذلك إلى القرينة المفقودة فالمتجه الحمل في كل واجب مشكوك على التوصلية حتى يظهر من دليل أو نص أنه تعبدي و الله العالم.

لفائدة الرابعة (المضايقة و المواسعة):

اشارة

حكم جماعة من أساطين أصحابنا بالمضايقة و وجوب تأخير الحاضرة إلى آخر الوقت لمن عليه القضاء اشتغل به أو لم يشتغل و اشتهر النزاع في هذه المسألة، و قرن الصحة و الفساد بعضهم بالمسألة الأصولية و هي اقتضاء الأمر للنهي عن ضده الخاص و عدمه و إن هذه المسألة فرع من تلك القاعدة فبناء على فورية القضاء يلزم فساد الحاضرة للنهي عنها و كذلك كل ما ينافي الوجوب الفوري من العبادات بناء على الاقتضاء و لا كذلك بناء على عدمه و لأجل أن فروع المسألة عامة البلوى ذهبت الآراء في ذلك كل مذهب فمنهم من أنكر وجوب المقدمة مطلقا و منهم من منع الاقتضاء و حكم بعدم اقتضاء الأمر النهي عن ضده أما مطلقا أو في الوجوب المقدمي، و منهم من أنكر كون ترك الضد مقدمة لفعل

ص: 17

الواجب و منهم من فصل في وجوب المقدمة بين الموصلة و غيرها و منهم من أنكر اقتضاء النهي الفساد مطلقا و منهم من فصل بين النهي الأصلي و التبعي و منهم من اعترف بوجوب المقدمة مطلقا و إن ترك الضد مقدمة و إن النهي موجب للفساد في العبادة مطلقا و إن الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده و خرج صحة الواجب الموسع بترك المضيق على تقدير عدم إرادة المضيق و حصول الصارف عنه بفعل الموسع و حيث أن الأكثر حكموا بصحة بعض الفروع في الواجب التعبدي مع حصول الإثم بترك ضده المضيق لزمنا تحقيق هذا المطلب على الوجه الذي يصل نظرنا القاصر إليه فنقول.

أما الأول: و هو وجوب المقدمة

بمعنى أن المريد لفعل لا ريب في أنه بتلك الإرادة لا يريد تفويت ذلك الفعل بذلك الأمر فليس له إنشاءان أحدهما تعلق بالمقدمة و الآخر بذيها، و إنما هو إنشاء واحد للأمرين كطلب الجزء بالأمر بالكل و كطلب مجموع أجزاء اللفظ البسيط عند إرادته فإن طلب الركوع هو عين الإرادة المتعلقة بالصلاة و طلب (عين زيد و يده هو طلب عين زيد) و لا فرق في ذلك بين سائر المقدمات أفعالا أو تروكا و لا أظن أن أحدا ينكر وجوبها بهذا المعنى لأنه لازم للخطاب عند صدوره لا يمكن لا يمكن انفكاكه عنه عقلا فإنكار وجوب المقدمة مطلقا غير وجيه بل باطل و لذلك حكم الأكثر بتعارض وجوب ذي المقدمة و حرمتها أو استحبابها أو إباحتها و جزموا بلزوم رفع اليد عن حكمها أو حكم ذيها.

و أما الثاني: و هو منع اقتضاء الأمر النهي عن ضده مطلقا أو خصوص المقدمة

فهو أيضا بمكان من المنع لحكومة العقل بأن ضد المقدمة مفوت للواجب و مفوت الواجب لا يريده الآمر و لا يرضى به جزما و إلا لما أوجب ذلك. نعم هناك شبهة لسلطان العلماء (رحمه الله) في خصوص ما لو كان ترك الواجب مقدمة للفعل المأمور به أيضا في مسألتنا و تبعه السبزواري و قبله البهائي قال (رحمه الله) بحاشية العضدي (لو كان ترك الضد مقدمة لفعل ضده فكون فعل الضد مقدمة لترك ضده أولى بالإذعان و لما كان منشأ توهم التوقف هو المقارنة الاتفاقية حصل ذلك الاشتباه في المقامين مع أنه محال) و مراده بالاشتباهين هو اشتباه المشهور في مقدمية الترك للفعل و اشتباه الكعبي في نفي المباح و أراد بالأولوية لزوم اجتماع الضدين لو قيل بأن الفعل ليس بمقدمة للترك و في القوانين و قوله (مع أنه محال) الظاهر أنه أراد منه لزوم الدور و هو أغرب من سابقه لأن المقامان متغايران، و أورد عليه بعض المتأخرين بعد أن تعجب في استغرابه (أن الإيراد عليه بتغاير المقامين مما يقضي بعدم وقوعه على مطلبه) انتهى.

أقول عبارة سلطان العلماء محتملة لأن يكون اللام في الضد الثاني للعهد فمراده من الضد في المقامين هو المقدمة المتروكة و عليه فلا دور، و إن أراد توقف الفعل على الترك و الترك عليه فالدور ظاهر. و توضيحه: أنه لو وجبت الإزالة للنجاسة عند المسجد و المشهد فتركها من وجبت عليه و صلى فلا ريب أن فعل الإزالة موقوف على ترك الصلاة و فعلها سبب لعدم الإزالة فتوقف فعل الإزالة على ترك الصلاة و تركها موقوف على ترك الصلاة فلا دور بخلاف ما لو توقف الفعل على الترك و الترك عليه كذلك. و أجاب المشهور عن شبهه مطلقا بأن الوجدان و الضرورة تقضي بتوقف فعل الواجب على ترك الضد لمانعية الضد و عدم المانع من أجزاء العلة التامة بخلاف العكس فإنه لازم فاشتبه عليه التوقف بالاستلزام و قوله (أن ذلك من المقارنات الاتفاقية) لا يفهم له معنى لأنه إن أراد بذلك جواز

ص: 18

الانفكاك فهو غير معقول إذ وجود البياض ملازم لرفع السواد البتة بالضرورة حتى في المعلولين لعلة ثالثة، و إن أراد بالمقارنة و إن لم يحصل الانفكاك و مع ذلك ينكر المقدمية فهو عار عن الوجه. و الحاصل الضدان متمانعان بالذات و لولاه لكان الوجود و العدم معلولين لعلة ثالثة و بعد انعدام كل موجود الذي من جملته تلك العلة نرى أن التضاد كما هو فلا جرم أن يكون وجود أحدهما متوقف على دفع الآخر إلا أن يلتزم بأن رفع المانع ليس من أجزاء العلة. التامة و أما توقف الترك على الفعل فيكفي فيه الصارف فلا يلزم التارك الاشتغال بفعل بل يكفي فيه عدم الإرادة في أول أزمنة الترك. و أما مسألة الإيصال فقد سبق فيه القول في الوجوب النفسي و الغيري و ملخصه: إن العقل حاكم بوجوب ماله مدخلية في الوجود و في العدم سواء ترتب الغير عليه أو لم يترتب فإن ترتب الغير لا يخرج المقدمية عن كونها مقدمة، و تقصى (صاحب المعالم) على ما يظهر من مجموع كلماته بأن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به ليس على حد غيره من الواجبات الأصلية التعبدية لاجتماعه مع الحرام فيخالف سائر الواجبات و يتجه أن يقال بعدم اقتضاء الأمر النهي عن ضده، و إن قلنا بوجوب المقدمة إذ كون وجوبه للتوصل يقتضي اختصاصه بحالة إمكانه و لا ريب بأنه مع وجود الصارف عن الفعل الواجب لا يمكن التوصل انتهى و هو كلام مشوش الأطراف لأن الوجوب حالة عدم الإمكان لا يدعيه أحد و كون الواجب من المقدمات هو الذي يؤدي تركها ترك ذيها كما يظهر منه لا مطلقا كما ترى لعوده إلى إنكار المقدمة رأسا غير الإرادة على أنا لم نجد التفصيل المذكور في كلماتهم ثمّ إذا كان دليل مدع الكلية هو العقل فما كان العقل ليحكم بوجوب مقدمة دون أخرى بل كلما توقف الفعل على شي ء و لذلك الشي ء دخل أو شأنية لعدم ذلك الفعل اتصف بالمقدمية البتة، و تخلص بعضهم أيضا بأن عدم صحة الواجب الموسع في مثالنا ليس إلا من جهة وجود النهي و لا مانع من اجتماع الأمر و النهي هنا و ليس هو بأقل من الصلاة في الدار المغصوبة فقد قيل بالصحة كما هو مفصل في بابه.

و فيه إن الاجتماع على القول المذكور بجوازه في غير الاجتماع الآمري في مشخص واحد من شخص واحد فإن ذلك مما أجمع على عدم جوازه بل ضرورة العقل تقضي بعدمه. نعم قيل به في الأمر بطبيعة و النهي عن أخرى و المكلف بسوء اختياره يجمع الماهيتين في مشخص واحد فالمأمور به إذا كان ماهية الصلاة و المنهي عنه ماهية الغصب و لا مانع من اجتماع الماهيتين في واحد صار مصداقا للكلي الواجب و هو يكفي في الامتثال إذ الصحة متوقفة على كون هذا الفرد الخاص مأمور به أو كونه مصدقا للمأمور به فإذا صار للمأمور به فردان فرد محلل و أخر محرم فاختيار المكلف للمحرم منه لا ينافي الصحة إذ التخيير عقلي و هو لا يمنع من الاجتماع فهو عاص من جهة مطيع من أخرى بخلاف ما إذا كان الفرد المخصوص مأمور به و منهي عنه و ما نحن فيه هو من الاجتماع الآمري الذي اجتمع فيه الأمر و النهي بواحد شخصي و وجهه أن الصلاة لا ريب في أنها موقتة بوقت يزيد عليها مثلا فالزمان من مشخصات الموضوع فالمأمور به الفرد المشخص لا خصوص الكلي إذ التخيير الزماني جاء من طرف الشارع و إذنه فكل جزء من أجزاء ذلك الزمان يكون المكلف مأمور بالصلاة فيه منهي عنها. نعم لو كان التخيير في الزمان عقليا تم ما ذكر.

و خلاصته أن الزمان ظرف للمأمور به لا منوع له كالمكان فليس للفرد بالنسبة إليه فردان بل هو فرد واحد مظروف بظرف واسع و لو أن الزمان منوع لبطلت حجية الاستصحاب رأسا لجهة تبدل الموضوع لو كان الزمان من القيود المشخصة المفردة

ص: 19

للماهية و ليس كذلك فالطلب يمتد بامتداده و لو كان لآخر العمر كبعض ما وجب في العمر مرة و الذي يقضي بالظرفية الفهم العرفي إذ لا شك بأن الزمان ليس كالإيمان فإذا اجتمع الأمر و النهي بالنسبة إلى الصلاة في سعة الوقت فضيق الأمر بالإزالة لا جرم من رفع اليد عن أحدهما لا يمكن الثاني لأن الترك مقدمة فلا بد من وجوبها فتعين الأول و سببه عدم ملاحظة القدر المشترك بين الأزمنة من جهة الظرفية بخلاف الأمكنة فالقدر المشترك ملاحظ فيها، و رفع (الفاضل القمي (رحمه الله)) الأشكال (بأن النهي الموجب للفساد في خصوص الأمر المقتضي له هو ما لو كان الأمر بخطاب مستقل من الشارع لا ما إذا كان وجوبه تبعيا مثل المقدمة فإن وجوبها تبعي فالنهي عن ضدها كذلك، و النهي التبعي للوجوب التبعي لا يورث الفساد كالنهي المستفاد من الوجوب الأصلي فإنه يورثه) نبه على ذلك في سادس مقدماته عند قوله (فلا معنى للثمرات التي أخذوها).

و فيه أن النهي عقلا مانع من الأمر سواء كان الأمر أصليا أو تبعيا بل لو قيل بعدم وجوب المقدمة تبعا فللأبدية العقلية كافية في ارتفاع الأمر بما ينافيها، و لذلك ذهبوا إلى أنه لو دل دليل على عدم وجوب المقدمة يحصل التعارض بينه و بين الواجب فلا بد من التصرف في أحدهما لعدم معقولية إرادة الفعل و لا ارادة مقدمته فمع الاعتراف بقيام إرادة للمقدمة في نفس المولى لا بد أن تمنع من الأمر بما ينافيها و أن كانت تلك الإرادة لا عقاب على تركها إذ لا ملازمة بين القول بالفساد و القول بعدم العقاب على ترك المقدمة فكلا النهيين مانعين من الأمر على حد سواء عقلا.

و ذهب غير واحد من أساطين أصحابنا بعد الاعتراف بالأمور المذكورة إلى الصحة على تقدير الإثم، و أولهم على الظاهر المحقق الكركي في باب الحج و الدين من المقاصد و الفاضل الهندي و بعدهما الشهيد الثاني في الجهر و الإخفات في روض الجنان، و بعدهم العلامة الأكبر جدنا كاشف الغطاء في مقدمة كشفه، و سيد الرياض في باب الغسل المجامع للوضوء، و هؤلاء اعترفوا بالإثم و الصحة على تقدير ترك المقدمة المأمور بها فيكون الأمر بذيها منجزا على تقدير العصيان المتأخر بمنزلة الموجود فلا مانع من توجه الأمر و لا يلزم منه اجتماع مبغوضية المقدمة مع الأمر بذيها فالشرط في تحقق الأمر فرض كون العصيان المتأخر موجودا و هو المعنى المنتزع من التقدير به و لا استحالة في ذلك ضرورة أن الشارع لم يكلف بشي ء مع طلبه لترك مقدمته الوجودية فيكون طلبه مستحيلا بل كلف على تقدير فعله المعصية أي حصول مقدمة ذلك الشي ء عصيانا فيكون وجوب ذي المقدمة على تقدير حصول المقدمة و من حرمة المقدمة هو أن تركها مطلوب لا على تقدير شي ء و فعل ذيها مطلوب على حصولها و حاصل نظرهم أن الشارع لما أطلق الأمر بذي المقدمة يعلم منه أنه أراد فعله على كل حال و على جميع التقادير فلو لم يتمكن المكلف من فعل المقدمة لعذر شرعي أو عقلي كتحريمها أو امتناعها و عدم تعلق القدرة بها فيلزم تقييد الإطلاق في الأمر على القدر المقرون بالعذر و هو عدم الأمر بذي المقدمة مع فرض حرمتها و متى تحقق من حال المكلف ارتكاب المعصية بفعل المقدمة فإطلاق الأمر بذيها على حياله لارتفاع المانع فكأنهم يرون عدم المانع في اشتراط وجوب الواجب بحصول مقدمة وجوده كما يشترط في التكاليف بقاء المكلف إلى انتهاء التكليف الذي لا يمنع من تنجيز الخطاب عليه و مثله تكليف الحائض بالصوم بعد الحيض، و نحو ذلك من الشرائط المحققة الوقوع أو المقدر وقوعها فإن الحج مشروط بطي المسافة و هو مأمور به عند الاستطاعة فلو انحصر طي المسافة بالمغصوب و بنى المكلف على ارتكابه فلا مانع في

ص: 20

تنجيز التكليف على هذا التقدير فما ذلك إلا كالشرط المتأخر و رده شيخنا (رحمه الله) بأن تقدير المعصية إن أسقطت النهي بمعنى أنه لا نهي كمن كلف بعد تمام ارتكاب المحرم و إن نية فعلها كالخلاص من ارتكابها فهو مخالف للبداهة لأن المكلف و إن جزم بفعل الحرام فالجزم كذلك كيف يرفع النهي؟ و مع بقائه عاد المحذور.

و ملخصه أن النهي لا يرتفع ما دام المحل قابلا له فلو صلى و ترك إزالة النجاسة فلسان الأمر أترك الصلاة و هو مستمر فكيف تصح و الحال أن المكلف يقدر على إزالتها في كل آن من أناتها! فارتفاع النهي على تقدير عدمها لا يفهم له معنى محصل. و وافق الجماعة على أصل الدعوى و القول بالصحة (صاحب هداية المسترشدين) (و صاحب الفصول) لكن بتقرير آخر يؤول إلى ما قررناه بالتأمل، قال الأول: في حاشيته على المعالم (إن دلالة النهي على الفساد لم يكن من جهة وضعه له بل لما دل على التحريم لزم الفساد لخلو العبادة عن الأمر و على هذا فاستفادته في المقام إنما هو من أحد أمرين إما لكونه مقيدا للمرجوحية التي تنافي الرجحان المعتبر في حقيقة العبادة أو لجهته إن تعلق الطلب بالفعل بعد تعلقه بتركه يستلزم المحال فلا بد من القول بالفساد. ثمّ أورد على كلا الأمرين بما حاصلة: إن منافاة المرجوحية للرجحان غير مسلم لأن مرجوحية هذا الفعل إنما هو بالنظر إلى الغير و لو كانت المرجوحية بالنظر إلى الغير توجب الفساد للزم أن يكون الواجب أفضل العبادات الذي لم يكن مرجوحا بالنظر إلى غيره و الرجحان في العبادة هو رجحان الفعل على الترك لا رجحانه على غيره مطلقا). و مرامه أن الصلاة راجحة على عدمها و هو يكفي في صحتها و تعلق الأمر بها و إن كانت مرجوحة بالنسبة إلى الإزالة.

و فيه إنه خلط بين المرجوحية بملاحظة الغير و المرجوحية بسبب الغير و المانع منع الثاني لا الأول و لا ملازمة بينهما فلعل الخصم يقول بأحدهما و ينكر الأخر، فرده بما ذكر لا يرفع مقالته مطلقا. و بالجملة الرجحان و المرجوحية قد يجتمعان في مثل صوم العبد و لم يستأذن مولاه وصوم المدعو و قد يكونان بالقصد نحو ضرب اليتيم للتأديب و عدمه فإن أراد الاجتماع بهذا المعنى فلا ضير فيه لكن لا فرق في ذلك بين القسمين فإن المرجوح للغير مع المرجوح بملاحظة الغير قد يجتمعان و قد يفارق كل واحد صاحبه فيجتمعان بالسلام إذا توقف الجهاد مثلا على تركه و ينفرد المرجوح للغير بإنقاذ أحد الغريقين المتساويين فإن المتروك مرجوح للغير لا بملاحظة الغير و ينفرد الثاني بالسلام مثلا بالنسبة إلى الجهاد في غير صورة توقف أحدهما على الأخر فإن أراد بصورة الاجتماع باعتبار أن الفعل الراجح قد يفوت رجحان غيره أو كان غير جامع لوصف يترجح به غيره عليه فهو مسلم و لا يفرق الحال بين الصورتين إذ لا يلزم أن يكون في الفعل جميع ما في غيره من الأوصاف أو كان مفوتا لها و إن زعم أن الراجح الذي أراد المولى عدمه يجتمع مع المرجوحية فلا يعقل لأن رجحانه قد ذهب بإرادة تركه كإنقاذ الإمام المتوقف على ترك الاشتغال براجح فإنه ببقاء الرجحان يجتمع الضدان و لو زعم أن في المرجوح خاصية لا تزول و إن كرهه الأمر فهو قول باجتماع الأمر و النهي مطلقا مع أنه لا يدعيه في الأمر النفسي و النهي الغيري أو النفسي و إن كان محط نظره أن الواجب إذ صار تركه مقدمة لواجب فرجحان الترك من جهة عنوان المقدمية، و هذا العنوان هو الذي أكسبه الرجحان فلا ينافي الرجحان الذاتي للمكروه فكأنه يرى أن النهي الغيري العارض للفعل لا يسلب الرجحانية الذاتية و لا يوجب كونه مرجوحا ذاتا و إنما مرجوحيته باعتبار فقده للمزية

ص: 21

الموجودة في الأخر و تفويته لها فهو حسن موافق للاعتبار و لو كانت تلك المرجوحية لا تلزم بالترك و أما لو ألزمت به فلا بقاء لذلك الرجحان ذاتيا كان أو عرضيا و الحق أن هذا الكلام لا يبتنى عليه حكم البتة و هو خارج عما نحن فيه لأن البحث هنا في التكليف و أن الآمر هل يمكنه أن يكلف متكلفين متمانعين أم لا؟ و كأنه (رحمه الله) تنبه لذلك فجعل المسألة شقين و قال في ثانيهما أن تعلق التكليف بالفعل ينافي تعلقه بالترك من باب اجتماع الأمر و النهي و حيث كان النهي غيريا لم يكن هناك مانع من اجتماعه مع الواجب فإن حرمة الشي ء لتوقف الواجب الأهم على تركه لا ينافي وجوبه و حرمة تركه على فرض ترك ذلك الأهم بأن يكون ترك ذلك الأهم شرطا في وجوبه حتى قال (رحمه الله) فظهر مما ذكرنا لا مانع من تعلق التكليفين بالفعلين المتضادين على الوجه المذكور و لا مجال لتوهم كونه تكليفا بالمحال إذ تعلق الطلب بالمتضادين إنما يكون من قبيل التكليف بالمحال إذا كانا في مرتبة واحدة بأن يكون للآمر إيقاعهما مستحيلا نظرا إلى استحالة اجتماعهما في الوجود بالنسبة إلى الزمان المفروض و أما إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب بأن يكون المطلوب أولا هو الإتيان بالأهم و يكون الثاني مطلوبا على فرض عصيانه للأول و عدم إتيانه بالفعل فلا مانع منه أصلا إلى أخر ما رام بيانه، و هذا الكلام بمنزلة الشرح لعبارة جدنا كاشف الغطاء حيث قال: لأن اشتغال المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة و إن استلزم المعصية، و أي مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره (إذا عصيتني في ترك كذا فافعل كذا فإنه طاعة لي) كما هو أقوى الوجوه في حكم الجاهل بالقصر و الإتمام فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من الدخول تحت الخطاب فالقول بالاقتضاء و عدم الفساد أقرب إلى السداد. و فيه ما قد عرفت سابقا غير أنه (رحمه الله) ادعى دلالة الاقتضاء على المطلوب فإن تمت هذه الدلالة لا جرم بوجوب المصير إلى مقالته إذ مرجعها إلى تصريح الآمر بالفعل مع العزم على العصيان في ترك الأهم فيلزم اتباعه و حينئذ فيسقط ذلك الأهم إما بالعزم أو بالتلبس بالأدون و لا تبقى في نفس الآمر إرادة للمتروك و أمره ممتثل فيعاقب و يثبت على الأمرين فحينئذ يسقط جميع ما مر من الرد عليه من شيخنا و غيره لمعلومية أن دلالة الاقتضاء من المنطوق، و ذكر القمي (رحمه الله) (أنها مختصة بالمجاز في الإعراب أو ما يكون قرينته العقل) بناء عليه فالمناقشة في الصغرى و ليست من شيمة المحصلين و من يرى هذه الدلالة من جمع الخطابين بقرائن عقلية لا يعترض عليه بما ذكر و العجب أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك فأخذوا يتعلقون بكل رطب و يابس تصحيحا وردا و يعتذر لهم أن هذا الكلام لا يعرفه إلا أهله، و خرجه (صاحب الفصول) بعد إيراد كلام طويل و زعم أنه لم يسبقه إليه أحد قال: (و نحن لا نقول بشي ء من ذلك كله و إنما يجوز اجتماع النهي الغيري بمعنى طلب الترك المقيد بقيد كالتوصل به إلى فعل الغير مع الأمر النفسي المشروط بكون المكلف لا يأتي بذلك النهي المقيد فحصل الفرق بين مقالتنا و مقالتهم من وجوه عديدة و بالجملة فلا مدخل للنفسية و الغيرية عندنا في ذلك كما زعموه، و إنما العبرة بتقييد الترك في النهي و تقييد الأمر بتقدير عدمه فحيث يتحقق الأمران يجوز الاجتماع من غير فرق بين النفسيين و الغيريين و الملفق منهما و حيث ينتفي أحدهما أو كلاهما يمتنع الاجتماع مطلقا) انتهى، ه لصحمو أن المطلوب في النهي عن الضد الترك الموصل إلى فعل الواجب لا مطلقا بناء على أصله في وجوب المقدمة الموصلة فحينئذ الأمر المتعلق بفعل الضد و هو الصلاة في المثال إنما يتعلق على تقدير عدم التوصل بتركه إليه دون ما فرض فيه

ص: 22

التوصل فيكون فعل الضد مبغوضا مع التوصل بمقدمته محبوبا بدونها فيجتمع الحكمان و لا منافاة بينهما.

و فيه أن مرجعه بالآخرة إلى أن مطلوبية فعل الضد الذي تركه مقدمة مشروط بتقدير عدم الإتيان بفعل ضده و لا يمنع العقل ذلك و حال هذا الشرط كحال الشروط المتأخرة و هذا عين كلام أخيه و يلوح من الجد (رحمه الله) أيضا فأما بناء ذلك على وجوب المقدمة الموصلة و عدمها فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه و أما التقديرية فقد ظهر عدم تعلقها لخلو العبادة عن الأمر و لا يتحقق له زمان إن أرادوا بالترتب الترتب الزماني و إن أرادوا به الاعتباري فكذلك فإن بقاء الأمر بالموسع بتقدير العصيان في المضيق يلزم منه اجتماع تكليفين في آن واحد ضرورة أن العصيان لا يوجب سقوط التكليف في ثاني زمانه لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار و لو تعلق المدعي لذلك بكفاية رجحان الضد في الصحة و لا يحتاج إلى وجود الأمر. ففيه أن المحبوبية التي كانت قبل تنجز الأمر بالمضيق ارتفعت بمجرد الأمر به لعدم اجتماع المحبوبتين في آن واحد.

و الحاصل أن إطلاقات أوامر الوضوء و الصلاة لا تقتضي مطلوبيتها مطلقا و لو عارضها ضد مضيق أو توقفت على مقدمة محرمة مع الانحصار و لا يجدي خيال أن التقييد الواقع للأمر إذا لم يكن لفظيا لا يرفع مقتضى الصحة بل يرفع تنجز التكليف من حيث عدم القدرة على امتثال التكليفين مثل إنقاذ الغريقين و نحوه فلو ارتفعت الاستحالة باختيار واحد منهما ارتفع المحذور فالتكليف بالضد المضيق موجب لعدم الامتثال بالموسع ما دام المكلف لا يختار تركه و عند الاختيار لأحدهما يرتفع مانع الصحة إذ قد عرفت فساد ذلك و عدم قابلية اختيار الموسع لرفع الأمر بالمضيق و استحالة اجتماع تكليفين في زمن متحد مضافا إلى أن ظاهر المشهور القول بالاقتضاء و الفساد بل يظهر من (الحلي) الإجماع عليه و لذلك ترى أرباب المضايقة [كالشيخين و السيدين و القاضي و الحلي] و غيرهم استندوا في الفساد إلى كون الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده و النهي يقتضي الفساد و لم يناقش من ذهب إلى المواسعة بالمقدمات المزبورة بل ناقشوا في فورية القضاء و عدمه و المثبت لها منهم لم يلتفت إلى إثبات تلك المقدمات بل بمجرد إثباتها حكم بالفساد فيما ينافيها كما أن أهل المواسعة لم يتعلقوا في الحكم بها بعدم الاقتضاء أو عدم الفساد بل ركنوا إلى الحرج و إلى بعض الأخبار و لكن مع ذلك كله فقد حكم الأكثر بصحة بعض العبادات مع وجود الإثم في عدة من المسائل، فمنها ما جزم به (الكركي) و وافقه غير واحد من صحة الصلاة مع المطالبة بالدين للمتمكن من الأداء مع سعة الوقت مستشهدا بحكم المعظم بالصحة، و منها ما لو خالف الترتيب المشروع في مناسك منى، و منها ما حكم به المشهور بصحة صلاة المأموم إذا سبق الإمام بالركوع عمدا مع الإثم لوجوب المتابعة و التقدم ضدها، و منها الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام و صحة المخالفة مع الجهل مع أن الجاهل غير معذور و لم يوجبون القضاء في الإتمام بموضع القصر يقينا و في العكس على تأمل، و منها وجوب تقديم الوضوء على الغسل في المجامع له و لو خالف فقدم المؤخر أثم و صح المقدم و المؤخر إلى غير ذلك و الذي يختلج بالبال في مثل هذه الفروع هو البطلان مطلقا لأنه مستند إلى الحكم العقلي الذي لا يقبل التخصيص و كون الأكثر صححوها لا يضر بعدم حكومة العقل بقبحها نعم خرج (شيخنا) في مجلس المذاكرة بعض هذه الفروع بأن الفعلين الرافعين في الخارج قد لا يكونا متضادين و متمانعين ذاتا كما لو أمر الشارع بأمرين مستقلين الإتيان بأحدهما لا يزاحم الآخر بأمرين نفسيين كأن

ص: 23

قال (اذبح و ارم و ادفع الزكاة للمستحق و ادفعها للإمام) و لم يكن أحدهما أهم من الآخر كالصلاة و الإزالة مثلا مما يكون الأمر و النهي فيهما في عرض واحد لأن امتثال الأمر بالذبح ممكن في حق المكلف و إن لم يرم فموضوع الأمر أولا هو الفعل ثمّ يرد أمر آخر بأن إطاعة هذا الأمر مؤخرا عن ذلك أو إن إطاعة هذا الأمر أريدها بكذا بحيث أن الأمر الثاني لا يقضى بالشرطية و التقييد مثل ما لو نذر ناذر بأن يأتي بفعلين ثمّ نذر أن يقدم أحدهما على الآخر فإن الأمر من النذر الثاني لا يرفع إدارة الأمر الأول و حينئذ لو فعل أحد الأمرين امتثل ذلك الأمر المطلق فكان صحيحا موافقا له أو إن فعله حيث لم يكن منهيا عنه و أن كان غير مأمور به و لما أتى بالمقدم بعد سقوط الأمر به تفضلا.

و الحاصل النهي في غير المتضادين ذاتا لا يقضي بالفساد فكان الأمر الأولي طوى عليه أمر آخر و لم يقيده نظير النهي عن ماهية الغصب و الأمر بماهية الصلاة كذا أفاد (رحمه الله) و لكنه كما ترى لا يبل الغلة فإن تم ما يقوله جدنا (رحمه الله) من دلالة الاقتضاء كان عليه المدار و إلا فإن تمت مقاله مطلقا بأن ذلك من المقارنات الاتفاقية فذاك و إلا فالقول بالفساد هو الأقرب و الله العالم.

الفائدة الخامسة: وجوب المقدمة التعبدية

حكم الكثير من أصحابنا بوجوب الغسل قبل دخول الوقت في الصوم، و بوجوب تعلم المسائل كذلك و بوجوب الحج على المستطيع قبل طي المسافة، و وجوب حفظ الماء للطهارة لمن تمكن منه قبل الوقت مع علمه أو ظنه بعدم التمكن منه بعده و هو مشكل من جهة إن شرط تنجز الوجوب لم يحصل و لا تجب المقدمة قبل وجوب ذيها للزوم مزية الفرع على الأصل فلا بد من التصرف في الواجب بأن تجعل هذه الأمور من مقدمات وجوده لا وجوبه إن أمكن، أو التصرف في المقدمة بأن يجعل الوجوب فيهما نفسيا و إلا فمقدمات وجوب الواجب المشروط قبل حصول شرطه ممتنع عقلا، و لو قيل بالفرق بين تحقق حصول الشرط و عدمه و وجوب المقدمة في الأول دون الثاني و إن الشرط المتحقق الوقوع يصير الواجب مطلقا كاشتراط مطلق الواجبات بالشرائط الأربعة، و لا ينافي إطلاق وجوبها لم يكن ذلك بعيدا. و لا بد للفقيه من ملاحظة الموارد و الحكم فيها بما تقتضيه الضوابط الشرعية. و الجماعة الماضون صححوا ذلك بالتقديرية التي تقدمت، و ترقى بعضهم فحكم بترتب الآثار على المبيع فضولا قبل لحوق الإجازة على تقدير لحوقها، و لم يلتفت إلى عدم حلية مال الغير بدون طيب نفسه الثابت عقلا، و نقلا و لانتقاضه بالنكاح المتفق على عدم جواز الوطء و النظر قبل لحوق الإجازة فافهم.

الفائدة السادسة: تبدل رأي المجتهد

ذهب جماعة من أصحابنا إلى عدم القضاء و الإعادة في العبادات لو تبدل رأي المجتهد و الوقت باق فضلا عن خروجه، و ذهب آخرون إلى نقض الآثار مطلقا في الحكم و الموضوع المستنبط و فصل الجد و الوالد و أخوته و بنو أخيه بين ما يكون التبدل إلى الحكم الواقعي فتنقض الآثار في المستقبل و يصح ما مضى و بين ما يكون التبدل لظاهري آخر فلا ينقض من الآثار ما بنى على الدوام دون ما لم يبن عليه فمثل البيع معاطاة، و نكاح الراضعة عشرا متوالية، و بيع أم الولد في غير المستثنى و الوقف في بعض مواضعه و دفع الزكاة للمستحق مع عدم الإذن من الحاكم أو مع طلبه لها و في مجهول المالك و اللقطة في

ص: 24

بعض الفروض و غير ذلك لا يجوز نقضه عند تغير الرأي و أما ما لم يبن على الدوام كبعض العبادات فاستقوى بعضهم النقض فيه في المستقبل، و جزم بعضهم بعدم النقض مطلقا و منه يظهر أن الأخذ بالأمارات و الطرق الشرعية المنصوبة من الشارع و كذا الأصول العملية هل هو من باب الطريقية المحضة بحيث أن الطريق لو تخلف بقي الحكم على ما كان عليه قبل نصبه فالطرق الشرعية في عرض سائر الطرق الموصلة التي لا يخرج سالكها عن العهدة إلا بأن لا يظهر خلافها أو ينكشف له إيصالها غايته إن الفرق بين الطرق الشرعية و غيرها إنه في الشرعيات يجزي العمل على ما وافق الطريق ما لم ينكشف الخلاف و في غيرها يلزم إحراز الوصول فيها إلى الغاية المرادة و لا يكفي استمرار الجهل بالوصول فيها أو أنها من باب الموضوعية بمعنى أن الإمارة موضوع للحكم الذي تضمنته و لو تخلف عن الواقع مثل السفر و المرض فإن الحكم إما اختياري أو اضطراري و كل منهما إما واقعي أو ظاهري، و الظاهري إما ظاهري: عقلي أو شرعي و محل الخلاف في الظاهري الشرعي للمختار و المضطر و هو المأخوذ من الإمارات الشرعية و الأصول العملية. ذهب جماعة إلى الأجزاء فيها و أنها مسقطة للأمر بالواقع- و إن انكشف الخلاف- و فصل بعضهم بين انكشاف الخلاف في الوقت فأثبت الإعادة إلا ما نص الشارع على عدم الإعادة، و بين خارجه فلا قضاء و سقط الأمر بالواقع. و ذهب جماعة إلى أنها من باب المرآتية و الكاشفية و لاحظ لها إلا الطريقية و لا مصلحة فيها وراء مصلحة الوصول إلى المطلوب و غير الموصل منها لا ثواب و لا عقاب له و عليه فعلا و تركا سوى الانقياد المقابل للتجري للقائل بالأجزاء إن أغلب العبادات تشتمل على أجزاء و شرائط و لا يمكن إحراز العلم الوجداني في الجميع فلو لم يبن على الأجزاء لزم فوات المصلحة الواقعية التي شرعت الأحكام فكل فاقد للأوصاف المعتبرة فيه أو لبعضها غير واقعية لأن المركب من الداخل و الخارج خارج و ما بعضه ظني فليس بقطعي كله فينحصر الحكم الواقعي بالمعصوم فلا بد من المصير إلى الأجزاء في الموضوع فضلا عن الحكم بل لا بد من الالتزام ببعض أقسام التصويب، و يظهر من (القمي) ذلك لحكمه بسقوط الأمر الواقعي و إن الظاهري يقتضي سقوطه ما لم يقم الدليل على خلافه محتجا عليه بالأصل و هو البراءة و الاستصحاب و بأن الظاهر من الأمر الثاني عدم إرادة الأول بشهادة العرف و اللغة و للقائل بعدمه كما نسب للذريعة و الفاضل و الشهيدين و غيرهم، و إليه مال شيخنا (رحمه الله) و إن أدلة اعتبار الأمارة لا تقضي بالموضوعية و إثباتها يحتاج إلى دليل أخر بعد كون الأمر الواقعي عام لجميع المكلفين غايته خروج من جهل الحكم الواقعي بالعمل على الطريق و متى ارتفع الجهل عاد الحكم الأولي كالضرورة التي بعثت على جواز أكل الميتة فبارتفاعها تعود الحرمة كما هي، و لا مسرح لاستصحاب الجواز حالة الاضطرار و لا وقع لما يتخيل من أن أدلة الإمارات حاكمة و مخصصة لأدلة العمل طبق الحكم الواقعي فالجاهل خارج عن العموم لارتفاع التكليف عنه بالعمل على طبق الإمارة و إن بقي الوقت و ارتفع الجهل لكون التخصيص خلاف الأصل و أدلة الإمارة لا تصلح للحكومة فإن منها ما هو عقلي كالانسداد القاضي باعتبار مطلق الظن عند أربابه، و ليس حاله عند الانسداد إلا كحال القطع عند الانفتاح لا يفيد إلا مجرد الطريقية كما لو كان من قبيل الجهل المركب و حكومة العقل به لأجل إطاعة الأحكام الواقعية ليس إلا. و منها ما اعتبر لأجل بناء العرف و العقلاء كالأصول اللفظية مثل أصالة الحقيقة. و أصالة عدم التخصيص و أصالة العدم و مطلق الاستصحاب في رأي فإن اعتبارها من باب الكشف

ص: 25

و المرآتية و لا تصرف للشارع فيها إلا بالإمضاء فقط. و منها الإمارات الشرعية المعبر عنها بالظنون الخاصة كخبر الواحد و أضرابه و الأمر به لا يخل أما من جهة الوثوق بالصدور و الاطمئنان به فحال الوثوق بصدور الخبر الموجب لقبوله كحال العلم بالطريقية و هو من مجعولات الشارع فمتى أحرز الصدور و الدلالة التي أمضاها الشارع بالوثوق المعتبر في طريق الإطاعة وجب العمل به و لا يلتفت إلى حال الراوي من فسق أو عدالة و لا عبرة بالخلل في السند إذا لم يؤثر بالوثوق أثرا، و أما من جهة وصف الراوي فالقبول و الحجية يدور مدار تحقق الوصف لا الرواية كاعتبار الخبر للآية حتى مع عدم حصول الوثوق أو الظن بالصدور فهو- و إن ظن الجعل فيه- من الشارع لأمره باتباع خبر العادل تعبدا فيكون حكما ظاهريا و لازمه أجزاء العمل الواقع على مضمون ذلك الخبر و إصابة المجتهد فيه مطلقا لكنه يمكن إلحاقه بالأول من جهة أن الشارع أمر باتباعه لأغلبية إيصاله إلى الواقع و نهى عن القياس لعدم الغلبة فيه لا أقل من الشك في أن الأمر باتباعه كان بالجعل أو بالإمضاء و هو يكفي في عدم ثبوت الجعل و الشك في التكليف سبب تام لعدمه، بل أقول أن الطرق لا تميز سوى موضوع الحكم الواقعي؛ لأنها تثبت حكما غيره فكأنها تقول هذا الحكم الواقعي فرتب عليه آثاره فيطلب الأمر وجوده قبله و تبرأ الذمة منه بعده. و يجوز استئجاره على عمل طول ذلك الزمان لفراغ ذمة العامل و لا نفهم من جعل الطرق إلا هذا و هو تمييز الحكم الواقعي و صيرورة المكلف مشمولا لخطابه، لا أنها ميزت بدله و جعلت ما سواه مكانه فإذا تبدل الجهل بالعلم و ظهرت المطابقة لذلك الحكم برئت ذمة المحكوم عليه و إن تخلفت مع سعة زمان الحكم لم تبرأ ذمة العامل و يلزمه امتثال الأمر.

ثانيا: فحال الأمارة الشرعية كحال الجهل المركب في عدم إجزاء ما يعمله بخيال أنه هو المأمور به غير أن الفرق بينهما هو الرخصة من قبل الأمر في تطبيق العمل عليها و عدم الرخصة و تظهر الثمرة في سقوط الأمر بعد الوقت لو قلنا به فلو قال لك الآمر ابتع لي شهد اليمن في هذا الشهر أو مطلقا فإن جهلت طريقها فاسلك طريق الحجاز فإنه يوصلك فإن سلكه المأمور و لم يوصله الطريق ثمّ انكشف له طريق أخر متيقن الإيصال لم يرتفع الأمر جزما و للآمر أن يعاقب على الترك و توهم البدلية و سقوط التكليف به مدفوعا بأن لسان الإمارة أن هذا هو الواقع ما دمت جاهلا من باب التسهيل لا دائما لخلو الدوام عن الدليل. نعم لا ننكر أن امتثال سلوك الإمارة المخصوصة مشتمل على مصلحة لم تصل إليها عقولنا فلا مانع من ترتب الثواب عليها بإجماعهم على نقض الآثار في الموضوعات فإن المزوجة بثبوت موت الزوج الغائب المأذون شرعا في نكاحها و قسمة أمواله و قضاء الولي ما فاته من الصلاة فلو تبين الخلاف انتقض كل ذلك بلا إشكال. و التفصيل محتاج إلى الدليل. و كيف كان فالقول باشتمال مؤدى الامارة على مصلحة تساوق مصلحة الواقع أو تفوق عليها في غاية الصعوبة لعوده إلى زوال مصلحة الواقع أو إلى اجتماع المصلحتين و الأخذ بالأرجح منهما و هما كما ترى فلا محيص عن القول بأن المصلحة قائمة بسلوك الإمارة لغلبة الإيصال لا في مؤداها، و إنها في الطلب لا في المطلوب و إن الإمارة لم تحدث مصلحة في الفعل في قبال مصلحة الواقع، و لا يظهر من مدلول آية النبأ و هو وجوب العمل بما تضمنته العلية، و إن قلنا بتبعية الأحكام للمصالح الكامنة النفس الأمرية لكون المولى لما لاحظ غلبة الإيصال في الإمارة و لاحظ عدم التمكن من العلم الوجداني بالنسبة إلى واقع الحكم أمر بسلوك الإمارة للتسهيل و البناء على أنه هو الواقع من مؤداها و إن تخلف أو كان المتخلف مبغوضا له، و أين هذا من إحداث الإمارة مصلحة في الفعل؟ نعم لا بد من اشتمال الإمارة على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من الواقع إذا

ص: 26

استند العمل بها إلى الشارع حال الانفتاح و إلا كان تفويتا للواقع- و هو قبيح- و من هنا ذهب بعضهم إلى الإجزاء في الحكم الظاهري بل أسنده إلى الأصحاب، و ببالي أن صاحب هداية المسترشدين- و إن كنا لا نرتضيه- لأن فوات مصلحة الواقع بعد الوقت مستند إلى الشارع بلا جبران و قبله إلى المكلف لا يرد على الشارع من عدم الجبران شي ء.

تنبيه: بناء على المختار في عدم الإجزاء في الظاهري الشرعي إنه لو دل دليل على الإجزاء و الوقت باق في مؤدى الإمارة قضى ذلك بأن مؤدى الإمارة هو الحكم الواقعي و إن الشرط الذي فات كان شرطا علميا و هو غير عزيز في الشرعيات، فلا يجب التدارك و يشكل على القول بالإجزاء إذا دل على الإعادة دليل فإنه يقضي بعدم جواز الرخصة في العمل على طبق الإمارة مثلا إذا أجاز الصلاة الآمر لمستصحب الطهارة مع قيام الدليل على الإعادة و لو تبين الخلاف فحينئذ أي ثمرة في نصب هذا الطريق للآمر فلا بد للقائل بالإجزاء في الأخذ بالأمارات أن يمنع الأخذ بمثل هذه الإمارة التي توجب الإعادة في انكشاف الخلاف- و هو باطل- أو يقول بأن الإعادة تكليف أخر و أنه من باب تعدد التكليف و لا قائل به أو يرى بقاء الأمر الأولى و هو كاف في الإعادة فهو المطلوب أو لا يرى جواز الأخذ بخصوص الإمارة التي ينكشف فيها الخلاف فنطالبه بالفرق بينها و بين ما سواها من الإمارات بعد اتحاد المناط بل القول بالإجزاء مع القول بالإعادة لا يمكن اجتماعهما و بينهما مضادة و مناقضة لأن العمل على طبق الإمارة إما لغوا و مفوت لمصلحة الواقع مع التمكن منه حتى على مذهب الأشاعرة لخلو مقتضاها عن الأمر، أو أنه لغو و لا كذلك على ما اخترناه لأن الأمر بالعمل على طبقها من باب التسهيل فلو تبدل الأمر بانكشاف الخلاف أعاد ما أوقعه في الوقت هذا على تقدير عدم الانسداد و على تقدير وجوده فالقول بعدم الإجزاء فيه بطريق أولى فإن المكلف لما عسر عليه الواقع و اختفى من غير تقصير جعل الآمر له طريقا يتدارك به ما رتبه على الأمر الواقعي من الآثار ثوابا و غيره من باب التفضل و الامتنان فلو انكشف الخطأ أعاد و حصل الرضا بالامتثالين و إلا اجتزأ بما فعل هذا في الإعادة، و أما القضاء فهو تابع لدليله و الاجزاء و عدمه يدور مدار صدق الفوت و عدمه فإن قيل أنه يصدق بمجرد الترك و عدم إيجاده في الخارج أو وجوده فالقضاء كالإعادة من غير فرق و إن قيل أن تدارك المصلحة حصل بخروج وقت العمل و سقط التكليف من المكلف و القضاء بعد سقوطه يحتاج إلى الدليل و خلاصته أن المكلف إما أن يكون بالعمل على طبق الإمارة صار حاله حال المتيمم بعد خروج وقت العمل فلا قضاء و إن كان كالتارك للفعل أصلا بعد الانكشاف فالقضاء لازم كالإعادة فيلزم ملاحظة أدلة القضاء فاتضح إلى هنا بأن الحكم إما واقعي اختياري و لا إعادة فيه أصلا و إما اضطراري لا يمنع العقل من صدور الأمر بإعادته فيه و لكنه غير واقع و إما ظاهري غير شرعي بأن عمل على طبقه جهلا مركبا فلا يعقل الإجزاء فيه أن نخيله بعضهم حيث اشتبه عليه حكم العقل بالإطاعة و حسب تحققها في مقام تخيل الأمر و نحن لا ننكر حسن عمل العامل باعتقاد الأمر و ذمه لو اعتقد الحرمة و ظهر الخلاف فيهما إلا أن ذلك لا دخل له بمسألة الإجزاء و الاكتفاء بما صنع فإن سقوط التكليف تابع لحصول المكلف به في الخارج لا لحسن عمل العامل فلم يبق من الأقسام للحكم إلا الظاهري الشرعي الذي قضت به الأمارة و هو من الممكن فيه الإعادة و قد وقع أيضا ذلك في الشرع إنما الإشكال في بعض ما اجتزئ به الشارع في كثير من المقامات في الظاهري العقلي و إن انكشف الخلاف كحكمه بصحة صلاة الناسي لبعض الأجزاء و الشرائط و وجهه جماعة بالمسامحة

ص: 27

و اللطف و الامتنان و سقوط الأمر بغير المأمور به لطفا و كرما (و شيخنا) في مجلس المذاكرة احتمل خروج هذه الفروع عن مسألتنا قال: إن المكلفين على ضربين ناس و ملتفت لا بأس بالقول بأن هذا الفعل على هذه الكيفية مراد للآمر و إن نقص منه ما نقص و تتدارك مصلحة الواقع بالإرادة من خصوص هذا النوع و لو لا قصوره لتوجه الأمر إليه فالفعل و إن خلى عن الأمر لقصور في المأمور لكنه لم يخل عن المحبوبية. و فيه أن الصحة موقوفة على الأمر و هو كاشف عن المحبوبية فلا معنى لاجزاء غير المأمور به عن المأمور به اللهم إلا أن يكون الاجتزاء دليل على الإرادة و فيه تأمل، و الحاصل لا ينكر أن الشارع اجتزأ بما فقد بعض الأجزاء و الشرائط نسيانا بحمل الشرائط فيها على العلمية و يكون الناسي بالخصوص حكمه ذلك فهو واقعي ثانوي في حقه لقصوره و الأكثر حكموا بندبة صلاة المميز مع خلوها عن الأمر فما هو إلا لجهة المحبوبية المجامعة لنية القربة و يتفرع على ذلك أن المكلف لو اعتقد أن المراد منه صلاة بلا سورة و تركها لا يعاقب على ترك الصلاتين لخلوهما عن الأمر و المحبوبية من دون أمر لا يوجب تركها العقاب و إن حسن الذم إلا على القول بعقاب المتجرئ و القادم على المعصية و أما التارك الجاهل بالحكم جهلا مركبا بأن يعتقد أن حكمة ذلك ففي جريان ما ذكرنا فيه به نوع غموض لعدم إمكان أن يقال بأن ذلك شرط علمي فإن جاهل القصر و الإتمام و الجهر و الإخفات إنما جهل حكمه لا شرط الواجب أو جزئه فالاجتزاء بالصلاة التامة في موضع القصر مشكل جدا، فإما أن قلنا بمحبوبيتها و إنها مشتملة على مصلحة ملزمة لا بد أن نعترف بالتصويب الممنوع عند الإمامية (رحمه الله) فإنهم ذكروا أن الجهل و العلم لا يغير واقعي الحكم و لو كان مناط الأحكام هو العلم للزم التصويب لأن الجاهل غير مخطئ فيشكل علينا حينئذ حكم الجد الأكبر بكشفه فإنه بعد أن اختار إمكان الأمر على تقدير و حكم بالصحة كما سبق قال: (و هو أقوى الوجوه في حكم جاهل القصر و الإتمام و الجهر و الإخفات) انتهى. فإن فيه مضافا إلى ما سبق أن العلماء قد استثنوا من عدم معذورية الجاهل خصوص هذين الحكمين إذا انكشف الخلاف في الوقت و لولاه لم يتم ما ذكره من مبنى الصحة لأن قول الآمر (إذا عصيتني في كذا فافعل كذا) إن كان في الوقت فهو لغو إذ للمكلف أن يرفع عصيانه بالإتيان به ثانيا مع عدم المزاحم، و لا يسوغ للآمر مع كون زمان التكليف باق أن يقول: أني اجتزأت بذلك و إن تحقق منك عصياني لأن في ذلك حمل العبد على العقوق و العصيان بلا داع و لا سبب، و أما بعد خروج الوقت و ارتفاع الأمر فيمكن أن يكون له وجه لكن القضاء يتبع دليله، فعسى أن تكون هذه الصلاة كصلاة العيد لا قضاء لها. و الحاصل أن الاجماع إن تم على الأجزاء مع بقاء الوقت فهو المتبع و إلا فالقاعدة تقتضي عدم الاجزاء و تكرار العمل و لا ينفع تخريج جدنا (رحمه الله) لذلك بما ذكر لأن ذلك التخريج في خصوص الواجبين الذي تضيف أحدهما ربما يكون له وجه فيقال أن الموسع لم يخل عن الأمر و أما في مثل المقام فلا. نعم يمكن أن يجري ما ذكر فيمن صلى تماما في آخر الوقت في السفر إن أمكن أن تكون تلك الصلاة مأمورا بها فان المتجه خلوها عن الأمر حال السفر من حيث تعدد التكليف و انقسام نوع المكلف و محض الاجتزاء لا يورث الأمر بها إلا لزوم الحرج الذي لم نتحقق موضوعه فالحق الذهاب إلى عدم الأجزاء بتكلف لاحتمال سقوط التكليف عن المأمور به و الاجتزاء عنه بغيره كما في بعض التوصليات و مما ذكرناه مفصلا تعرف سقوط ما تمسك به البعض للأجزاء مطلقا أو في بعض الموارد بالبراءة مع أن العمومات القاضية

ص: 28

بالتكليف حاكمة عليها و إن كان الدليل لبّيّا كالإجماع و غيره لعدم تعقل الشك فيه و مثلها الاستصحاب لتبدل الموضوع إذ المتذكر غير الناسي و إلا لجرى في حق النائم أيضا، و كذا ما قيل من لشمول العمومات و الأدلة القاضية بالتكليف لهذا المكلف جزما و بعد الإحاطة بما حررنا تقرر على تخريج ما يرد عليك من الأمثلة المتعلقة بالمقام مثل خلافهم أن المجتهد في القبلة هل يجب عليه الإعادة إذا ظهر الخطأ أم لا؟ و مثل ترتب الآثار على فتوى المجتهد و إن عدل و غير ذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم

و به نستعين

يقول من لا يتبرأ من العيوب و قد أقعدته الخطايا و الذنوب عن النهوض إلى الكمال و اجتناء محاسن الخصال العباس بن الحسن بن جعفر الغروي كاشف الغطاء سألني من أوده أن أرسم بعض الفوائد في مباحث التقليد بما ينتفع به العالم و العامي لاضطراب الأمر في سنته الثالثة عشر بعد الثلاثمائة، و كثرة المدعين ممن لا يبالي في الدين و لا يجتهد فيما يعنيه و كأنه ممن يتبع قول أمه و أبيه فأجبت مسألته و استخرت الله و رسمت ما أدين الله تعالى به و أسأل من وقف عليه الدعاء و الترحم للمشايخ المرحومين من آل شيخ جعفر (قدس الله أرواحهم).

الفائدة السابعة: التقليد

العمل بما وراء العلم حرام بالعقل و النقل و التقليد نوع منه فيحتاج في جوازه مطلقا أو في الجملة إلى قاطع يقضي به قال ابن زهرة في غنيته: (لا يجوز للمستفتى تقليد المفتي لأن التقليد قبيح و لأن الطائفة مجمعة على أنه لا يجوز العمل إلا بعلم و ليس لأحد أن يقول أن قيام الدليل و هو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي و العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه تؤمنه من الإقدام على القبيح و يقتضي استناد عمله إلى العلم لأنا لا نسلم إجماعهم على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه كيف و هو موضع خلاف) انتهى. و تبعه غير واحد من الخاصة و العامة و نسبه في الذكرى إلى القميين و هو صريح كلام بعض الإخباريين أو جلهم و المشهور بين أصحابنا وجوبه على من لا يتمكن من الوصول إلى أحكام الله سبحانه و لو بالاجتهاد حتى كأنه صار من الضروريات التي لا تحتاج إلى الدليل غير أنهم اختلفوا في تأخير رتبته عن الاحتياط للمتمكن منه أو تقديمها عليه أو التخيير بينهما للمتمكن منهما. و منشأ الاختلاف أن التقليد متمحض للطريقية فيساوي باقي الطرق أو فيه شائبة التعبدية و ليس هو في عرض الطرق التي ينكشف بها الواقع و إلى إن الاحتياط يورث العلم و لو إجمالا و لكل وجه، ثمّ أن الاستدلال قد وقع على شرعيته بالأدلة الأربعة من الإجماع المحصل فضلا عن المنقول ففي" العدة" ذهب إلى جوازه البصريون و الفقهاء بأسرهم، و في" المبادئ" جوزه الإمامية، و في" المنية" المحققون على الجواز، و في" المعالم" عليه الأكثر و من الكتاب مثل آيتي النفر و السؤال، و من السنة منطوقا خبر أبان و عمر بن حنظلة و صحيحه أبي خديجة، و خبر" البحار" قال" عليه السلام" (

و لقول العلماء فأتبعوا

) و خبر" الاحتجاج"، و مفهوما كخبري ابن شبرمة و الغوالي، و خبري أبي عبيدة" و الكافي" عن عبد الله بن الحجاج و مضمون الجميع حرمة الإفتاء بغير علم.

و أما العقل فقرره الشريف المتأخر الشيرازي أن العامي لا عبرة بالأخذ برأيه في الأحكام الشرعية التي كلف بها لعدم وصوله قطعا و وجود ما هو أقرب منه فينحصر الأمر

ص: 29

بين سقوط التكليف عنه أو الأخذ ممن يظن في حقه الوصول، و السقوط لا قائل به إلا في البهائم في الأول فيتعين الأخذ من المجتهد. و المعتمد من بينها الإجماع لأن ظهور الأمر بالسؤال في آيته إنما هو لرفع الجهل لا للعمل فهي تفيد حكما إرشاديا و بانصراف الآية إلى سؤال العالم مطلقا فلا تشمل المعتمد على الظن مطلقا و على بعضه كالمجتهد و من عدم شمول آيه الإنذار للإنذار الظني إذ لو لم يكن المنذر عالما بإنذاره كيف يجوز له الإنذار الموجب للحذر؟ فلو سلمنا أن الآية تدل على حذر السامع مطلقا و لو جهل صدق المنذر فما كانت لتدل على إنذار من لم يحرز العلم الشرعي من مقدماته العلمية فينحصر قبول الإنذار ممن يعلم و لا تشمل المظنونات و لا مسرح لعدم القول بالفصل، و نص المفسرون على أن النفر الواجب هو ما كان للجهاد بقرينة قوله تعالى: [وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً] لكن النفر للتفقه جهاد في الدين أيضا فهما بحكم واحد. و الحاصل أنها غير صريحة على المدعي.

و أما الأخبار فهي معارضة لما دل على حرمة العمل بغير علم و لا يبعد رجحانها عليها ثمّ غاية ما تفيد لزوم بلوغ الحق إلى الجاهل لينقلب جهله علما. و إما أنها تفيد حكما ثانويا و هو وجوب عمل الجاهل بما علمه من قولهم فلا، بل يحتاج ذلك إلى مقدمة خارجية عن النصوص المزبورة و لأجله لم يعتمد جماعة من محققي أصحابنا كصاحب المعالم و غيره في جواز التقليد إلا على الإجماع و الضرورة.

و أما العقل فأقصى ما يدل من رفع الضرر و العلم الإجمالي بوجود التكاليف هو الأخذ بالأقرب إلى الواقع، و هو لا ينحصر بالمجتهد المصطلح بل يعمه و المتجزئ بل كل من يعلم الحكم الشرعي و يظن القرب فيه: و الحق أن الاجتهاد و التقليد طريقان منصوبان من الشارع للجاهل بالحكم الواقعي و النصب على ما يظهر من المشهور منحصرا فيهما للمكلف و وجوبها من باب المقدمة المأمور بها بالخصوص فهما من الظنون المعتبرة عند الشارع. نعم لو حصل الواقع سقط الأمر بهما فسقط قول من يرى التخيير بينهما و الاحتياط للمتمكن من الجميع لعدم كفاية التخيير العقلي فإنه لا يخص طريقا بعينه و لعدم تحقق الشرعي منه بل العدول منهما إليه فيه إشكال و إن أجزأ لو صادف به الواقع لكونهما فيهما شائبة التعبدية، و عليه فيجتزئ المكلف بإيقاع العمل على طبق أحدهما و إن تفطن له بعد إيقاعه في الخارج فيكون من قبيل الإجازة في فضولي العقد و لا تجب على العامل الإعادة، و يتفرع عليه صحة الاقتداء بغير المقلد و المجتهد الذي يوافق عمله رأي أحد المجتهدين الأحياء و إن كان من الإخبارية بشرط العدالة و في الأخبار إيماء لذلك كما ورد في براء لما استنجى بالماء من حسن عمله حتى نزل به قرآنا [إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] و لا فرق بين العبادة و غيرها من العقود و الإيقاعات فلا وقع لما يتخيل من عدم صحة العمل الماضي و إن حصلت المطابقة مطلقا أو في خصوص المعاملات أو في بعضها لعدم ما يصح أن يستدل به على ذلك. نعم يلزم في العبادة عدم التردد في نية القربة و لا يجزى على الظاهر التصرف فيما يرجع أمره إلى الإمام أو نائبه العام و إن وافق الصرف ما يراه فيه فلا يجزي إعطاء حق الإمام للسادة و إن كان المجتهد يرى صرفه فيهم علم المعطى بذلك أم لا لحرمة التصرف بمال الغير بغير إذنه و لا تنفع فيه نفس الموافقة و في إجازته للصرف كذلك إشكال و براءة ذمة الدافع أقرب لكن مع ذلك كله فقد حكم أكثر المتقدمين و شرذمة من المتأخرين بفساد عبادة الجاهل و إن طابق الواقع حتى ترقى بعضهم فحكم أن الاجتهاد و التقليد من إجزاء المأمور به أو شرائطه و أطلق الكثير أن الجاهل بالحكم الشرعي غير معذور و حجتهم على ذلك أمور:

ص: 30

أولها: الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة بين من تقدم حكاه في" السرائر" و" الرياض" و الكاظمي في محصوله، و صريحهم بطلان عبادة تارك الطريقين و إن صادف الواقع.

ثانيها: الأصل القاضي بشغل الذمة إلا بأحد الطريقين، و أما غيرها فلا دليل على الصحة فيه لا أقل من الشك و الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ثالثها: توقف العمل على العلم أو ما يقوم مقامه، و مع الجهل يفسد العمل لعدم إحراز شرطه. و معلوم أن ظنون المجتهد صارت بالإمضاء بمنزلة معلوماته.

رابعها: اعتبار نية الوجه أو القصد إلى الوجه، و هو لا يحرز إلا بمعلومية الوجوب عند المقلد، و لا يعلم إلا بالأخذ من المجتهد الذي أوجب المعصوم الأخذ بقوله و لذلك حكم الفاضل بوجوب استعلام الوجه بالاجتهاد أو التقليد، و نوقش فيها بأن شهرة المتقدمين و إجماعهم ما لم يصححه المتأخرون لا يفيد شيئا. ثمّ إن المسألة عقلية لا مسرح للإجماع فيها و بأن شغل الذمة و الشرطية مع حصول الإطاعة العرفية لا يفيدان الفائدة و على أن غايته أن الرجوع إلى الطريقين يورث صحة العمل، أما أن العمل بدونهما فاسد مطلقا فما كانا ليفيدان ذلك. و أما اعتبار نية الوجه فلا ملازمة بينها و بين حصول العبادة على أحد الطريقين فلو سمع العامي و جزم من غير المجتهد بأن هذا العمل مشترط بالنية ثمّ أداه على وجهه كفى. نعم اعتبار نية الوجه لا تجامع الاحتياط فلا بد من قيام الدليل على عدم اعتبارها.

و ملخصه: أن الشك إن أعاد إلى شرطيتها في الفعل المأمور به و عدمه لا شك أن الأصل عدم الشرطية، و هو من مجاري أصل البراءة و إن رجع الشك في اعتبار الرجوع إلى المجتهد أو اعتبار الوجه أو قصده إلى طريق الإطاعة لا مجرى بعد البراءة، و لا يفيد العمومات في صحة المأتي به فإن الشارع لو أمر بمركب خارجي كالصلاة و نحوها بمثل" أقيموا الصلاة" ثمّ عرض الشك فيما يقيد المادة القاضية بإطلاق الأمر فحينئذ يمكن التمسك بإطلاقه لرفع ذلك المقيد كسائر الأجزاء و الشرائط التي يشك فيها فإن باعتبارها قصر لذلك المطلق على بعض أفراده، و أما لو حصل الشك بأمر خارج عن ذلك المركب و لا يشمله بإطلاقه يلزم الإتيان به لعدم منافاته لإطلاق المادة و ركن من حرم صلاة الجمعة زمن الغيبة إلى هذا، و هو أن إطلاق الأمر بها لا يشمل صورة الشك في إطاعة هذا الأمر بكونه مشروطا بحال الحضور أم لا. فالشك في طريق الإطاعة و معه لا يجري الأصل فالعلم التفصيلي بالإطاعة و تحققها غير ممكن إلا بإحراز أحد الطريقين، و مرجعه إلى عدم إجزاء العبادة الموافقة للواقع بدون أحدهما و هو المطلوب. و رده أنه ليس للشارع إطاعة خاصة يلزم تحريمها و عند الشك في تحصيلها يؤخذ بالمتيقن. بل و كل الإطاعة تنصرف إلى ما هو المتعارف من إطاعة الموالي لمواليهم و لم يكن لها عنده معنى جديد أو إنه حدها بتحديد، و لا تتوقف شرعا على غير ما توقفت عليه عقلا. و قد سلف منا أن الإطاعة في الواجب التعبدي كمثل الإطاعة في التوصلي من دون فرق. ثمّ أن العقلاء الذين أمضى حكمهم الشارع لا يشكون في حصول الإطاعة إذا أتى العبد بجميع المحتملات التي يتحقق بها أمر المولى و إن لم يرجع فيما تعبد به إلى أحد الطريقين أو أتى بالفعل جازما بالإرادة فصادف الواقع عد مطيعا لكن فيه أن ظاهرهم أنهم فهموا أن الشارع لم يكتف بما عليه العقلاء من الإطاعة بل اعتبر إطاعة خاصة و فهمهم لذلك و هم نقدة الأخبار و لسان الشارع حجة و أي حجة ففي" النهاية" و يجب إيقاع الواجب لوجوبه

ص: 31

و المندوب لندبه أو لوجههما و في" البيان" لو نوى مشغول الذمة بواجب الندب لم يجز و كذا العكس مع أن الشارع اعتبر إطاعة خاصة في بعض الموارد مثل من يتمكن من العلم التفصيلي بل الظن الاطمئناني بالقبلة لا يجوز له الصلاة إلى سائر المحتملات التي يعلم إجمالا بوجود القبلة فيها و في تمكن من سؤال المعصوم أيضا لا يسوغ له الإتيان بمحتملات يقطع بحصول إدراك الواقع في جملتها و يترك السؤال و يمكن الذب عنه بأن فهمهم لا يعارض الدليل العقلي و يحتمل أن يريدوا بالجاهل هو الذي لا يطابق الواقع عمله أو أن مطلق المطابقة لا تلازم الإطاعة كالنائم و الغافل و لو سقط الأمر معهما فهو ليس للإطاعة بل لارتفاع الموضوع و قد تقدم مساواة الواجبات مطلقا في تحقق الإطاعة و لعل المثالين من هذا القبيل و العقلاء كالشارع فيهما و لو أبيت المساواة قصرنا لزوم الإطاعة الخاصة على موردها لا مطلقا لعدم النص الوافي على إرادة الإطلاق و لا يفيد فيها لعل و عسى فينفى اعتبار الزائد على الإطاعة التي تعتبرها العقلاء بالأصل لإحراز القدر المتيقن منها لكن مع ذلك ففي النفس منه شي ء و لا يبعد أن المقام من مجاري قاعدة الاشتغال و كيف كان فالظاهر عدم اعتبار قصد الوجه في العبادة و عليه فلو نوى المكلف الوجوب في المندوب أو العكس صح في حال الجهل لتحقق إتيان الفعل من حيث أنه مطلوب و محبوب و ذلك كاف في الصحة، و مثله ما لو نوى الندب عند الشك في دخول الوقت أو الوجوب حالة الشك في خروجه لأجل الاستصحاب فبان الخلاف صح لظاهري الأمر خلافا للفاضل، فإنه أوجب الإعادة مع التمكن من تحصيل الظن حتى في المستصحب لإطلاق فتواه و لم يكتف بالصحة في المظنون مع المتمكن من العلم لو ظهر الخطأ في الظن و الثاني حسن و الأول مشكل. و أقصى ما يتحمل له أن العمل بالاستصحاب لا ينافي الإعادة من حيث إمكان الفحص كما في مستصحب الليل و هو صائم هذا مع الجهل.

أما لو تعمد الخلاف فقد أطلق المحقق (رحمه الله) أن الإخلال بنيته لا يؤثر في فساد الوضوء و حملوه على الجاهل أما لو تعمد نية الوجوب فبان أن المنوي واجبا فوجهان و الأقرب الصحة و في" الذكرى" أن قصد الخلاف عمدا صحيح بناء على عدم اعتبار نية الوجه فكأنه ينفي حرمة التجري أو أن النهي عنه لا يقضي بفساد العبادة- و هو مشكل- لو دخل بالتشريع، و منه يظهر صحة المعاملة المطابقة للواقع حتى مع تعمد ترك الأخذ من المجتهد و لم أعثر على مخالف في ذلك. و الحاصل: أن الفساد فرع إثبات شرطية الأخذ من المجتهد مطلقا أو في العبادات في صحة العمل و الشرطية كذلك لا دليل على اعتبارها جزما.

الفائدة الثامنة (الموافقة للاحتياط العبادة):

حكم غير واحد بصحة العبادة الموافقة للاحتياط بل يظهر من كثير التخيير بينه و بين الطريقين و في الدرة و ليس بين المسلكين واسطة يسلكها السالك إلا الحائطة و هذا الحكم في غاية الإشكال على إطلاقه، بل الأحرى فيه أن يقال أن الأخذ به مشروط بعدم التمكن من الاجتهاد أو التقليد و كونه عن مستند شرعي في حق المجتهد و المقلد و المستند إن كان مما يتساويان فيه كالإجماع أو العقل فعملهما عليه على السواء و إلا تعين على العامي تقليد المجتهد في أصل جوازه و في تشخيص موارده حتى لو كان عارفا لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد إذ الأخذ بالاحتياط من الفروع التي يلزم فيها التقليد و ليست هي كأصول الدين.

ص: 32

نعم إن قطع المقلد بالحكم و لو بسبب الاحتياط أو علم أنه من موارده بعد الرخصة في أصله صح عمله و يندرج فيمن أدى الواجب بغير طريق شرعي فوافق الواقع، و لا يرد بأن الاحتياط من المسائل الأصولية لأنه من مباني الأحكام التي ينتفع بها المجتهد فقط فهو كالبراءة فإنا ننكر أنه من مسائل الأصول أولا و كلية عدم جواز التقليد في جميع مسائل الأصول ممنوع ثانيا فإن كثيرا من المسائل له جنبتان كمسألة تداخل الأسباب بل البراءة في وجه. و بالجملة هو كسائر المسائل تعرضه الأحكام الخمسة و لا يجوز العمل عليه إلا بعد استفراغ الوسع من المجتهد في جوازه فمن جعله واسطة أن جوز العمل به مطلقا و لو عن غير مستند فهو ممنوع و إن كان عنه فهو رجوع إلى الطريقين و عن شروط العمل به أن يميز العامل مع التمكن ما يؤديه مما وجب عليه سواء في ذلك الأجزاء و الشرائط أو الفعل المردد بين أفعال خلافا لبعضهم فخصه بالصورة الأولى، و وجهه أن التعبد بالمأتي به لتحصيل الفراغ إنما يصح مع العجز عن تحصيل الواقع مطلقا كالصلاة في المشتبهين أو إلى الجوانب الأربع و مع إمكان تمييز الظاهر و الجهة لا يصح يقينا لاحتمال المخالفة القطعية.

الفائدة التاسعة: حكم الجاهل بالموضوع

اشارة

حكم الجاهل بالموضوع كحكم الجاهل بالحكم إذا تفرع الجهل بالموضوع عن الجهل بالحكم كالتصرف بالعوض أو المعوض باعتقاد الملكية لأحدهما فانكشف الخلاف إما بالطريق المقرر أو بغيره، أما لو جهل الطريق المقرر كمن قامت عنده البينة على نجاسة ثوبه فصلى لجهله بأن ذلك يثبت النجاسة فصلى فيه و انكشف الخلاف، قرب الوالد في أنواره الصحة لعدم تكليفه غافلا و مصادفة العمل الواقع بل لو كان الانكشاف على مؤدى الطريق فإنه كانكشاف الواقع و لا إعادة و لا قضاء عليه كذلك إذا لم يطابق عمله الطريق في قول الوالد خلافا لشيخنا فإن الوالد كأبيه فصلوا بين انكشاف الخطأ مطلقا في صحة الآثار السابقة بين ما كان المنكشف خلاف الواقع أو خلاف الطريق و خصوا النقض بالسابق و مثله تبدل رأي المجتهد و له وجه، و أما إذا لم يتفرع الجهل بالموضوع عن الجهل بالحكم فالمكلف حال الغفلة لا تكليف عليه و لا إثم و لكن ذلك لا يثمر في ترتب الحكم الوضعي على العمل من الصحة أو الفساد إلا إذا كان الفساد مرتبا على التحريم مثل الصلاة في الثوب أو المكان المغصوبين دون لبس ما لا يؤكل لحمه في الصلاة جهلا، و أما في حال عدم الغفلة كأن يكون مرددا في الموضوع فإن أمكنه تحصيل الواقع و لو بالاحتياط لزمه ذلك و إلا أخذ بالطريق المقرر شرعا في تشخيص الموضوع و متى لم يصادف الواقع بعد الانكشاف فإن كان عدم الموضوع شرطا واقعيا للعبادة لا تصح مطلقا كالصلاة في جلد غير المأكول اللحم و إن تفرع الفساد على التحريم كالغصب حكم بالصحة فيها. و لو ترك الأخذ بالطريق عمدا فصادف العمل الواقع فإن كان من المعاملات لحقه حكمه الوضعي و هو الصحة و إن كان عبادة و لم يتردد فيه بنية القربة فوجهان الصحة في كونه جاء بالعمل على طبق الواقع و إن خالف الشرعي في تشخيص الطريق و الفساد لنهيه عن الأخذ بغير الطريق و الأقرب الصحة للأمر بالواقع لا بمؤدى الطريق.

تنبيه: عدم عقاب الجاهل القاصر:

لا شبهة في عدم عقاب الجاهل القاصر و إن لم يصادف عمله الواقع، و العقل قاض به، و أما القاصر التارك للفحص و الاستعلام مع الالتفات إليه فلا يعاقب أيضا على إيقاع

ص: 33

معاملة لم يترتب عليها أثرا شرعيا. و أما لو رتب فلا قبح في عقابه عقلا و إن صادف الواقع لأمره بالرجوع إلى الطريق المقرر شرعا- و قد خالف- و أما لو رتب آثار عقد لا يعلم صحته من فساده أو قامت بينة على فساد عقده شرعا أو شخصت له موضوعا فرتب الآثار على خلاف ما قامت عليه البينة فاتفق صحة العقد عند مجتهد الوقت و اشتباه الشهود في الموضوع، و الظاهر أن تجويز العقل لا يورث الجزم بالعقاب شرعا و إن رجحه الأستاذ الشريف نظرا إلى أن الطرق الشرعية كالواقع فالمخالفة فيهما سواء و لو فيما لا يشترط فيه النية و هو كما ترى لأن ما يستحسنه العقل لا يجب أن يحكم به الشرع إلا إذا وصل إلى حد الإيجاب و لا موجب للعقاب في التخلف عن الطريق إلا على القول بحرمة التجري أو أن الرجوع إلى المجتهد من شرائط العمل و كلاهما ممنوعان. و أما العبادة فلا يعذر الجاهل في ترك الاستعلام عنها مع إمكانه و يعاقب قطعا على الترك لحكم العقل بالواحدة و للنصوص القاضية به إلى حد الاستفاضة، و يكفي فيه حسنة الكناسى و الصحيحة في المتزوجة في العدة و أوامر الإطاعة و غير ذلك كما لا يخفى.

تنبيه: العاجز عن معرفة الأحكام:

حكم أكثر الفقهاء بأن العاجز عن معرفة الحكم مطلقا يجب عليه أن يأتي بما يقطع أو يظن بأنه الحكم من سائر المحتملات و إلا رجع إلى الأعلم من الأموات و يظهر من الفصول بأن حكم العاجز الاحتياط، و لا يجوز مع إمكانه الرجوع إلى الأموات و إن اشتملت المحتملات على مظنون الحرمة و مظنون الوجوب أو مقطوعهما و مظنونه ما لم يؤثر فعل أحدهما الفساد كما لو احتمل صحة الوضوء بمضاف الماء أو مغصوبة أو نجسه عند العجز عن تحصيل مطلقه أو جواز التيمم بالمعادن المحظور بها ذلك عند فقد التراب فتيمم و توضأ؟ في الأول و تيمم في الثاني و أعاد لاحتمال أنه فاقد للطهورين بناء على وجوب التدارك، و هكذا فمرجع قوله إلى تقديم العمل بالاحتياط على الأخذ بقول الأموات عند العجز فإن ظهر الخلاف جرى فيه ما مر من الإعادة و القضاء و عدمهما أو الأخير. و ربما يظهر في بعض كلماته أن الاحتياط من الأحكام الواقعية فإن أعياه الاحتياط عمل بظنه و قطعه، و مال بعض المحققين إلى التخيير بين الأخذ بقول الأموات أو الاحتياط.

أقول أما على قول المشهور لا يصح العمل بقول الأموات مطلقا لأنه في أي حال يمكنه العمل على طبق الأصول المقدم عندهم على الأخذ بقول الأموات، و أما على باقي الاحتمالات فالعمل بكل منها موقوف على دليل يدل عليه لعدم تحقق الإلزام بشي ء بلا قاطع فإن العمل بالظن محرم إلا ما استثنى و ليس من المستثنى ما نحن فيه، و انسداد باب العلم يوجب العمل بالظن في الجملة لا مطلقا، و كذا التخيير فإنه حكم شرعي محتاج إلى الدليل، و لعله مقصور على ما تعارض فيه النصان، و دعوى أن التخيير عقلي في مقامنا لثبوت التكليف في الجملة و عدم معلومية المكلف به فيلزم إما التخيير أو الترجيح من دون مرجح موهونة بأن المبتلى به إما أن يرجع إلى الشك في التكليف فهو من مجاري البراءة و إن علم أن هناك تكليف لكنه لم يعلم تنجز الخطاب به عليه بل لو علم أن لله تعالى في هذه الواقعة حكما إلا أنه لم يعلم أنه حكم حتى في حال عجزه عن تحصيله فلا دليل على لزوم إتيانه بكل محتمل"

و ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم

" فإن مفاده أنه لو ارتفع تكليفه عن الحكم المعين ارتفع أصل التكليف لأنه فصله و الكلي ينتفي بانتفاء فصله و تحققه في ضمن فصل آخر و هو التخيير محتاج إلى الدليل، نعم لا يبعد القول بالتخيير فيما لو علم التكليف و جهل

ص: 34

المكلف به مثل ما لو علم بوجوب الساتر في الصلاة المرادة ثمّ أعوزه المباح منه فدار أمره بين الستر بالحرير و نحوه أو أن يصلي عريانا أو أعوز الكافور في التغسيل و تردد في بدلية القراح عنه أو التيمم تخير أيضا إذ لا بدية فعل أحدهما تقضي به و ذلك مفاد الناس في سعة ما لم يعلموا إذ السعة لا تتحقق بغير التخيير لكن ذلك إذا لم يترجح أحد الأمرين بمرجح و لو بموافقة أحد الأصول فإن الذي لا يقطع بضرر الماء لو شك بينه و بين التيمم عند عروض داء توضأ قطعا هذا في حكم العاجز قطعا مطلقا أما لو دخل غير العاجز بعمل لا يجوز له قطعه كالصلاة مثلا مع التمكن من الاستعلام ثمّ عرض له شك في أثنائه فهل يجوز له قطعه أم لا؟ الظاهر لا فإن وافق الواقع مضى و إلا جرى عليه ما سبق و لم أعثر على فتوى لهم في هذا الفرع و الله العالم.

الفائدة العاشرة (عدم جواز تقليد الميت ابتداء):

يكفي في عدم جواز تقليد الميت ابتداء إجماع علماء العصر عليه بحيث لم يظهر منهم مخالف فضلا عن الإجماعات المنقولة و الشهرة المحققة بين السابقين و اللاحقين، و أما البقاء على تقليد الحي الجامع للأوصاف بعد موته فقد اشتهر الخلاف فيه بين علماء عصرنا و من قاربنا عصره و لم نعثر على تحرير لهذه المسألة قبل السيد الصدر و نسب القول به إلى البعض، و جزم به جدنا الأكبر كاشف الغطاء فهو أول من تصدى لها و حكم بوجوب البقاء على التقليد و عدم جواز العدول بالموت و تبعه على ذلك أولاده و أحفاده و حواشيه و حواشيهم و من قرأ عليه و عليهم، منهم السيد العاملي صاحب مفتاح الكرامة، و الشيخ قاسم العاملي محي الدين، و الفاضل التستري صاحب المقابيس و الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين، و غيرهم من تلامذته. و أوجب العدول جماعة منهم شيخنا المرتضى تحريرا و تقريرا و تلامذته كالسيدين الكوكمري و الشيرازي و حبيب الله الرشتي و غيرهم من فحول من قرأ عليه. و خير بين العدول و البقاء جماعة منهم سيد المفاتيح و صاحب الفصول و شيخنا صاحب الجواهر و تبعه أساطين تلامذته و المسألة عامة البلوى في غاية الإشكال لعدم النص و لا مسرح للعقل فيها و لعدم تحقق الإجماع على أحد الحكمين و الكتاب ساكت من ذلك فلا بأس بالتعرض لها و يظهر من الجد (رحمه الله) الاستدلال لذلك بأمور:

أولها: أن الأخذ بقول المجتهد و الالتزام به في أحكام الله سبحانه لا شك بأنه خلاف الأصل لأنه عمل بما وراء العلم الممنوع عقلا و نقلا و حيث قضى الدليل في اعتبار مظنوناته في حق غيره شرعا كان من الطرق المنصوبة لعمل الجاهل بأحكام الله تعالى من قبل الشارع ففيه نوع تعبديه كما أنه طريق إلى الواقع يلزم المكلف الأخذ به و الرجوع في الحكم إليه و التدين به و يلزمه أيضا التدين بمظنوناته و لا يخرج أحد عن العهدة بغير ذلك و تبرأ ذمة العامل به لأنه مقتضى وجوب الرجوع إليه فتكون مظنوناته من الأحكام الظاهرية في حقه و حق مقلديه، و يجري فيها ما فصل في الحكم الظاهري الشرعي في أنه يقتضي الاجزاء مع عدم تبين الخلاف أو مطلقا و حينئذ لو رجع العامي للمفتي و عمل على قوله وجوبا كان ذلك الحكم حكما ظاهريا في حق العامي و العالم لا يجوز نقضه إلا إذا ظهر الخلاف، و ظهور الخلاف إما لجهة إدراك الواقع و إما لجهة فساد المبنى فيعدل لظاهري أقوى دليلا مما عمل به، و لا تضر المخالفة القطعية إذا قضى بها الدليل بناء عليه أن المفتي لو مات فرجوع المستفتي عن حكمه الظاهري الذي وجب العمل عليه قبل

ص: 35

الموت إلى ظاهري آخر لا بد له من دليل و مرجح و ليست حياة الثاني من موهنات ما حكم به الأول، كما أن موته لم يورث و هنا في حكمه إذ لم يعلم الواقع مع أيهما، و لم يعلم فساد مقدمات أحد الحكمين و عند التخالف بين الميت و الحي يلزم المستفتي تعمد المخالفة القطعية من حيث وحدة الحكم فهو من قبيل ارتكاب أحد أطراف الشبهة المحصورة، إذ لا ريب أن العقل يمنع من ارتكاب الطرف الآخر للزوم المخالفة القطعية لحكم الله تعالى، أما في السابق أو في اللاحق إذ المفروض تساوي الظاهرين من كل وجه عدا موت المفتي و هو لا يقضي بفساد مبنى ذلك الحكم الظاهري الذي عمل به المقلد. نعم لو كانت الحياة شرطا في لزوم العمل يدور معها الحكم نفيا و إثباتا لتم المدعي و لا قائل بالشرطية كذلك و هذا الكلام يقضي بجواز الأخذ بمظنونات المجتهد و لو بعد موته لنفوذه في حق المقلد، لكن لما قام الإجماع على عدم الجواز في الابتداء أخذنا به و لا نقيس عليه مطلق الموت إذ ليس من لوازم عدم الأخذ بمظنوناته ابتداء سقوط قوله مطلقا و إلا لما قبلت رواياته و أجيزت شهاداته و حكوماته- و إن كانت بعلمه لا بالبينة- ثمّ العدول من حكم ظاهري بعد العمل به إلى ظاهري مثله يورث التخيير الاستمراري في الأحكام الظاهرية المتساوية و لا قائل به من الأحياء بل هو ملعبة إذ لا داع إلى نقضه بلا مرجح من فساد مقدماته أو معلومية أن الواقع بخلافه و الطريق لا يخرج عن طريقته. لا يقال أن هذا الدليل يجري بعينه في التقليد الابتدائي فلم منعته؟ لأنا نقول أنه لو لا الإجماع لقلنا به و لا إجماع في المقام و لا يشمل ذاك ما نحن فيه، و الحكمة في حرمة التقليد الابتدائي هو عدم إحراز مظنونات الميت عند موته غالبا لما شاهدنا من رجوعهم عن الفتوى في كل كتاب بل يتفق ذلك في كتاب واحد و لهذه الحكمة طردوا المقالة فحرموه ابتداء كالعدة للمطلقة أو المتوفى عنها زوجها من جهة اختلاط الأنساب فإن احراز عدم رجوع المفتي إلى حين موته عن مظنوناته مما يعسر على المقلد و يلزمه الفحص لأغلبية الرجوع فيهم و لا كذلك ما نحن فيه على أن الإجماع كاف في التفرقة و ليس عروض الموت للمفتي إلا كالنوم بل هم أحياء عند ربهم يرزقون ثمّ اللازم على القول بوجوب العدول هو الحكم بتزلزل جميع ما استند إلى مظنوناته من أعماله بل إلى مقطوعاته إذا كانت مظنونات بنظر الثاني فيجب على الولي قضاء ما فاته من كل صلاة صلاها بملاقاة ماء قليل لاقى نجاسة أو بإصابة ماء الاستنجاء لثوبه لو بنى على طهارتهما، و الثاني قال بالنجاسة و فسخ كل معاملة وقعت منه، و الثاني لا يرى صحتها كبيع وقف أو أم ولد أو ملك غائب أو صغير و أداء كل مال أنفقه مما ذهب إلى أنه صدقة أو قسمة ميراث على مذهبه كتوريث الزوجة من رقبة الأرض و عدمها و كمسائل الرد المختلف فيها، و العقد الفارسي، و بيع الفضولي، و غير ذلك، و خالفه الثاني و هكذا بناء على ما هو المشهور من نقض الآثار في مسألة تبدل الرأي، و هنا لاتحاد المناط و الالتزام بذلك خارج عن مذاق الفقاهة لأنه حرج في الدين و لم يعهد من أصحابنا ذلك بل نراهم يعاملون المجتهد معاملة الإمام" عليه السلام" في إمضاء أعماله و نفوذ تصرفاته و لا يكلون ذلك إلى مسألة الإجزاء في الأمر الظاهري الشرعي و عدمه و لا يدرجوا ذلك في مسألة الحكومة إذ ليس كلما تصرف فيه مما حكم به ليرتب على عدم جواز نقض الحكم مطلقا بل يظهر من عمل العلماء كفر الراد عليه و ارتداده و إن كان المردود من مظنونات الحي القائل بوجوب العدول فإمضاء تصرفاته في الحي الذي يعلم بمستندها و يخالفه من ذلك و لا يجوز البقاء على تقليده متمانعان، و هما واقعان كثيرا و خروج مثل ذلك بالدليل و إلحاقه بأحكامه يعارض لدليل فما هو إلا لكون الاجتهاد من المناصب العلية و فيه نوع

ص: 36

خصوصية و إنه مأذون من الإمام بالعمل بما يؤديه إليه نظره، و إن حكمه في ذلك. حكمه و إن الموت لا يسقطه عن درجة الاعتبار كما لا يسقط الإمام ذلك فنقض آثار مظنوناته و إبطال العمل بالموت ليس إلا بعيد عن الاعتبار لا تقبله الفطرة السليمة و مناف لجلالة قدره.

ثانيها: الاستصحاب مع عدم المداقة في الموضوع و أصالة عدم طرو المانع. قال الوالد (رحمه الله) و هو المسمى باستصحاب حال الإجماع، و دليل الاستصحاب شامل له، و خلاصته أن ارتفاع حكم وجوب التقليد الثابت في ذمة المكلف بموت المجتهد غير معلوم فيستصحب بقاءه أو بقاء الاعتماد على قول المجتهد حتى يعلم المزيل أو بقاء وجوب السورة وقت الصلاة إلى ما بعد الموت و مثله بقاء الملكية و الزوجية و هكذا في الأحكام مطلقا. و نوقش في الدليلين:

ففي الأول: أن أدلة جواز العمل بظنون المجتهد أو وجوبه ظاهرها أن الحكم يدور مدار تحقق وجوده، و وجوده في الفرض مشكوك فيعود الشك إلى وجود سبب العمل فيما خرج عن قاعدة الحرمة و القدر المتيقن في علية الحكم هو بقاء الحكم ببقاء الظن أما لو ارتفع أو شك في ارتفاعه و عدمه انتفت العلية و إثبات بقاءه بعد الموت من الأصول المثبتة كاستصحاب سائر الموضوعات التي لا يعول عليها و لزوم المخالفة القطعية لو عدل لا مانع منه فيما لو تدرج تقليده فإن عمله الأول موافق للحكم الظاهري و لم يقطع بخلاف الواقع في الثاني فالشبهة بالنسبة إلى التقليد الثاني بدوية لعدم ملاحظته لعلمه الأول كي تكون الشبهة محصورة تمنع من الارتكاب للمخالفة إذ بعد إعراضه عن الأول خرج عن محل الابتلاء نظير ما لو قامت البينة على طهارة أحد الإناءين فعمل عليها ثمّ تعقبها العلم الإجمالي بعروض النجاسة لأحدهما فإنه لا يضر بالنسبة إلى عمله السابق لخروجه عن محل الابتلاء و لا اللاحق لأن الشبهة بالنسبة إليه بدوية. نعم يلزم العلم بالمخالفة إذا استعمل الآخر أو قلد ثانيا و لم يثبت حرمة ذلك كي يجب تحصيل العلم من باب المقدمة لظهور أن المكلف لا يقطع بأن الحرام هذا الإناء أو هذا التقليد و إن علم بالحرمة ابتداء فتطبيق العمل الذي سبب جوازه حصول الظن بعد القطع أو الشك في ارتفاعه في غاية الصعوبة اللهم إلا أن يدعي بأن الظن سبب للحدوث لا للبقاء و الاستمرار فيستمر الحكم و إن ارتفع السبب و هو خلاف ما يظهر من كلماتهم على أن السببية ظاهرة في أن المسبب لا يوجد إلا بوجود سببه و كون السبب سبب لحدوث المسبب فقط فيستمر بقاءه و إن عدم السبب فهو أيضا واقع لكنه يحتاج إلى دليل يقضي به خصوصا في مثل المقام الذي ثبتت الحرمة فيه فيقتصر في الخارج عنها و إن لم يرفع بارتفاعها خصوصا في الأسباب الشرعية و يكفي في حصول السبب وجوده آنا ما لا أقل أن ارتفاع المسبب موقوف على القطع بارتفاع السبب لا باحتمال ارتفاعه لكن السببية في مثل المقام إنصافا ظاهرها بقاء الحكم ببقاء الظن المقرون بالحياة لأن الموت عالم آخر لا ربط له بالحياة البتة فتدبر جيدا.

و نوقش في الثاني: بما هو ظاهر من شرطية الاستصحاب ببقاء الموضوع و عدم تغيره و موضوع الحكم كان الحي و يكفي في عدم جريانه حصول الشك في تبدل موضوعه فحرمة العصير مثلا إذا أفتى بها الحي إنما ثبتت لكونها من مظنوناته لا لأنه متصف بالعصيرية، و قولك العصير كان حراما و شككنا في ارتفاع حرمته فتبقى حرمته، نقول إن أردت حرمته من حيث الذات فقد أبطلت لعدم معلومية حكمه الواقعي و إنما وجب اجتنابه لأنه من جزئيات ظنون المجتهد الذي لزم اتباعه، و إن قلت بالحرمة من حيث تعلق ظن

ص: 37

المجتهد الحي به فمسلم و لا ريب بتيقنه في الزمن السابق لكن الموت يغير الموضوع لفقده لبعض أوصاف الموضوع حين الحكم و هو الحياة فكيف يثبت حكم موضوع الآخر بسبب استصحاب الحكم فإن استصحابه لا يثبت موضوعه جزما؟ وردت هذه المناقشة بأمور:

منها: أن الموضوع قول المفتي يعني إخباره عن الواقع كالرواية التي هي موضوع لوجوب عمل المجتهد و الإخبار عن حكم الله تعالى لا يتغير بالموت و الحياة إلا إذا رجع المجتهد عن قوله، و فيه مطالبة الدليل على أنه القول دون الظن و النافي لا يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي بعد تسالمهم على أن موضوع الحكم الظاهري هو الظن و هو حكم ثانوي للمكلف فليس للمدعي أنه القول أن يقلب الدليل علينا.

و منها: دعوى بقاء الظن بعد الموت و هو كما ترى محتاج إلى الاطلاع على العالم الثاني أو النص عليها بالخصوص و نحن بعد التي و اللتيا رجحنا جواز الاعتماد على ظن الحي و أخرجناه عن الحرمة المحققة و ألا فنفي الاعتماد مطلقا هو الموافق للعقل و النقل.

و منها: التسامح في الموضوع و الرجوع فيما أبهم منه إلى العرف و هم يجرون الاستصحاب في مثال المقام فيحكمون بنجاسة الكلب المستحيل ملحا مع أنه متغير الموضوع و حكم الكثير من محققي أصحابنا بجواز نظر الزوجة إلى عورة الزوج بعد مماته باستصحاب ذلك حال الحياة فما هو إلا لأن الموت لا يغير الموضوع. و الجواب أن القائل بذلك مع الدغدغة فيه لا يقول به مطلقا حتى في مثل المقام الذي حرم فيه تقليد الحي و الميت خرج الأول و بقي الثاني محتاجا إلى المخرج و التسامح العرفي لو قيل به فهو في غير ما علم قبل حرمته.

و منها: كفاية عدم العلم بتغيير الموضوع في الاستصحاب فيجامع وجود الشك في الموضوع و منعه ظاهر للزومه القول بوجود المحمول حدوثا و بقاء من دون موضوع و كيف يحكم بقيام زيد بلا إحراز وجوده؟ إلا على حجية الأصل المثبت فيثبت باستصحاب الحكم بقاء الموضوع فتخرج المسألة إلى عنوان آخر مع أن الأصل كذلك لا يعول عليه عندنا فإن جواز استصحاب الحكم، ليس من أحكام الموضوع شرعا فالقول بجواز استصحابه يلزمه القول باستصحاب موضوعه ليترتب الحكم، إذ الحكم المستصحب إن وجد الموضوع كما هو لحقه و إلا بطل نعم هو من الأحكام العقلية لأن المحمول بلا موضوع لا يمكن وجوده خارجا و لذلك استشكل شيخنا في صحة الوضوء لو غسلت اليسرى و شك في الغسل أنه اثنان أو ثلاث بناء على أن الثالثة بدعة، فإن المشهور حكموا بصحته مع أن المسح بغير بلة الوضوء ممنوع و إثبات كونها كذلك لا يكون إلا بأصالة عدم كونها ثالثة و هو لا يثبت أنها ثانية ليترتب عليه حكمه الشرعي و هو جواز المسح إلا على الأصل المثبت و نحن نقول بصحته و لا نقيس عليه المقام توضيحه: أن الفاضل التوني (رحمه الله) و غيره ممن حكم بجريان الاستصحاب في تقليد الميت ابتداء و استمرارا و وجهه بأن القاطع للاستصحاب العلم بتغير الموضوع لا مطلقا حتى مع الشك محط نظره إلى أنه لا قاطع للاستصحاب هنا من الأدلة إلا أصالة حرمة التقليد و الحال أن استصحاب وجود الموضوع وارد عليه فاستصحاب حكم ذلك الموضوع لا غائلة فيه و أظن أن الأمر اختلط عليهم و ما التفتوا إلى أن قضية أن اليقين لا ينقض بالشك لا بد فيه من ملاحظة القضية اليقينية و اتصافها باليقين متوقف على التبصر في دليل الموضوع الذي هو علة للحكم و مقدار استعداده و النظر في مشخصاته و تمييز ما يتسامح فيه من المشخصات عما لا يتسامح ثمّ الثاني هل هو مما لا يخل عنه الحكم؟ بمعنى أنه علة للحدوث و البقاء أو

ص: 38

للحدوث فقط فيستمر الحكم و إن زال المشخص و حينئذ لو فرض أن دليل نجاسة الماء المتغير من قبيل قوله: ينجس الماء إذا تغير، فإن الموضوع في هذه القضية الماء المتغير لا خصوص الماء فالمحمول يتبعه و مفاد القضية أن الماء قبل تغيره كان طاهرا فنجس لعروض المنجس و لم يعلم أنه بزواله يزول ما أثره من النجاسة أم لا فإنه يحكم بالزوال حال وجوده لا مطلقا فأصالة الطهارة بحالها بعد زوال التغيير، و أما لو كان الموضوع في القضية هو الماء نحو الماء المتغير نجس فهو من أول الأمر محكوم بنجاسته- حمل هو- فنستصحب و إن ارتفع التغيير لانقطاع الأصل بالحكم بالنجاسة فيبقى هذا الحكم حتى يدل دليل على ارتفاعه لقيام احتمال كون التغيير علة مبقية لها لا محدثة، و ما نحن فيه من قبيل الأخير فكأن القضية الحي يجوز تقليده فحمل الجواز على الحي حمل هو هو و بزوال الحياة لا يستصحب الجواز لاحتمال أن الحياة علة مبقية بذهابها ينتقى الحكم و مرجع ذلك إلى عدم إجراء الاستصحاب مع الشك في المقتضى إلا إذا كان مسببا عن الشك في علية الحكم و لذلك حكم غير واحد باستصحاب وجوب العقود في المكان المأمور به فيه في الزمن الثاني بناء منه أن الزمان لا يصلح أن يكون قيدا و إنما هو ظرف و هو كذلك و إن تم ما يدعيه من عدم صلاحيته للقيدية و إلا فهو كغيره و يعضد احتمال القيدية فيما نحن بصدده عدهم الحياة من شروط المفتي و المطلب يحتاج إلى دقة النظر و الله الهادي.

ثالثها: نقل الإجماع في المنية على حرمة العدول الشامل بإطلاقه لما هنا و إن جوازه يستلزم التفكيك في الوقائع و نقض الحكم الثابت في حقه كيف و حكم الله تعالى واحد أخذ به المكلف، ورد الإجماع شيخنا بأنه محكي و لم نعثر على من حكاه غير السيد في منيته فلو فرض يقتصر فيه على مورده لكثرة الخارج منه و بان التفكيك في الوقائع إذ نهض بها الدليل لا بأس بذلك لكن الظاهر أن الإجماع محقق على عدم النقض للآثار السابقة في مسألة العدول عن الميت إلى الحي و هو يقضي بحرمة العدول لأن العدول لازمه النقض للآثار، و لذا حكم به الجل في مسألة تبدل رأي المجتهد لو قطع بفساد اجتهاده. و الأكثر حكموا به إذا ظن به ظنا اجتهاديا بل يلوح من شيخنا الميل إلى أن عدم النقض مطلقا هو الموافق للقاعدة مع جزمه بعدم الأجزاء بالأمر الظاهري الشرعي، و قال في وجهه: أن شمول دليل الحكم لماضي الأعمال مبني على اعتبار أصالة الحقيقة لكي يشمل الدليل بضميمتها الوقائع الماضية و الآتية و دليل اعتبارها محصور ببناء العقلاء و الإجماع و الثاني لم يثبت على أكثر من اعتبارها بالنسبة إلى الوقائع المستقلة، و مشهور العلماء على عدم النقض في مسألة العدول يكشف عن عدم إجزائهم لأصالة الحقيقة في الماضية فكان الأصل عدم النقض مطلقا لأن نفس العدول لا يقتضي النقض بل يحتاج إلى دليل غيره، و الإجماع أخرج مسألة تغير الرأي عن مسألة العدول خروجا حكميا ثمّ احتمل الفرق بينهما بأن استناد العدول عن الرأي السابق للمفتي إلى الظن الاجتهادي بفساده بخلاف العدول عن الميت لأن القاضي به الأصل الفقاهتي و هو تيقن فراغ الذمة بتقليد الحي فالأول منشؤه العلم الشرعي بعدم اعتبار الرأي السابق و الثاني ناشئ من عدم العلم باعتباره فالمقتضي للنقض بوجود في الأول مفقود في الأخير و هو كما ترى لا يخرج عن أحد أمور لا يقول هو بأحدها فإن لازم ذلك إما أن اعتبار الطرق الشرعية و الظنون الاجتهادية من باب الموضوعية و هو مع لزوم التصويب لم يصرح أحد بعدم نقض الآثار عند تبدل الاجتهاد إلا القمي (رحمه الله) و أما القول بالأجزاء في الأمر الظاهري الشرعي و هو خلاف مذهبه، و أما التفكيك في أصالة الحقيقة بلا داع إذ لو دار الأمر بين الخروج

ص: 39

الموضوعي أو الحكمي فالثاني أولى فلو حكم بعدم الجواز و جعل الإجماع على عدم نقض الآثار دليلا عليه لدفع لزوم التخصيص في عموم الدليل لكان أولى لأن ترتيب اللوازم و الآثار لا ريب في أنه على الأحكام الواقعية و إن ظن المجتهد لا يؤثر حسنا و لا قبحا في المظنون و إنما هو طريق ليس إلا و هو منصوب شرعا فلو انكشف الخطأ و لو اجتهادا يلزم العمل بظنه الآخر و وجب نقض الآثار لثبوت الأحكام الشرعية لموضوعاتها الواقعية لا الاعتبارية فهذا حال تبدل الرأي و العدول أيضا كذلك إذ المفروض جعل الميت كالمعدوم و الأخذ بقول الحي فلو خالفه الميت كيف يجتمع مع حقية فتوى الميت و الحكم واحد؟ فمرجع العدول إلى الحي هو انكشاف خطأ الميت فالحي ظان للعدم لا أنه لم يعلم كيف حكم الميت فيكون بمنزلة لا أدري و أدري فما هو إلا دليل على عدم العدول فإن تم كفى القائل بوجوب البقاء.

رابعها: لزوم العسر و الحرج في العدول لتقارب آجال المجتهدين و قاعدة (نفي العسر و الحرج) حاكمة على كلما أثبت التكاليف من عموم أو قاعدة: و فيه أنها في غير مورد الاختلال قاعدة ظنية قابلة للتخصيص بالأدلة الخاصة مطلقا و لا ريب أن التكليف بالتقليد ثابت، و قول الميت مشكوك الحجية فهو بحكم المعدوم للأصل، و لو أن مثل هذا العسر ينفي التكليف لنفاه فيمن نسى فتوى مجتهده بعد موته فإنه يرجع إلى الحي بلا إشكال فالعسر الذي لا يلزمه اختلال النظام غير معلوم اعتباره سلمنا، لكن العسر:- شخصي، و نوعي.

و الأول: لا يرفع التكليف رأسا بل يرفعه بمقدار زمن العسر؛ و لذا حكموا بعدم حرمة الاجتناب في الشبهة المحصورة إذا أوجب ارتكابها الحرج و أثبتوا الحرمة لمن لا حرج عليه بالارتكاب، و الثاني كطهارة الحديد و الإتمام على المسافر فإن حكمة جوازه الحرج النوعي، و لا شبهة بأن أدلة الحرج بنفسها لو أوجبت شيئا فإنما هو الحرج الشخصي و هو يختلف باختلاف الأشخاص و الأحوال و الأزمان فالدليل أخص من الدعوى إن تم على أن الحرج يلزمه العسر بالنسبة إلى نقض الآثار الماضية عند اختلاف المرجع فلو قلنا بعدم النقض للحرج أو للأجزاء في الأمر الظاهري فلا يتأتى في المستقبل لعوده إلى التقليد الابتدائي فلا يتم به وجوب البقاء و كون سبب العسر تقارب الآجال ممنوع لعوده إلى ترك واجب لاحتمال العسر و دوران الحكم مدار شي ء متوهم لكنهم أفتوا بوجوب النكاح لمن خاف الوقوع في الزنا، و في الخبر (

لا تخالطوا أولاد التجار فإن أول القتل اللطام

) فيمكن أن يكون من هذا الباب و يكفي في وجوبه خوف الوقوع فيه خصوصا بعد التجربة فتأمل.

خامسها: الآيات فإنها بإطلاقها تشمل الأحياء و الأموات كآية الكتمان و النفر و السؤال خرج التقليد الابتدائي بالإجماع و بقي ما سواه إذ حرمة الكتمان يستلزم وجوب القبول بالإظهار و وجوب الحذر عند الإنذار لا يختص بإنذار الأحياء و أهل الذكر لا يختصوا بالأحياء. و فيه أن حرمة الكتمان القاضي التزاما بوجوب القبول عند الإظهار لا إطلاق فيه بالنسبة إلى جميع الأحياء. فضلا عن الأموات سلمنا الإطلاق و لا بد من تخصيصه بما يقطع السامع بأنه حكم الله لا مطلقا فليس فيها إشعار بمشروعية أصل التقليد التعبدي فضلا عن البقاء التعبد المدعى و الإنذار في الثانية من صفات الحي و إسناده للميت مجاز و لا قرينة له في المقام على أن شمولها للفتوى خلاف ما يتبادر منها، كما أنه لا ريب بظهور آية السؤال في الأحياء بل هي نص فيهم لكن الإنصاف أن مسألتنا لو أدخلناها بتقليد الأحياء ففي (آيتي النفر و السؤال) نوع دلالة على المطلوب إذ المنذر حال حياته يلزم الحذر منه و يجب على السائل بقول المسئول و إن مات بعد السؤال فلاحظ.

ص: 40

سادسها: الأخبار و هي ضروب منها ما ورد في الرجوع إلى أناس مخصوصين في الفتوى و الرواية كجوابه" عليه السلام" للعقرقوفي لما سأله عمن يرجع إليه قال (عليه السلام): (

عليك بالأسدي يعني أبا بصير

) و قال" عليه السلام" لابن المسيب: (

عليك بزكريا بن آدم فإنه المأمون على الدنيا و الدين

) و جوابه" عليه السلام" لعبد العزيز بن المهدي حين سأله أن يونس بن عبد الرحمن ثقة اخذ منه معالم ديني قال" عليه السلام": (

نعم

)، و منها و إن كان في خصوص الرواية إلا أن ظاهرها عدم الفرق بينها و الفتوى كقوله" عليه السلام": (

فما منعك عن الثقفي ج يعنى محمد بن مسلم ج فإنه قد سمع من حديث أبي" عليه السلام" أحاديثا و كان عنده وجيها

) و قال" عليه السلام" في حق أبان: (

آت أبان فإنه قد سمع مني حديثا كثيرا فما رواه عني فاروه عني

)، و قال أبو محمد" عليه السلام" في حق العمري و ابنه مخاطبا لأحمد بن إسحاق: (

أنهما ثقتان مرضيان فما رويا إليك عني فعني يؤديان و ما قالا لك فعني يقولان، فاسمع منهما و أطعهما فإنهما الثقتان المأمونان

) و منها ما هو خاص بالفتوى، و ذلك كلما ورد من النهي عن الإفتاء بغير علم قال الباقر" عليه السلام" لأبان: (

اجلس في المسجد وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك

)، و منها ما يدل على الرجوع إلى العلماء مطلقا بلا تقييد كقول الحجة" عليه السلام": (

و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله تعالى

)، رواه الصدوق و الطبرسي في" الإكمال" و" الاحتجاج" و كخبر الآخر المنصوص فيه على جواز الرجوع إلى الفقيه في موضعين من تصديه" عليه السلام" للفرق بين تقليد الإمامية لعلمائهم و بين تقليد أهل الكتاب لمن يرجعون إليه و تصحيحه للأول دون الأخير و من قوله" عليه السلام": (

فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه متبعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه

)، و منها ما قضى بقبول الحكم عند الترافع كخبري ابن حنظلة المعروف بالمقبولة و أبي خديجة فإن قبول الحكم يستلزم قبول الفتوى بالأولوية على أن الترافع ربما يكون للاختلاف في الفتوى الذي يختلف حكم الحاكم باختلافها فيكون قبول حكمه موقوف على اعتبار فتواه. و هذه النصوص تقضي باعتبار قول المجتهد مطلقا و إن كان ميتا لا أقل من شمولها لبقاء حجية قول الحي بعد الأخذ منه و إن مات، و في الوافية كصريح غيرها أن المستفاد من ظواهر المعتبرة أن قول الفقيه حكم ثانوي في حق المقلد باق مدة الأبد لأن حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة و يؤيده جعل العلماء مثل الأنبياء في حجية أقوالهم مطلقا في النبوي المشهور، و قال الفاضل التوني أيضا روى الكشي في ترجمة يونس بن عبد الرحمن بعنعنه عن أبي خلف قال: كنت مريضا فدخل أبو جعفر" عليه السلام" يعودني و عند رأسي كتاب" يوم و ليلة" و جعل" عليه السلام" يتصفحه حتى أتى عليه و جعل يقول: (

رحم الله يونس

)، و الظاهر أن الكتاب كتاب فتوى فحصل تقرير الإمام على تقليد يونس بعد موته، و أيضا بسنده عن داود بن القاسم أن أبا جعفر الجعفري قال: داخلت كتاب" يوم و ليلة" الذي ألفه يونس على أبي الحسن العسكري فتصفحه كله ثمّ قال: (

هذا ديني و دين آبائي و هو الحق كله

) و الحق أن هذه الأخبار لا تخلو من إشعار غير أنه لا يفيد في تقييد ما

ص: 41

قضى بحرمة العمل بدون علم حتى في حق الميت ابتداء أو استدامة و لقد طعن في الاستدلال بها شيخنا (رحمه الله) و قال شفاها أن أكثرها بمعزل عن أصل تشريع التقليد للحي فضلا عن الميت فإن الأخبار التي أمر فيها بالرجوع إلى بعض الأفراد مع وجوده" عليه السلام" فهم وسائط كوسائط المجتهدين بينهم و بين المقلدين يؤدون ما أمروا بتأديته و أين هذا من الاجتهاد المبحوث عنه؟ و أما خبر التوقيع و ما شابهه فموقوف على حمل اللام فيه على الاستغراق دون العهد و على فرضه أيضا لا يجدي كغيرها لأن أظهر أفراد المرجع فيها هو الحي و كيف كان فالاستدلال بها كلا لا يتم إلا إذا أفاده أن قول المجتهد كالرواية من حيث الكشف عن الحكم الواقع النفسي الأمري فحينئذ لا يفرق الحال بين الحياة و الموت و أدلة الرجوع إلى المجتهد لا تقضي بأزيد من الرخصة في تطبيق العمل على ما يراه من الحكم لا أن المقلد علم بالحكم و الفرق بينه و بين الرواية أنها حجة مطلقا بالنسبة إلى المجتهد حتى إذا لم يعلم بها حال الحياة و لا كذلك قول المجتهد إذ بمجرده لا حجية فيه إلا بالأخذ أو العمل و تطبيق عمل المقلد في الوقائع على بقاء رأيه تعبدا و ذلك لا يفيد أن حكم الله الواقعي هو مؤدى رأيه فيكون اعتبار التقليد من باب الموضوعية و هذا هو الفرق بين حجية قوله و حجية قول الإمام" عليه السلام" فإن تطبيق العمل على قول النبي (ص) و الإمام من جهة حصول العلم للسائل بالحكم فلا يفرق الحال فيه بين الموت و الحياة و ليس قول المجتهد كذلك بالبداهة فالإطاعة في مثل أخذ المجتهد بظنه و المقلد به أيضا تقوم لطفا و كرما مقام الإطاعة العلمية بالحكم الشرعي لأنهما طريقان إلى الواقع المجهول فهما من المقدمات لا يجبان إلا عند حلول وقت العمل لعدم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها و عليه فيلزم أن يكون التقليد في كل حادثة ابتدائيا بالنسبة إلى المكلف، و يجب فيه إحراز أنه ظن المجتهد ليطبق عمله عليه و إحراز ذلك إما بسؤاله عن كل عمل يأتي به و لا يكفيه السؤال الماضي عن العمل الماضي إلا إذا أحرز بقاءه باستصحاب و غيره و ظن الميت غير محرز بقائه ليطبق أعماله عليه، و الرخصة في المطلقات إنما هي في التطبيق لا أنه كجبريل في الأخبار عن الحكم.

و الحاصل المطلقات تفيد أن المقلد و المجتهد يعملان بالحكم ما دام مظنونا للمجتهد فلو تبدل لغيره تعبدا بالبدل فإحراز بقائه عند العمل لازم عليهما و لا يكفي فيه عدم العلم بالتبدل بل يجب فيه العلم بالبقاء و لو بالاستصحاب بالنسبة إلى المقلد و الالتفات بالنسبة إلى المجتهد و مع الموت يكفي في لزوم العدول انعدام الحواس و ذهاب ذلك الإدراك و عدم انكشاف الحكم الواقعي بقوله حال الحياة فكان الطريق الموصل انتهى قبل الوصول إلى المقصود فلا بد لمن يريد الوصول أن يتحرى غير هذا الطريق حذرا من تقصيره في الطلب. نعم لو ثبت بغير أدلة الرجوع إلى المجتهد بأن رأيه ليس بقيد لموضوع حكم الرجوع إليه بل هو سبب لعروض الحكم أي لحدوثه لا لبقائه لتم ذلك و هذا لا يظهر من الأدلة كما ذكرنا سابقا فقوله" عليه السلام": (

ارجعوا إلى رواة أحاديثنا

) يجري مجرى قوله: (

الماء المتغير نجس

) من كون الموضوع للنجاسة هو المتغير فتدور مدار وجوده و عدمه هذا ما استفدناه من شيخنا المرتضى (رحمه الله).

ص: 42

لكن الحق أنها لا تخل من إشعار بعدم سقوط قول العالم بعد موته عن درجة الاعتبار و هو (رحمه الله) التفت إلى ذلك فقال: و تنزل بأن الإجماع على عدم الرجوع إلى الموتى مطلقا يقيد المطلق من الأخبار الذي يستشم منه رائحة الإطلاق فإن إطلاق الإجماع بعد الحجية كإطلاق الرواية في صحة الاستناد إليها و هي تشمل البقاء كالابتداء و دعوى انصرافها للأخير أو ظهورها فيه لا تسمع بعد تصريح الشهيد (رحمه الله) بأنه لا قائل من أصحابنا السابقين بجواز تقليد الميت مع فقد سبب الانصراف من غلبة استعمال أو وجود، و لا يفيد قول المنكر أنه إجماع في المسألة الأصولية أو أن مخالفة موجود فإن مثل هذه الردود ساقطة عن الاعتبار فإن الإجماع و إن لم يكن حجة فلا أقل من كشفه عن دليل معتبر، و معه تتجه الدعوى المزبورة مضافا إلى أصالة الحرمة بالعمل بما وراء العلم إلا ما قطع بجوازه و المقام مشكوك فلا يدخل بالمستثنى و إلى أصالة الشغل و الخروج عن العهدة فيما لو تساوى الحي و الميت من جميع الجهات و إلى الشك في الطريقة المنصوبة من الشارع و غير ذلك مما يتصيد من كلامنا، و استدل سيد المفاتيح على التخيير بالاستصحاب و هو كما ترى فإنه لو قضى لقضى بوجوب البقاء لا بجوازه و تفصيل المسألة أن الحوادث المستقبلة من جنس تلك المسألة التي قلد فيها الشخص لفرد معين هل يجوز له العدول إلى مثله سواء كان الأول حيا أو ميتا أم لا يجوز ذلك مطلقا و ما دام حيا؟ يظهر الجواز من حي لمثله من النهاية للفاضل و ثاني المحققين و الشهيدين في الجعفرية و المقاصد العلية و يظهر عدمه من" تهذيب الأحكام" و" الذكرى" و" المنية" و يظهر وجوب العدول إلى الحي عند الموت من ظاهر من منع من تقليد الميت ابتداء و حرمته من الجماعة المذكورين، و جوازه ممن ذكرنا و نحن نتكلم أولا في العدول من حي إلى مثله و يرجح عدمه عندنا لأصالة عدم حجيته قول الثاني في حق من قلد و الشك في حجية الشي ء علة تامة لعدمها لا تثبت إلا بدليل و لا استصحاب الحكم المختار المقدم على استصحاب التخيير و استصحاب الصحة و الفساد فيستصحب المقلد ما تعلق به من الأحكام من وجوب، أو حرمة، أو صحة، أو فساد، و قال سيد المفاتيح: الأصل صحة تقليد الأول إذ الرجوع يقتضي فساده و لدوران الأمر بين التعيين و البقاء الموجب للبراءة اليقينية و بين التخيير و العدول المحتمل معه عدمها و الشغل يقتضي الأول و للزوم المخالفة القطعية في الحكم و لو تدريجا و لإجماع المختصر و العضدي و الأحكام و المنية و لزوم الهرج لاختلاف الدواعي فيحرم شيئا ثمّ يجوزه أو يوجبه و للامتثال عقيبه و لأن التقليد شرع للجاهل و المقلد صار عالما بتقليد الأول فيحرم حينئذ العدول، و لكن السيد خير بينهما بعد موت الأول نظرا إلى أن استصحاب التخيير مزيل لكل استصحاب غيره و قد ظهر لك ما فيه فلا حاجة إلى الإطالة.

الفائدة الحادية عشر: بقاء تقليد الميت و حكمه

اشارة

تشتمل على تنبيهات:

التنبيه الأول: على تقدير تعارض دليلي البقاء و العدول عن الميت و لا مرجح و تساقطهما

فقيل بالتخيير- و هو معتمد شيخنا صاحب الجواهر (رحمه الله)- للقاعدة في كل متعارضين لكن الأوفق عدمه لوجوب الرجوع بعد التساقط لمعلوم الحجية و هو قول الحي دون مشكوكها لكونه شكا في طريق الإطاعة فيرجع فيه إلى ما تبرأ به الذمة قطعا.

ص: 43

التنبيه الثاني: إن مسألة العدول لو أوجبها الأول ثمّ قلد العامي من يقول بوجوب البقاء لا تدخل هذه المسألة بفتوى الثاني جزما

لأن البقاء على وجوب العدول يلزمه العدول في جميع المسائل إلى القائل بوجوب البقاء و هو مناف لفتواه فلا جرم أنها قتلت نفسها.

التنبيه الثالث: لو تثلث تقليده فعدل بأمر الثاني عن الأول:

لأنه يوجب العدول ثمّ ابتلي بمن يوجب البقاء. فهل يبقى على التقليد الثاني؟ أم يرجع للسابق رجح العم (رحمه الله) و الوالد (رحمه الله) الرجوع إلى السابق لأن التقليد الثاني باطل بنظر الثالث ففتاوى الثاني مخالفة للواقع حسب اعتقاد الثالث المأمور بتقليده فعلا و في نقض آثار التقليد الثاني عند الثالث أيضا محتمل من جهة قوله بفساده. و يحتمل الصحة بناء على اختصاص نقض الآثار بتبدل الرأي فقط، و رجح بعض مشايخنا البقاء على تقليد الثاني لأن التقليد الصحيح أعم من الواقعي و الظاهري و تقليد الثاني و إن اقتضى نظر الثالث فساده إلا أنه حال حياته كان صحيحا ظاهرا منظما إليه إمضاء الشارع و لا بد أن يثبه على الانقياد حتى لو أخطأ الواقع، و تترتب عليه الآثار في المشهور، و إن حكم الثالث بفساده فلا يحرم على الثالث، و لا على مقلديه شراء ما باعه الثاني بالمعاطاة و إن كانت باطلة بنظره.

التنبيه الرابع: إن وجوب البقاء بعد الموت تابع لحرمة العدول قبله

فلو قلد المميز بناء على شرعية عباداته من مات قبل بلوغه لا يجب عليه البقاء و إن أفتى الثاني به بل يحرم عليه ذلك لعوده إلى تقليد الميت ابتداء و عسى أن يكون التقليد في المندوب كذلك لو خالفه الثاني لعدم حرمة العدول فيه على إشكال.

التنبيه الخامس: إن الحي و الميت لو تخالفا في موضوع التقليد أنه الأخذ أو العمل

و قد قلد العامي في الموضوع للميت بقي عليه فإن هذه المسألة كسائر المسائل الخلافية التي أوجب الحي البقاء عليها لأنه من الموضوعات المستنبطة، أما لو يقلد العامي في موضوع التقليد و قلد في غيره للميت و هو و الحي تخالفا في موضوعه أنه الأخذ أو العمل فقد أخذ المقلد مسائل من الميت لم يعمل بها فهل يلزمه البقاء و العمل بها أو يقتصر على ما عمل به من المسائل و رأي الميت أن التقليد هو الأخذ؟ وجهان أوجههما البقاء على ما عمل به من المسائل و إن رأى مجتهده السابق أنه الأخذ مع كون المقلد لم يقلده فيه لأن التقليد الصحيح مرآته اعتقاد المجتهد و علم المقلد بذلك فلا يكفي فيه نفس اعتقاده من دون علم المقلد و إن أخذ المقلد المسائل منه لأن هذا الأخذ بلا تقليد لا يفيد فائدة و إن صححنا العمل إذا طابق رأي المجتهد لكن غير مسألة موضوع التقليد، و ذهب بعض علماء العصر إلى وجوب البقاء على كل ما سمعه من مفتيه و إن لم يعمل به و لا قلده في موضوع التقليد؛ لأن هذا الأخذ تقليد عند الميت واقعا و الحي قد أبقاه عليه و فيه من الوهن مما لا يخفى.

التنبيه السادس: لو أفتى الحي بوجوب البقاء و وجوب تقليد الأعلم و وجوب العدول إلى الأعلم حال الحياة

انحل حكمه إلى وجوب البقاء على تقليد الميت إذا كان أعلما و إلا عدل لكون وجوب البقاء مشروطا عنده بعدم أعلمية الحي نعم إذا لم يجوز العدول من المفضول إلى الفاضل حال الحياة لو علم المقلد بالأفضلية بعد التقليد يلزمه الحكم بالبقاء على تقليد الميت و إن كان مفضولا، و لو قلد الميت في وجوب تقليد الأفضل و أوجب الثاني البقاء تحرى المقلد أفضل الأحياء في غير هذه المسألة، و عمل بقوله و عدل عن الميت في

ص: 44

مطلق ما عمل بقوله غير هذه المسألة و كذا إن رأى الميت جواز تقليد المفضول مطلقا و قلده الحي فيها، و أفتى الثاني بالبقاء رجع إليه في غيرها من المسائل.

التنبيه السابع: إذا تعذر تقليد الحي أو تعسر رجع المقلد إلى تقليد أفضل الأموات

و إلا تخير في قول الفاضل و الأردبيلي (رحمه الله) نظرا إلى إن اطلاقات أدلة التقليد يشمل الأحياء كشموله للأموات و اشتراط الحياة مختصة بحال التمكن فإذا ارتفع رجع إلى الأموات. و فيه أن اعتبار قول الميت من جهة عدم المقتضى لا وجود المانع و لم يقم دليل خارجي غير اطلاقات التقليد يقضي بأن وظيفة المقلد الرجوع إلى الحي حال التمكن منه و إلا رجع إلى الأموات و الإطلاقات قاصرة عن إفادة ذلك و حكم شيخنا (رحمه الله) برجوعه حينئذ إلى الاحتياط و قصر عمله عليه لأنه طريق إلى العلم بالبراءة عند انسداد بابه و تعذر العمل بالظن الخاص و الإطاعة العلمية إجمالا مقدمة على الظنية تفصيلا فلو تعذر ذلك عليه أخذ بالمشهور ثمّ بالأمارات الظنية مراعيا للأقوى من الظنون و آخر المراتب العمل بقول الأموات، و يلزم اتباعه للإمارة التي عينها المجتهد للأقوى بحسب نظره من الأمارات لعدم أهليته لذلك و لو أمكنه العمل بالظن أو الاحتياط قدم العمل بالظن عليه في نظرنا إذ ليس للاحتياط أثر في كلمات السلف خلافا لشيخنا فقد قدم الاحتياط عليه.

التنبيه الثامن: حكم البقاء يثبت جزما في غير الفتوى

فلو استناب المجتهد على ما بيده من التوكيل في القضاء، و حفظ مال الغائب، و الصغير، و قبض الزكاة، و مجهول المالك، و اللقطة، و حق الإمام" عليه السلام"، و دفعها إلى من عينه، لكن ذلك إن لم يكن من باب الوكالة فللغائب لحاظان فإن ظهر من استنابته التوكيل انعزل بموت موكله و إن كان حكم الحي وجوب البقاء إن علم أن النائب بمنزلة نفسه بحيث يفهم من خطابه إعطائه لتلك السلطنة لغيره و استخلافه التي هي فوق رتبة الوكالة فيكون حاله حال المنصوب من قبل الأب و الجد على ما لهما الولاية عليه فإنه بموتهما لا ينعزل و إن المجتهد ناظر في المصالح العامة و منها استنابة الغير فيبقى أثر ذلك بعد الموت كإذنه في إحياء الموات، و إجارته للأوقاف العامة، و بيعه للوقف مطلقا، أو لخاصة و نحوها و القائل بوجوب العدول يلزمه الحكم بعزل هذا النائب لأن المناط في اعتبار قول المجتهد عنده الرأي و بموته إما يزول أو هو مشكوك الزوال و ولايته العامة ثابتة من جهة ذلك فإذا قضى نحبه انعزل لفقد المناط و نوابه فروعه فيعزلوا بعزله و يظهر من جماعة عدم عزلهم و إن قال الحي بوجوب العدول قياسا على الوصاية. و فيه أنه قياس و إن متعلقها الإذن لا الرأي و إنها خارجة بالنص، و الإجماع، و لا ينافي ذلك بقاء إجازته، و إذنه بعد موته؛ إذ هو كالأثر للعمل السابق الثابت في حياته كحكمه في قضية شخصية و لا دخل لذلك في المتجدد بتجدد الزمان، كذا قرر شيخنا (رحمه الله) لكن الظاهر عدم العزل مطلقا و لا دخل لهذه المسألة بالبقاء و العدول لأن ولاية الحاكم على ما ذكر من قبل الإمام" عليه السلام" فاستناد ولاية النائب إلى الإمام" عليه السلام" بواسطة المجتهد كبقاء وكيل الوكيل بعد موت الأول إذا كان وكيلا حتى على التوكيل من المالك للتوكيل الأصلي، نعم إذن المجتهد كذلك لا بد فيها من ملاحظة أدلة وكالته فإن ظهر منها المساواة بينه و بين الإمام و خروج ما امتاز به الإمام" عليه السلام" يحتاج إلى الدليل فلا إشكال في البقاء بعد الموت على القولين و إن منعنا العموم كما لعله نظر

ص: 45

شيخنا (رحمه الله) لأصالة عدم ولاية أحد على أحد خرج الإمام" عليه السلام" و المجتهد فيما أذن له فيه و بقي ما سواه تحت الأصل و حينئذ لا شبهة في العزل بموته للشك في الإذن على الوجه الذي قلناه و عليه فتخص ولاية المجتهد بما كان المطلوب وقوعه في الخارج بأي نحو اتفق و لو من المسلمين غايته تقديم قول المجتهد عند التزاحم مع غيره و حينئذ فله التصرف بمال الغائب و اليتيم و حق الإمام" عليه السلام" و الزكاة و مجهول المالك و غير ذلك مما ورد النص به أو قام الإجماع عليه و ليس له الأخذ بالشفعة و الفسخ بالخيار و غير ذلك مما شك في شمول ولايته له، و هذا هو الأوفق بالقواعد و له مزيد بيان في بعض الفوائد الآتية و توضيح لاختيارنا لولاية الحاكم زمن الغيبة و الله العالم.

التنبيه التاسع (في لزوم تقليد الأعلم):

ذهب المشهور إلى لزوم تقليد الأعلم بل نقل عليه الاتفاق، و مال آخرون إلى التخيير بينه و بين المفضول ممن أحرز رتبة الاجتهاد و المراد بالأفضل من كان أقوى ملكة و أشد استنباطا بحسب القواعد بارعا في فهم الأخبار و جمع متعارضاتها مراعيا للعرف مشخصا لمظان الأصول اللفظية و العملية، و هذا هو معنى افعل التفضيل في خصوص العلم إذ هو لإفادة الزيادة في الاتصاف بالمبدإ و ليست الزيادة في العلم إلا ما ذكر في المقام، و قيل أن الأعلمية ما كانت بحسب الكم فمن زادت معلوماته على معلومات غيره فهو الأعلم و هو كما ترى لأن الأعلم من الموضوعات العرفية فيقال على الأمهر و الأخبر في كل صناعة على أن زيادة المعلومات مع التساوي في الملكة و قوة الاستنباط سيان في خصوص المورد الواحد الذي علم الاثنان به من حيث القرب إلى الواقع بل كثرة المعلومات ربما تضعف الملكة عن قوة الاستنباط، و في الخبر (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) ففيه دلالة على أن الأفقهية جودة الذهن.

ثمّ إنه لا ريب بتوقف الفقه على الأصول و النحو و الرجال و المنطق و البيان و غيرها فيترجح العالم بأحدها. على غيره الأدون منه إذ قد يتفاوت الحال بين كون التابع صفة أو عطف بيان لكن إذا وقعت المعارضة بين الأعلمية في النحو مثلا مع الأعلمية في الهيئة أو الرجال روعي ما هو الأدخل في الاستنباط فيقدم النحو على غيره و الأصول كذلك و لو تبعضت الأعلمية و كان المقلد عارفا أو معتمدا على عارف قلد كل واحد منهما بما يتعلق بذلك العلم من المسائل.

و الحاصل يتبع ما يورث قوة الاستنباط فلو تساووا العلماء في القوة لكن أحدهما أعلم بالنحو لا تكون تلك الزيادة مرجحة لعدم مدخليتهما فيما يتأكد به الظن، و أضاف الفاضل و الشهيدان إلى الأعلمية الأورعية فالأعلم الأورع مقدم على غيره و له وجه لأنها توجب الاطمئنان عن الإخبار بالحكم الظاهري الذي لا يعلم إلا من قبله و القرب إلى الحكم الواقعي لإفادتها زيادة الفحص و في المقبولة ما يدل على الترجيح بها؛ و لأجل ذلك خير الفاضل المازندراني بين من اتصف بالديانة و الورع و بين من كان أعلم منه بالفقه و الأصول و لعله لأجل اشتمال المقبولة على كل من الوصفين فهما في عرض واحد و لكنه مخدوش بأن زيادة العلم توجب كثرة الإصابة فهي أدخل في إفادة الظن، و في خبر داود و كتاب الأشتر تقديم الأعلم الأفقه على الأورع و ذكره مقدما مع إطلاقه يكفي في المقام الذي سبق الخبر فيه لبيان المرجحات عند التعارض، و إن المقبولة مسوقة لبيان مرجحات كل من الصفات الأربعة المذكور فيها حال انفراده و ساكنة عن حال التعارض.

ص: 46

هذا و لكن التخيير لا يخلو من قوة و الورع مرتبة وراء العدالة و عرفية معروف إذا تبين لك معنى الأعلم فالأكثر على تعيين الرجوع إليه و عدم جواز الرجوع إلى الأدون مع وجوده لأمور:

أولها: إن الخارج عن حرمة العمل بما وراء العلم قول الأعلم لأنه الفرد المتيقن من حيث أن كل من أجاز تقليد المفضول قال برجحانه، و الاحتياط أيضا قاض به فأصالة الشغل تقتضيه. و نوقش فيه بمعارضته بأصالة البراءة عن التكليف بتقليد الأعلم للزوم الضيق في الجملة، و جوابه أن البراءة إنما تجري عند دوران الأمرين التعيين و التخيير فتنفي التعين فيما إذا كان ذلك في الحكم الذي وظيفة الشارع بيانه و ليس للعقل مسرح فيه لا في الطريق الذي يجهل الوصول إلى المطلوب فيه فإن العقل حاكم بالأخذ بالموصل منها أو الأقرب بينها و لا يجوز العدول لغيره.

ثانيها: النصوص القاضية بذلك فمنها كتاب علي" عليه السلام" للأشتر: (

اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك مما لا تضيق به الأمور و أقفهم في الشبهات ... الخ

) و منها مقبولة ابن حنظلة رواها المشايخ الثلاثة و فيها قال" عليه السلام": (

الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما و لا يلتفت إلى ما حكم به الآخر

) و منها خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد الله" عليه السلام" قال: (

ينظران إلى أعدلهما و أفقههما في دين الله فيمضي حكمه ... الخ

) و المقبولة من بينها هي العمدة لصحة سندها و لذا وصفت بالقبول، و مناقشة الشهيد في طريقها لا يلتفت إليها. و صرح ثاني الشهيدين بأنها نص في المدعي و استند إليها الفاضل الهندي و غيره و دلالتها على المدعي ظاهرة بعد ضميمة عدم حمل الحكم فيها على ما هو المصطلح عليه في لسان الفقهاء و عدم صلاحية الدين و الميراث فيها قرينة على ذلك لأن الاصطلاح الخاص لا يعارض المعنى اللغوي بل يلزم تقديم المعنى اللغوي حيث لا قرينة على أن الحكم استعمل في لسان الشارع بما هو أعم من الفتوى مثل قوله تعالى: [وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ*] فاحتمال اختصاصها بالقضاء فقط و لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ الحكم لصراحة دلالة قول الراوي على عدمه لقوله و كلاهما اختلفا في حديثكم فإن الاختلاف في القضاء ليس اختلافا في الحديث و حملها أيضا على الترجيح في الحديث فتسقط عن الدلالة موهون بأن منازعة الحكمين في الرواية لا يوجب حمل الحكم على القضاء فيها إذ ربما كان النزاع للاشتباه في الحكم الشرعي فيرجعان إلى من يحكم بينهما في الفتوى دون القضاء و صريحها أن الحكمين حكما لا أن أحدهما حكم و الآخر أمضى و نفذ حكومته أو الآخر ناظر في حكمه للتحرز من الخطأ و عدمه لتحمل على ورودها في القضاء، و لو حملت على أن جمع الحكمين ليحكما معا فمع بعده يلزم أن يؤخذ بأسبق الحكمين إن لم يترجح أحدهما بما ذكر في الرواية و لو فرض صدور الحكمين دفعة واحدة تساقطا و الحكم التخيير فلا جرم من حملها على المعنى اللغوي الشامل للفتوى أو اختصاصها بترجيح الأخبار المتعارضة. سلمنا ورودها في القضاء لكن لا مفصل بينه و بين الإفتاء بل لا قائل بوجوب الرجوع إلى الأعلم في القضاء فقط و به نص الشهيد (رحمه الله) في المسالك فلا بأس بالركون إليها و بمعناها ما سواها، و الإنصاف أن دلالتها لا تخلو من ضعف فأما الأول فيظهر منه تقديم الأفضل حتى في بعض العلوم التي لا مدخل للفقه فيها مما هو في مكملاته و هو غير لازم فتحمل على الاستحباب. و أما المقبولة و التي بعدها فظاهرة في ترجيح الحديث ظهورا بينا و هو من

ص: 47

خصائص المجتهد إذ لا يلزم المقلد لحاظ مستند فتوى المتخالفين و الترجيح لأحدهما بما تضمنته الرواية و لا قائل به من الأصوليين و الإخباريين فهي واردة في بيان ترجيح الأخبار التي منها الفتاوى في زمن الحضور لأنهم لا يفتون إلا بلفظ الخبر أو بمعناه و ليس هم كمجتهدين هذا الوقت فإن مستند فتواهم أمور لمية من حدس و ظن و فحوى و لحن. قال الأستاذ الشريف الحسن الشيرازي (رحمه الله) الترجيح بالرواية ثابت و لا ذكر للمجتهد فيها فتعم المقلد غايته إن تكليف كل واحد منهما على حسب حاله و لا يمكن المقلد في هذه المرجحات إلا الترجيح بالأعلمية فيتعين ذلك عليه لشمول الخبر له، و أما غيرها من المرجحات فيسقط تكليفه بها لتعذرها عليه و الميسور لا يسقط بالمعسور. و فيه أن التكليف بالطرق يسقط ميسورها بمعسورها و لذلك وجب على المجتهد العاجز عن الترجيح ببعض المرجحات أن يقلد و لم يجروا فيه القاعدة المزبورة. نعم لو كان المقام من قبيل التكاليف المستقلة لوجب فيه ذلك و لذا لو اعتبرت عدالة الراوي و تعذر ذلك على المجتهد لا يقوم الظن بها مقام العلم جزما و كيف يسوغ للمقلد الترجيح بالأعلمية مع أنها بنفسها لا تفيد الأرجحية عند التعارض لاحتمال تقديم بعض المرجحات عليها كما ذكر في الأورعية و إن كان نوعها مقدما على غيرها، و احتمال أن العامي يعتمد على مرجح واحد في مقام التعارض مناف لسياق الرواية لأن المرجحات فيها من واد واحد فاستعمال البعض للبعض و استعمال الكل لفريق آخر تحكم. ثمّ منع كون المقلد لا يتمكن من باقي المرجحات بل كما يسأل عن الأعلمية يمكنه السؤال عن أن فتوى مجتهده موافقة للمشهور أم لا و إن كان عارفا هو أخرج ذلك من الكتب و لا قائل به كما لا قائل بأخذه بما يوافق ظنه من فتوى المجتهدين فإن الرواية من أدلة من فتح باب مطلق الظن لأنه يرى استفادة الظن من لميات هذه المرجحات مع أن الرواية صريحها تقديم الأفقه و المجمع عليه على المشهور، و الأصحاب أكثرهم على خلافها لأنهم يقدمون المشهور الذي تضمنته المرفوعة على الاثنين فلو عملنا على المقبولة وجب أخذ المجتهد و المقلد بقول الأعلم في الحديث و الفتوى لكن الأخير مخدوش بأن ما يقدم من الشهرة هو الشهرة في الفتوى التي توهن العمل بالخبر و إن اشتهر و كان في أقصى مراتب الصحة، و المذكور في الخبرين هو الشهرة في الرواية لا الفتوى فإن الأعلم مقدم فيها جزما لأنه أعرف بلسان الأئمة فإن الخبر قد يتضمن التورية أو يكون من موارد التقية أو يوكله على أصل أو يكنى به عن معنى آخر أو يكون عاما أو خاصا مما لم يفهمه الراوي و فهمه من خصائص العالم و إليه يومئ (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فيقدم فهمه من معناه على من اشتهرت بينهم الفاظه فأخذوا بظاهرها فكما أن إنشاء الأحكام مخزونة عند أهلها فكذا فهم كلماتهم (ع) لكن الرد الأول متين.

أقول الرواية لا تخلو من إشعار لفهم الشهيد (رحمه الله) منها ذلك و لظهور صدرها و ذيلها بالقضاء و الحكم مجمل القضاء في صدرها بأنه في زمن الحضور كان من قبيل الفتوى فيحمل التخاصم في الحكم إن المتخاصمين جهلاه فتعارضا فيه فأرجعه الإمام إلى الترجيحات و ذلك يجري في المجتهدين المتخالفين لكن فيه تمحل.

ثالثها: طريقة العقلاء و استقراء أحوالهم فإنهم يقدمون الأعرف على غيره في كل أمر اشتبه عليهم خصوصا في الموضوعات التي يترتب عليها حكم شرعي كالغبن و العيب في المبيع و تقويم مال الغائب و الطفل و غيرها فلا يتخلف ذلك في المقام. و فيه أن ذلك

ص: 48

كذلك فيما لو كان المطلوب منه الوصول إلى الواقع لا في الأمور التعبدية الغير المنوطة بالواقع، و التقليد لم يثبت أنه طريق إلى الواقع بل فيه نوع تعبدية كالبينة و بعض الإمارات المعتبرة في الموضوعات فإحراز الكبرى مع عدم ثبوت الصغرى لا يجدي في النتيجة و دعوى طريقته الصرفة لعلها ممنوعة فإن اعتبار غير العلم مما لم يكن حجة بنفسه في الموضوع و الحكم على أنواع.

منها: الطريقية المحضة كالظن من برهان الانسداد عند معتبرة أو لحمل التبين في الآية على الأعم من العلم.

و منها: أن يعتبر طريقا مع جهة تعبديه فيه كالخبر لاعتبار الوثوق و الاطمئنان به فهو طريق من جهة ملاحظة الواقع تعبدي لعدم اعتبار غيره من الظنون. نعم يلاحظ الترجيح بين متعارضاته أما مطلقا أو بالمنصوص.

و منها: أن يلاحظ فيه جهة التعبدية و الطريقية معا أكثر من ملاحظة التعبدية في الخبر كما لو اعتبر الشارع في الأمارة أوصاف لم تعتبر في الخير مثل ما نحن فيه فإن قول المجتهد طريق للواقع لكن أعتبر الشارع فيه قيودا كثيرة.

و منها: تعبدي محض و هو مثل الأصول في مجاريها و الامارات المعتبرة في الموضوعات كالبينة و اليد و لذلك لا تفيد كثرة الامارات في الترجيح لو زاحمت أصلا واحدا و البينة كذلك فلا مسرح للعقل في الوسطين لأن المدار في الخبر و إن كان الأقربية إلى الواقع بالمرجحات المنصوصة و غيرها إلا أنها منحصرة بأن تكون من نفس الخبر أو من أمر خارجي يتعلق به، و أما غيره من الظنون لا يفيد فهو أوسع دائرة من الإمارة و لا كذلك قول المجتهد فإنه يلحظ فيه المرجحات الداخلية فالتمسك ببناء العقلاء موقوف على طريقيته المحضة الثابتة من أدلته و هي منحصرة بالإجماع و العقل و ما كان الإجماع ليقضي بالطريقية و العقل و أن قضى بها غير أنه يلاحظ الظن الفعلي لاستحالة اجتماع ظنين عنده و العمومات علمت حالها و عرفت عدم شمولها للتقليد الاصطلاحي المبحوث عنه.

خامسها: أن القول بالجواز لازمه ترجيح المرجوح و هو باطل.

سادسها: إن ظن الأعلم أقوى فيلزم اتباعه و مرجع الدليلين إلى قوة الظن في جانب الأعلم و منعا بعدم كون ظن الفاضل أقوى أبدا إذ قد يتساوى الظنان و قد يكون ظن المفضول أقوى بالنظر إلى بعض الأمور الخارجية و لو سلم بمنع لزوم الرجوع إلى أقوى الظنين في المقام و المنعان كما ترى. أما الأول فهو و إن ظهر من الشهيد و الأردبيلي و القمي و النراقي و صاحب الفصول باختلاف تعبير ففيه أن القوة التي ادعوها إن كان مع قطع النظر عن الأمور الخارجية فلا يسلم ذلك لأن الفاضل و المفضول إذا تمحضا فلا ريب في رجحان الفاضل و إن ضم إليهما بعض الأمور الخارجية فلا نمنع اقتضائها في بعض الأوقات لترجيح قول المفضول غير أن مبنى التقليد على كونه من الظنون الخاصة الثابت حجيتها من الأدلة الشرعية و حينئذ فلو تساوى الفاضل و المفضول في المرجحات الداخلية لا شك أن لزيادة العلم مدخلية في الرجحان و رجحان المفضول و إن أمكن بمرجحات خارجية لكنها لا أثر لها لأنه لم يكن طريقا محضا و إلا فقد تكون تلك المرجحات في بعض العوام أو من يستخرج الحكم من غير الأدلة الشرعية كالجفار و الرمال. نعم لو كان التقليد من الظنون المطلقة الناشئة من دليل الانسداد ثمّ هذا الكلام.

و الحاصل أن موافقة قول المفضول لأقوال باقي علماء العصر و الأفضل على خلافهم أو ترجيه بأمارات خارجية أو موافقته لقول الأموات أو غير ذلك مما لم يكن منصوصا

ص: 49

لا يفيد فائدة في تقديم قوله و الأخذ برأيه- و إن أفاد بالنسبة إلى الأخبار- ذلك لأن طريقيتها تخالف طريقة التقليد المبتنية على حصول الظن من نفس الخبر. نعم لو حصل الظن بقرب المفضول إلى الواقع من جهة بعض الأوصاف الداخلية المعتبرة شرعا فحينئذ ينظر فإن فاقت زيادة العلم في الأفضل أخذ بها، و إن ساوته لزم التخيير و إن نقصت عنه لزم الرجوع إلى الأعلم، و يتضح ذلك بقياس الأورعية أو زيادة فحص المفضول إلى زيادة معلومات الأعلم و قيل بأن كل زيادة على قدر الواجب فيما يترجح بها الأعلم لا تفيد في تقديم قول المفضول من المرجحات الداخلية كزيادة الفحص و غيره إذا زاد على قدر الواجب و له وجه ما لم يحصل منه الوثوق للمقلد من تلك الإمارة. و أما الثاني فمبناه على أن التقليد متمحض للتعبدية و ليس فيه شائبة الطريقية و الظن في التعبديات لا يفيد فائدة و ليس له أثر و رده بما مر من أنه طريق مرآة للواقع من جهة و تعبدي من جهة أخرى على حد الخبر. بل يفوق عليه بالتعبدية فليس بناء التقليد على السببية المحضة و التعبد الذي لا يلاحظ فيه تفاوت الظنون و مراتبها. بل هو من الطرق المعتبرة من حيث إفادتها الظن نوعا لا شخصا فيجب مراعاة أقوى الظنون فيه فلا وقع لما ذكره القمي من كون التقليد أحد الظنون الشخصية التي يتجه الأخذ حينئذ بقول الميت و المفضول بل غير المجتهد- إذا وافق الظن الأقوى- قولهم كما لا وجه لرده بأنه تعبد محض بل هو أمر بين الأمرين و الله العالم.

حجة القائلين بجواز الرجوع إلى المفضول في صورة الاختلاف أو مطلقا أمور:

الأول: استصحاب التخيير الثابت عند تساوي المجتهدين علما و غيره و زواله بحدوث الفضل في أحدهما غير ثابت لدوران علة الحكم بين كونها محدثة أو مبقية و لم يعلم أحد الأمرين فلعل التساوي علة لحدوث الحكم فيستصحب بقاءه و جوازه في هذه الصورة يجوزه في باقي الصور؛ إذ لا قائل بالفصل و لو عورض بتقليد مجتهد مع الانحصار ثمّ وجد المفضول و لم يعلم أن الانحصار من أي العلتين فيستصحب قوله و يتم في الباقي بمركب الإجماع و لا مزية لأحدهما على صاحبه، لأن ضميمة كل منهما الاستصحاب فمنعه أن عدم العدول من جهة حرمته لا من جهة استصحاب قوله حتى لو كان المجتهد الأول مفضولا فحرمة العدول تأتي فيه- إن فرض بعد التقليد- و إن فرض قبله فوجوبه مقدمي لا يستصحب فإن المقدمة إذا تعددت لا يبقى الوجوب الانفرادي لها فإن وجوب أحد المقدمات المتمكن منها، عقلي يرفع بوجود الأخرى و المتمكن منها و ليس لها خصوصية في نظر، الأمر و إن انفردت فكيف يستصحب وجوبها المنتفي عينا بوجود الأخرى؟ كذا قرره شيخنا و غيره. و فيه أن التخيير المستصحب إما دليله العقل أو الشرع و الثاني إما لبي أو لفظي.

و الثاني: إما مبين للتخيير مطلقا أو مختص بصورة التساوي، و إما مجمل مهمل فإن كان الحاكم بالتساوي العقل، فما كان ليستصحب حكمه، لأن الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقلية من جهة توقف حكمه في الآن اللاحق على إحراز جميع قيودات الموضوع و عناوينه فيدور مدار وجودها بالبداهة و بفقد التساوي ترتفع حكومة العقل جزما و إذا كان الموضوع كما هو بعد لا حاجة إلى الاستصحاب بل احتمال المدخلية يكفي في رفع الحكم العقلي، و استصحاب حال العقل المسمى باستصحاب النفي، و البراءة الثابتة حال الصغر و الجنون الراجع إلى استصحاب أحكام العقل العدمية و إن المقام من موارده فيستصحب البراءة من التكليف الزائد على التكليف الأولي- لو قيل به مردودا- بأنه

ص: 50

استصحاب حال مطابقة العقل لا المستند إليه و توضيحه في الاستصحاب. و هذه مسألة من أشكل مسائله، و نحن نفصلها ليعم نفعها.

اعلم أن وجود الشي ء متوقف على المقتضى و رفع المانع، و أما عدمه فيحصل بفقد المقتضي أو أحد أجزائه أو وجود المانع و لا يحصل الرفع من جهة وجود المانع إلا بعد إحراز المقتضي و إلا استند العدم إليه و إن كان لوجود المانع شأنية لكن مع عدم إحراز المقتضي يستند عدم الشي ء إلى فقد مقتضيه لا إلى وجود مانعه بل احتمال عدم المقتضي يكفي في العدم وجد المانع ارتفع أم لم يوجد فأسباب عدم الشي ء ثلاثة: عدم وجود المقتضي أو وجود المانع مع وجود المقتضى أو احتمال وجوده أو حكومة العقل بالعدم التي هي اعم منهما إذ قد يقارناها، و قد يفارقاها مثل حكومة العقل بنفي الشريك، و مثل ما نحن فيه فإن التخيير بين المتساويين من كل جهة حكم عقلي لا محيص عنه و لا يمكن اختيار أحدهما من دون مزية فيه، فإن نقص أو زاد أحدهما ارتفع ذلك الحكم العقلي فكيف يستصحب! لكن لا ينافي ورود دليل يقضي بالتخيير عند الزيادة و النقصان في أحدهما لسكوته عن ذلك و منه يظهر معارضة الدليل القاضي بعدم التخيير في المتساويين لحكومة العقل بخلاف ما لو رجح أحدهما فلا يعارض حكومة العقل لو دل على التخيير دليل غيره و أما لو استند العدم إلى نفي المقتضي أو وجود المانع و طابقه العقل في ذلك فلا يمكن أيضا استصحاب ذلك الحال الذي طابقه العقل إلى ما بعد وجود المقتضي أو بعد ارتفاع المانع إذ الاستصحاب لا يمنع المقتضي من تأثيره و يشهد له عدم تجويزهم لاستصحاب عدم وجوب السورة المسبب له النسيان بعد التذكر في المحل، و ما هو إلا وجود المقتضي للطلب منع منه النسيان و قد ارتفع فأثر المقتضى أثره و أخطأ القائل بالأجزاء في مثل هذه الصورة من الأعذار المسقطة للتكليف مع حدوث مقتضاها. نعم يجري الاستصحاب في صورة وجود المانع و لو شك بأن العدم مستند له أو إلى عدم المقتضي فلو ارتفع المانع لا ضير من بقاء عدم التكليف الذي جامع وجوده إذ يكفي في رفع التكليف حصول الشك في مقتضيه فمثل الصغر المانع من التكليف- لو ارتفع- فإن تحقق مقتضى التكليف فلا مجرى حينئذ للاستصحاب و أن لم يوجد حتى لو شك في وجوده و عدمه أمكن استصحاب تلك الحالة إلى يحرز المقتضي للتكليف بدليله، و هذا ليس من استصحاب الأحكام العقلية. بل هو استصحاب حالة طابقها العقل؛ و لذلك لو أن العقل و البلوغ يلازمان التكليف حيث وجدا بعد جزما لا مجرى للاستصحاب في رفع التكليف فاتضح أن القضايا العقلية لا تقبل الاستصحاب وجودية كانت أو عدمية، و إن استصحاب حال العقل ليس من استصحاب حكم العقل العدمي، مضافا إلى أنا ندعي أن التخيير في كل متماثلين و متساويين من كل الجهات هو من آثار الأمر الوجودي و هو التساوي لا من آثار الأمر العدمي و هو عدم الترجيح فلا بد من إحراز التساوي ليترتب عليه أثره و هو التخيير و إحرازه بعد فقده لا يثبت باستصحاب العدم فإن نفي أحد الضدين لا يثبت وجود الضد الآخر ليترتب عليه آثار وجوده فلو دار الأمر بين الوجوب و الندب، و نفينا الوجوب بالبراءة لا يثبت الاستحباب بالأصل، بل يحتاج إلى دليل آخر نعم لو كان جواز التخيير من أحكام استصحاب البراءة بالفرد الخاص تم ذلك مثل كون غير المذكى ميتة فإن استصحاب عدم التذكية يرتب عليها أحكام الميتة لا يقال إن المستصحب الجواز الشرعي حال التخيير بين المجتهدين المتساويين لأنا نقول ليس هذا جواز إباحي مقابل لباقي الأحكام بل هو رخصة إلى بدل نحو خصال الكفارة فهو في الحقيقة وجوب تخييري، هذا إذا كان التخيير عقليا، أما لو كان القاضي به الشرع بدليل لبي مثل الإجماع فعدم جريانه

ص: 51

أظهر إذ لا يستصحب حال الإجماع لغير ما وقع عليه بالبداهة. و إن كان الحكم بالتخيير من دليل لفظي فهو إما خاص بصورة التساوي فلا يستصحب إلى غيرها و إما عام لها و لصورة التفاضل أغنى ذلك عن كل أصل و لا يحتاج إلى استصحاب، و أما لو كان دليل التخيير لفظيا أو أجمل بحيث دار الأمر بين أن يكون التساوي قيدا يدور الحكم مداره أو علة لعروضه فلا مجرى للاستصحاب أيضا للشك في الموضوع في أنه مقيد أو مطلق.

الثالث: أن الشك دائر هنا بين التعيين و التخيير فيما علم وجوبه في الجملة فيرجع فيه إلى البراءة نظير ما لو شك عند وجوب العتق في تعيين من يجب عتقه، هل هو المؤمنة أو ما يعمها؟ و الكافرة و مرجعه أن الأمر تعلق بالطبيعة في مسألة العتق، و التخيير بين أفرادها عقلي، فلو شككنا في اختصاص الحكم بفرد منها دون بقية الأفراد أجرينا البراءة و قلنا الأصل عدم الاختصاص حتى ينهض به الدليل. و كذا إذا كان الشك في التخيير الشرعي نحو خصال الكفارة و شككنا في تعيين أحدها نجري البراءة كذلك لأن الخروج عن العهدة في كل فرد مما نص الشارع عليه فتعينه في واحد منها دون الباقي يحتاج إلى أمر آخر و الأصل البراءة، و مقامنا كذلك فإن اشتغال الذمة لم يثبت إلا بالقدر المشترك بين الفاضل و المفضول المتحقق في ضمن الأدون فتبرأ الذمة في الأخذ بقول المفضول و إلى ذلك ذهب القمي (رحمه الله). و لكن الحق عدم إجراء البراءة هنا إذ كل من قول المجتهدين واجب عينا على المكلف الأخذ به من حيث أن كل منهما طريق منصوب إلى الواقع، و إنما حصل التخيير في التزاحم و إلا فكل واحد منهما واجب مستقل لكن حيث لم يرجح أحدهما على الآخر خير العقل بينهما فحصول الشك في أحدهما ليس من حيث الوجوب العيني و عدمه ليدفع بالأصل من حيث المزاحمة، فلو ذهبت بقي ذلك الواجب على حياله فلو امتاز أحدهما بالرجحان لا تبرأ الذمة بارتكاب الآخر لارتفاع المزاحمة عند العقل و يكون، من مجاري الاشتغال نظير الغريقين الذي ظهر أن أحدهما نبيا أو أبا أو مالكا للمنقذ فإن المملوك يلزمه إنقاذ من ملكه لا الغريق الآخر و لا يمكنه العذر بأني كنت مخيرا فليس الواجب القدر المشترك بينهما و إلا لزم خلو كل واحد منهما عن الواجب العيني حال المزاحمة و البداهة على خلافه بل التعارض حقيقة هنا بين أمارتين لأن قول المجتهد طريق تعبدي إلى الواقع في كل منهما فيحصل التعارض بين حكمين ظاهريين من أمارتين و لا جامع لهما إذ لو وجد كان هو الإمارة و الطريق و حيث لا مرجح لأحدهما يلزم على القاعدة التوقف كما هو الشأن في تعارض الإمارات لكن لما قام الإجماع على عدمه في المقام اضطر العقل إلى الحكم بالتخيير حيث لا مناص فإذا ترجح بموافقة شهرة أو غيرها انتفى حكمه بالتخيير و الوجوب الناشئ من تعارض الإمارتين لا تجري فيه البراءة قطعا فلم يشتمل كل واحد من المتزاحمين على مصلحة التكليف كإنقاذ الغريقين و إلا لما حصل القطع بإصابة الواقع في إنقاذ أحدهما مع حصوله قطعا و ليس بحاصل في الأخذ قول أحد المجتهدين عند التخيير إلا على القول بالتصويب فالمأمور به الواقعي في المتزاحمين هو الفرد المردد، و في مؤدى الطرق هو مؤدى أحدهما خالف الواقع أم لا. كل ذلك جريا على مذاق من يرجح أحد المتعارضين بمطلق الظن سواء خصه بالتخيير الشرعي أو عممه له و للعقلي. و أما بناء على عدمه فالشك الطارئ إما في ثبوت التكليف أو في ارتفاعه بعد ثبوته و البراءة لو أجريناها فهي في الأول دون الثاني لرجوع الشك فيه إلى الشك في طرو التخصيص على دليل ذلك التكليف و الأصل عدمه و لما حصل التكليف بحرمة الأخذ بما وراء العلم و ترددنا في الخارج منه اقتصرنا على الأعلم لأنه المتيقن فمن

ص: 52

ادعى خروج غيره فعليه الدليل و لا يفيده أصالة براءة الذمة من التعيين بعد أن احتاج إخراج غير المتيقن عن حكم العام إلى الدليل. و الحاصل أن متابعة الراوي للرواية و المقلد للمجتهد سيان و هما طريقان إلى الواقع فإذا تعارض الفتويان اشتبه الطريق و الحجة بغيره و الأصل يوجب التوقف، و هنا لا يمكن للإجماع فانحصر الأمر بالأخذ بالأرجح و لو احتمالا ثمّ التخيير بناء على ما ذكرنا أن استناد الجواز إلى الأصل مطلقا غير ممكن بل و لا معقول.

الرابع: الإطلاقات القاضية بأصل مشروعية التقليد من آية أو خبر؛ إذ ليس فيها للأخذ بقول الأعلم عين و لا اثر مع معلومية تفاوت الآراء و تفاوت العلماء مضافا إلى الأمر بالرجوع إلى مثل زرارة و أبان و الثقفي و العمري و يونس و زكريا بن آدم و عبد الحميد و أضرابهم و من البعيد تساويهم في الفضل و العلم فيخرج بهذه الإطلاقات عن حرمة العمل بما وراء العلم.

و فيه أن الشرط في التمسك بإطلاق المطلق كونه متواطئا لا مشككا و لا كذلك في المقام لحصول الظن الاطمئناني بأن أصحاب الأئمة (ع) زمن الحضور كمن ينقل عن المجتهد في نوابه لا اختلاف بينهم في الفتوى و لا معارضة؛ فإن حصل اشتباها رجعوا إلى الإمام" عليه السلام" فينصرف المطلق إلى الفرد الغالب و هم المفتون، و أين هم ممن لم يدرك زمن الحضور؟! لكثرة الاختلاف الواقع بينهم حتى أن المجتهد الواحد تتعدد فتاويه بتعدد كتبه، و سره البعد عن زمن الأئمة" عليهم السلام" و تشويش النصوص بالتحريف و الوضع و السقط و هو مفقود في عهد الأئمة (ع)؛ و لذا لم يحتاجوا إلى الفحص عن المعارضات، و من هنا اشتبه الأمر على الصدر العلوي فحكم بعدم لزوم الفحص. لا يقال أن المستفاد من الأخبار العلاجية خلاف ذلك لأنا نقول: إنا لم نجعله مستحيلا لكن حكمنا بندرته قبل و كثرته بعد، ثمّ لا ملازمة بين الاختلاف في الرواية و بين الاختلاف في الحكم و الفتوى و لو لا ذلك لما ادعى علم الهدى انفتاح باب العلم و لم يكذبه أحد فما هو إلا لقربه من زمن الأئمة (ع) و إمكان معرفة أقوالهم و تمييز موارد التقية فأصحابهم بطريق أولى، و أين هذا من الزمن المتعوس الذي خلا منهم ظاهرا؟! بحيث لا يمكن استنباط الحكم إلا بإعمال تمام النظر في اللوازم الخفية فإن ذلك قرينة واضحة على تنزيل المطلقات على فرض الدلالة على صورة الاتفاق في الفتوى و عليه فشمولها للمفضول مع تمام الجرأة للأخذ بقوله حيث لا يعلم بالخلاف مع أنه يحتمل قويا أن سياق هذه المطلقات لبيان أصل المرجع للعامي، و إنه أهل الذكر و ساكتة عن بيان كيفية الرجوع و تفاصيله عند تعارض المجتهدين و عدمه فإن آية السؤال و ما جرى مجراها غاية مفادها أن الجاهل يرجع إلى العالم، فالأمر فيها إرشادي كأوامر الطبيب فإنها لا تفيد إلا رفع التحير في المرجع لا رفع التحير الناشئ من الاختلاف و كيفية الترجيح أو التخيير فإن ذلك حكم آخر يحتاج إلى أمر آخر غير أمر مطلق الرجوع و كذا غيرها من المطلقات التي أفادت حجية قول المجتهد و لزوم الأخذ بها فإنها تجري مجرى أمره" عليه السلام" بالعمل بالبينة أو خبر العادل فإنها لا تفيد إلا الحجية؛ و لذا لم يحكم الأكثر بالتخيير عند تعارض البينات، و من حكم به خصه بالدعاوي المالية عند عدم الترجح و التخيير الثابت في الخبرين المتعارضين ليس مفاد آية النبأ فيكون مفادها حكمين الحجية و التخيير بل هو مفاد الأخبار العلاجية و من هذا الباب أكثر الإطلاقات

ص: 53

كأقيموا الصلاة و نحوها فإنه لا يثبت به المساواة بين جميع الأفراد المتعارفة لا أقل من الاحتمال و الشك في ورودها لبيان كيفية التعارض و معه لا يتمسك بإطلاقها لأن شرط التمسك بالإطلاق بعد إحراز أن يكون المطلق مسوقا في مقام البيان ليصح الاستدلال ببرهان الحكمة على إفادته العموم كما ذكره في" المعالم" في [أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ] مع الشك فيه لا يجي ء ذلك فلا يتمسك بالاطلاقات حتى على مذهب المشهور.

و الذاهبين إلى العموم الوضعي في المطلقات فهم و أن خالفوا سلطان العلماء لفظا، لكنهم وافقوه عملا و فعلا فتراهم لا يحكمون بورود المطلقات للبيان في جميع الجهات إلا إذا ثبت ذلك من غير الإطلاقات نفسه فلا يعم مطلقات الأخبار صورة التخالف و التفاضل إذ ليست هذه الصورة من اللوازم الغالبة بالنسبة إلى أصل المرجعية التي هي مفاد الأخبار لكي يشملها إطلاقها لا عقلا و لا عادة و لا شرعا و حصول الشك كاف في منع الإطلاق أ ترى لو ورد كل غنم طاهر، فهل يكون دليلا على طهارة المشكوك منها من حيث التذكية و عدمها فقوله" عليه السلام": (

فارجعوا إلى رواة أحاديثنا

) لا يمكن هو و نظائره أن يكون دليلا على الرجوع إلى المفضول مضافا إلى توقف ذلك على إرادة الاستغراق منها- و هو مشكل- بل غير صحيح لعدم وجوب الرجوع إلى الجميع جزما فلا بد أن يراد بها جنس الفرد فتحذو حذو المطلقات التي عرفت مع أن تمامية التمسك بها موقوف على كون الحجج و الأمارات الشرعية من باب السببية فيصير حال المتعارضين منها حال الواجبين المتزاحمين المحكوم بالتخيير فيها- و هو باطل- بل هي إما طريق محض على رأي من فتح باب الظن أو فيها نوع تعبدية مضافة إلى طريقتها، و التعبدية تجعلها من الظنون الخاصة و أهلها لا يتعدون منها لغيرها من الظنون- و إن حكموا بطريقتها- ثمّ أن هذه المطلقات لو شملت الرجوع إلى كل فرد من المتفقين و قضت بالتخيير بين المختلفين يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى- و هو باطل- عند الأكثر، اللهم إلا أن يقال أن أصل الرجوع إلى طبيعة العلماء وجوبه شرعي و التخيير وجوبه عقلي و يكفي في المطلق إتيانه في ضمن أحد أفراده و الوجوب الشرعي لا يمكن إثباته بمثل هذه النصوص، و أعلاها خبر الاحتجاج المأخوذ من تفسير العسكري" عليه السلام" الذي لا يعتمده الأخباريون منا و الباقي منها ما يفضي لجعل طائفة من العلماء مرجعا للجهال و أما أن كل واحد منهم حجة، أو عند فقد المعارض فهي بمعزل عن ذلك. و منها ما دل على وجوب الرجوع إلى كل واحد عينا على قياس العام الأصولي فيظهر منها أن كل واحد حجة منفردا و أما لو عارضه مثله فهي ساكتة عن حكمه لامتناع شمول الأمر حتى للمتعارضين بالأخذ من كل واحد و تعيين أحد الفردين لا مرجح له و الرجوع إلى الحكم العقلي يعين الأفضل لرجحانه، و لو تخيل أو سلمنا حكمه بالتخيير فهو خروج عن التمسك بالإطلاقات و من هذا الباب آيتي النفر و الكتمان و خبر التوقيع.

و منها: ما هو وارد لبيان حكم آخر فيمنع ذلك عن إفادته لحكم التخيير الشرعي كخبر الاحتجاج و المقبولة و رواية أبي خديجة فهي- و إن كان لها أهلية الدلالة على المراد من حيث أن إطلاقها يندرج فيه كل واحد من المتعارضين. فإن امتثال الأوامر المطلقة يحصل بإتيان بعض الأفراد مخيرا لقبح الإغراء بالجهل و لقاعدة الإطلاق فلا بد من البناء على التخيير في مقام الامتثال و شرعيته لا تنافي تسميته تخييرا عقليا متى استند إلى الإطلاق و قبح الإغراء، و لكنها كقوله" عليه السلام": (

اعتمدا في دينكما على من في حبنا كثير القدم في

ص: 54

أمرنا

) مساقها النهي عن الرجوع إلى علماء المخالفين و رواتهم و لبيان المرجع للإمامية علمائهم و ليست بواردة لبيان الحجة الفعلية حتى يستند إلى إطلاقها و وقوع السؤال في المقبولة عن حكم التعارض مما يؤيد أنه لا إطلاق فيها يشمل هذه الصورة و جواب الإمام" عليه السلام" ينبغي أن يكون مخصصا لإطلاقها و لم يزعمه أحد.

و منها: ما أشار إليه ثاني الشهيدين في اشتراك الجميع في الأهلية و من أن ترجيح العامي للأعلم متعسر جدا، و هما كما ترى فإنا لم نمنع الأهلية الشأنية و هي غير كافية لفعلية التقليد حتى مع عروض المانع إذ فتوى الأرجح مانع عن الأخذ بفتوى المرجوح و إن كان له أهلية ذلك و مثله المرجحات السندية فإن لزوم الأخذ بقول الأوثق لا ينافي أهلية الأخذ بقول الثقة و كذا الأخذ بأقوى الظنين عند من يعتمده في الأحكام و عسر تشخيص الأعلم كعسر تعيين المجتهد فينبغي أن يسقط التكليف بالأخذ منهما و ليس هو إلا موضوع من الموضوعات يحرز بالرجوع إلى أهل الخبرة خصوصا عند من اكتفى بالظن في تعينه، و أما الرجوع إليه لو استلزم العسر سقط التكليف به و رجع التكليف إلى الأعلم الإضافي لا أفضل الكل و هكذا فالمدار حينئذ على العذر الشخصي في تمييز الأعلم و الرجوع إليه، و اعتمد صاحب الفصول على ما ذهب إليه من جواز تقليد المفضول مطلقا بأنه لولاه لما جاز الرجوع إلى أصحاب الإمام بحضوره، و التالي باطل لتصريح رواية أبان به و المعهود من أصحاب الإمام انهم يفتون بالرأي لا يتلون الرواية على المستفتي، و فيه أنا أوجبنا الرجوع إلى الأفضل مع العلم بالخلاف لا مطلقا و هو لا يتصور في حق الإمام و قد وقع ذلك أيضا في كثير من الأحكام و كون لازم ذلك العمل بالرواية زمن الحضور لا منع منه لمن له أهلية ذلك فهذا الكلام مختل الأطراف على الظاهر، لأن قياس الأفضل على الإمام فيه ما فيه. و اعتمد بعض المحققين على أن اعتبار التقليد إما تعبدي محض فليس في النصوص تعيين الأعلم فيه. و أما من جهة حصول الظن بحكم الله تعالى الواقع فقد يوافق الظن قول المفضول و فيه أيضا أن المدار في التقليد على الظن النوعي كما أشرنا، و إلا لزم الهرج و المرج في الدين و هو موجود في الأعلم مع أن هذا قول آخر في المسألة إذ هو لا يفيد التخيير بين الأعلم و غيره بل لازمه اتباع الظن مطلقا و تقليد المفضول ربما لا يوافقه الظن أبدا. هذا كله في صورة الخلاف و أما في صورة الوفاق في الفتوى، و الاختلاف في العلم، أو العكس، أو كان الاتفاق مشكوكا، أو علم بالاختلاف إجمالا أما بالفتوى بعد معلومية الأفضل أو بأفضلية أحد المفتين على الآخر فتتشعب الصور، و الظاهر عدم وجوب تعيين الأفضل مع اتفاقه و غيره من هو دونه في الفتوى بل و مع الاختلاف فيها و المساواة في الفضيلة، أما الأول فقد حكى الاتفاق عليه كثير من الأعاظم، و نسبه في المفاتيح غير واحد من الكتب لكن بعد أن نسبه نظر فيه و جعل تعيين المجتهد هو المطابق للاحتياط و الاعتبار و أقصى ما تصورنا من الدليل على ذلك أحد أمرين: إما لجهة أن تعيين المجتهد على المقلد مطلقا مما يقضي به لفظ التقليد، و العمل بقول الغير فيكون واجبا يبطل العمل بدونه أو لكونه شرطا في صحة التقليد و لو في صورة الأفضلية فيجب على المقلد تطبيق عمله على قوله لأنه المتيقن بعد اشتغال الذمة. و فيها منع واضح فإنا بعد فرض المماشاة و الجمود على لفظ التقليد.

نقول: أن الغرض من شرعية التقليد الوصول إلى الحكم المراد بتوسط رأي المجتهد فيه بعد سد باب العلم به فإذا طابق العمل لرأيه فقد حصل الغرض المقصود من وجوبه غايته أن المقلد لم يسلك الطريق المنصوب و لا ضير فيه بعد الوصول إلى ما نصب له من

ص: 55

الواقع لعدم العبرة بالطريق بعد الوصول كمن صلى إلى القبلة و لم يلاحظ الجدي مثلا بنفس الظن بها ثمّ ظهرت الموافقة نعم، لو قيل بكونه شرطا تعبديا لصحة العمل فله وجه لكنه ممنوع أشد المنع و لو سلم لا ينفع إلا في مقام يؤدي المقلد العمل بدون التفات إلى التقليد فلو كان ملتفتا و لو إلى تقليد المفضول و كان العمل موافقا لقول الأعلى صار كأنه تقليدا لهما و الاشتراك غير مضر جزما إذ لا دليل على عدمه فإن مسماه لو حصل كفى في صحة العمل فالأخذ بقول الميت و الحي أو الأعلى و الأنقص بل العامي و الأفضل مع الموافقة أخذ بقول الحي و الأفضل. و الحاصل أن الفردية المشخصة لم يقم دليل على اعتبارها إذ غاية الإطلاقات أن العلماء مرجع و المرجعية تحصل بأخذ جنس القول و ما قضى بتعيين الأعلم فهو مع الاختلاف من جهة الظن النوعي بقربه إلى الواقع و الأخذ بغير الأرجح الذي معه يحصل الشك بالبراءة، و به صرحت المقبولة و بناء العقلاء لا يقضي بأكثر من ذلك و الإجماع، و إن كان ربما يشمل إطلاق معقدة لصورة الوفاق. لكن مع ملحوظية القرب إلى الواقع في معقده يقصر أيضا على صورة الخلاف، و أما الأصل فلا يجري مع وجود الأدلة الاجتهادية بخلافه، و لا يتوهم أنا عدلنا عما حكمنا به في أن الإطلاقات لا يصح التمسك بها في جزئيات المسألة لورودها في بيان أصل المرجع، و إنها لا تنافي جريان الأصل و لا تنهض حجة على صحة التقليد الاستمراري أو المفضول مثلا، فكيف ترجع لها هنا؟ بل مقتضى لزوم الأخذ بالتعيين في دوران الأمر بينه و بين التخيير في الطرق هو تعيين قول الأعلم فأصالة الشغل محكمة لدفعه أن المطلقات لا ريب في أنها تفيد إن حكم العلماء هو حكم الله تعالى، و إلا لما كانوا هم المرجع في صريحها و هذا المقدار كاف هنا فإن المكلف أخذ بحكم الله تعالى جزما غايته أنه أخذ من طريق آخر لم يلحظه الآمر فيلزم سقوط التكليف عنه إلا على الشرطية التي تقدم فسادها.

و أما الثاني: فالمشهور التخيير، و قيل بالبراءة، و قيل بلزوم الأخذ بالأثقل- و هو قد يفارق الاحتياط- مثل الأخذ بالتمام بالنسبة إلى القصر لو اختلف فيه المجتهدون المتساوون علما و ورعا فإن الاحتياط هو الجمع و قد يجامعه، كما لو اختلف المفتيان بين الوجوب و الاستحباب، فإن الأخذ بالوجوب أثقل و أحوط. و ردهما بمخالفة البراءة للإجماع بل للضرورة من الدين مع أن الإمارات لا يجري فيها أصالة التساقط عند التعارض، كما بينا و إن الأثقل لا معنى له إذ القواعد في مثله تقتضي إما البراءة أو الاحتياط، و لعل التخيير بين الفتويين لا يخلو من وجه و إن قلنا بالتوقف أو التساقط في تعارض الإمارات إنما الإشكال في بقية الصور و هي صورة الشك في الاتفاق أو العلم الإجمالي بالاختلاف مع معلومية الأفضل أو الشك بالأفضلية مع وجود الاختلاف في الفتوى. أما الأولى فقد اختار لشيخنا (رحمه الله) عدم وجوب الفحص خلافا لعمنا في الرسالة فجوز الأول العمل بقول المفضول حتى يتبين الخلاف و عكس الثاني و ألزم بالفحص و أظن أن ظاهر الأكثر ممن يوجب تقليد الأعلم عليه فيلزم إحراز العلم بموافقة الأفضل و إلا رجع إليه، و مبنى القولين أن تقليد الأعلم على القول به واجب مطلق أو مشروط بصورة العلم بالاختلاف، ذهب شيخنا إلى الثاني بدعوى حكومة السيرة الكاشفة عن تقرير المعصوم في الرجوع إلى المفضول مع الجهل بالاختلاف على الأصل الموجب للإطلاق من أصالة عدم حجية قول المفضول و من استصحاب الشغل و قاعدته و كذا حكومة الأخبار العامة و الخاصة التي شرعت التقليد على الأصل المزبور إذ غاية ما يخرج من إطلاقها صورة العلم بالخلاف و سهولة الشرعية أيضا تقضي به. و أورد عليه سيدنا و أستاذنا الشيرازي (سلمه الله تعالى)

ص: 56

بأن ظاهرهم اشتراط عدم مخالفة الأعلم في جواز التقليد فيلزم أن يحرز شبه الشروط الباقية مثل البلوغ و غيره التي هي من الشروط الواقعية التي تحرز عند العمل، و هو موقوف على الفحص فالفحص جزء لموضوع الحجة فلا يجري العمل بدونه لعدم المقتضي و ليس هو من قبيل المانع لينفى بالأصل بل لا بد من إحراز موضوع الحجة ثمّ العمل بفتوى واجده و لا ينفع أصالة عدم المعارض بخيال أن نفس وجود الأفضل ليس من موانع التقليد للمفضول و إنما المانع قوله المخالف فلو شككنا في وجوده نحكم بأصالة عدمه فيبقى حجية قول المفضول سليما عن المعارض لوهنه بتوقفه على أمور.

منها: إحراز موضوع حجية قول الشانئية.

و منها: أن عدم جواز العمل لوجود المانع لا لفقد المقتضى.

و منها: كون العمل بعدم المعارض جائز قبل الفحص مطلقا أو حيث ينتفي العلم الإجمالي.

و منها: أن لا يكون له معارض من الأصول كي لا يسقط عن الاعتبار و إلا كان الأخذ به دون معارضه بلا مرجح و الالتزام بها محل تأمل لقيام الاحتمال باشتراط حجية قول المجتهد بعدم معارضته لقول الأعلم فيلزم إحراز عدم المعارضة بالعلم أو بما يقوم مقامه فيمنع دعوى حجية الشائنية لو لا وجود قول الأفضل و إلا لكان المدعى للزوم تقليد الأعلم يخصه بصورة العلم بالخلاف و ليس كذلك جزما لما مر من الأصل و الإجماع الشامل بإطلاقه لصورة الجهل بالخلاف و للنصوص فقوله (ع) (

ما حكم به أعلمهما و أفقههما عند اختلاف الحكمين

) يظهر منه أن حكم الله تعالى الواقعي في تلك الحالة متابعة قول الأعلم و هو في الخبر مطلق بالنسبة إلى غير صورة العلم بالموافقة و أما هي فمسكوت عنها و عن حكمها فتشمل صورتي العلم و الجهل باختلاف الأعلم مع غيره كذا قرر و هو متين غير أن اشتراط عدم المعارضة في الأمور العدمية التي يمكن إحرازها بالأصل نحو عدم المانع فقول المفضول حينئذ لا بأس بحجيته و لا فرق ظاهرا بين المعارض مانعا أو كون عدمه شرطا فكيف يدفع الأول بالأصل دون الأخير على أن الثابت من نحو المقبولة كون الأعلمية عند الاختلاف مرجحة لواجدها كمرجحات الخبر عند التعارض و هو غير موجب لتقييد اطلاقات الأدلة كما، في الخبر إذ تقديم الأرجح في مقام العمل لا يسقط المرجوح عن الحجية الشأنية، و مثله الرجوع إلى الأعلم فإن موضوع الحجة باق في غيره، و قول الأعلم المخالف لا يسقطها، و لو وجب تقديمه أشبه شي ء بالأهمية الموجبة لترجيح أحد المتزاحمين بناء عليه أن شرط الأعلمية في المفتي يجامع سائر الشروط في الحياة و العدالة و غيرهما في كونه شرطا واقعيا، و يفارقها من جهة أنه اختياري مقرون بحال التمكن لا مطلقا فيسقط اعتباره عند تعذر تحصيله إما كونه واقعيا لا علميا فيدل عليه أن الأفقه المحكوم بتقديمه في المقبولة هو الأعلم الواقعي؛ لأن الأصل في الشرط المأخوذ في اللفظ أن يكون واقعيا لوضع الألفاظ للمعاني بنفس الآمرية بحاقها إلا أن يدل على العدم دليل و بناء العقلاء و الاحتياط أيضا يقضي به فهي كاشتراط الطهارة من الحدث و الخبث في الصلاة و حينئذ فلو قلد العامي من قطع بأعلميته و انكشف العدم و مخالفة أعماله لفتوى الأعلم لزمه العدول في مستقبل أعماله و القضاء لما صنعه بناء على عدم الإجزاء بخلاف ما لو كان الشرط علميا فإنه لا يلزمه الإعادة و القضاء لانحصار مورد الإجزاء بالشروط الواقعية عند التخلف و لا دخل لمخالفة الشروط العلمية في مسألة الإجزاء أصلا، بل هي من باب تبدل العنوان كالسفر و الحضر و لا ريب في صحة ما سبق

ص: 57

من الأعمال. نعم عسى أن يتصيد من كلمات العلماء هنا أنهم يقولون بالاجزاء هنا للحرج لو أعاد و قضى أعماله السابقة التي لم توافق فتوى الأعلم غب انكشافه و ليس هو كالمجتهد عند ظهور تخلف الإمارة، و لكنه منظور فيه بما سلف في كون العسر المنفي في الشريعة هو شخصية لا نوعية و إنه لا يشرع حكما كليا بل يمكن أن يدعي أن الحكم بالاجزاء عند مدعيه لو تخلف الطريق مقصورا على الأحكام فقط لا ما يعمها و الموضوعات، و به صرح الفاضل في" تهذيب الأحكام" و" نهاية الأحكام" حيث فرع مسألة الاجزاء و عدمه على مسألة التصويب و التخطئة و الحال أن العامة و الخاصة على حصر النزاع في تلك المسألة في الأحكام دون الموضوعات، و خطأ الشهيد من بعده على تفريعه على النزاع في التصويب و التخطئة خطأ المجتهد في القبلة و إلزامه بالقضاء و عدمه بأن ذلك في الموضوعات المتفق على التخطئة فيها و لا ينافي ذلك الحكم بصحة صلاة من لم يصل إلى حد الاستدبار على القول به لأنه مبني على تعميم موضوع القبلة لما بين المشرق و المغرب لا لاجزاء الأمر الظاهري الشرعي، و الدغدغة بأن الأعلمية ليست من الموضوعات لا يلتفت إليها بعد الحكم بثبوتها بالبينة المنحصر موردها بالموضوعات و ليس حالها إلا حال ثبوت الموت بالبينة مع قيام الاتفاق على ترتب آثار الحياة لو انكشف الخلاف من رد ماله و زوجته إليه و آثار انكشاف الخطأ في المقام هو القضاء و الإعادة، اللهم إلا أن يقال بأن ما نحن فيه من الموضوعات المتفرعة عليها الأحكام الكلية مثل الحائر الحسيني، و مثل موضوع علم الرجال في باب التعديل و تمييز المشترك فإن حاله حال الأحكام في الإجزاء و عدمه و له وجه قوي و الأوفق في النظر عدم الإجزاء إذا أحرز شرط الأعلمية بطريق شرعي كالبينة و نحوها و مثلها سائر شروط الإفتاء فلو قلده على أنه حي باستصحاب أو بينة فبان موته انتقض عمله بأسره، و أما كونه اختياريا فلدخول فاقد الأعلمية إذا جهل المكلف وجودها في الإطلاقات لأن الخارج منها الذي قضى به الدليل الخارجي هو مانعيتها من الرجوع إلى فاقدها مع العلم بها أو مع إمكان الوصول إلى الأعلم لا مطلقا فيسقط اعتبارها فيما عداهما فتخالف باقي الشروط فإن فاقدها لا تشمله الأدلة أصلا و مع تعذرها على العامي يرجع إلى القواعد المقررة من الأخذ بمورد الإجماع أو الشهرة، و أما عدم وجوب الفحص الذي رجحه شيخنا خلافا لعمنا (طاب ثراهما) فالذي أراه موافقة العم في ذلك، لأن العمل قبل الفحص حال وجود العلم الإجمالي بالمعارض لا دليل عليه فإن قول المجتهد و إن ثبت حجيته الشانئية في حق المقلد لكنه لا يزيد على الخبر المعتبر في حق المجتهد فيجب الفحص عن معارضه أولا، ثمّ إجراء الأصل فإن العمل بالأصول مشروط به و ليس هو من الموضوع الصرف المشتبه كي تجري فيه الأصول، و لا يشترط الفحص فيه بل ما آل الشبهة فيه إلى الشبهة في الحكم الكلي فإن مرجع الشك في دليل الحكم إلى الشك في أصله و لا يتفاوت الحال بين كون اعتباره من باب الطريقية أو الموضوعية فلا محيص عن الفحص، إما لجهة إحراز المقتضي أو لاحتمال وجود المانع إذ لا تتم الحجة بدونهما، و أما لزوم الفحص مع العلم الإجمالي في غير محل الابتلاء، فربما قيل بلزومه أيضا بخيال أن مدركه استقرار طريقة العقلاء على الامتناع من العمل بالدليل قبل التفتيش مع احتمال الاختلاف أو كان الاختلاف معلوما لكنه خارجا عن محل الابتلاء و دفعه أن مجرد العلم الإجمالي في المخالفة في جميع المسائل من حيث هو لا ينفع بعد خروج أكثر المسائل عن محل الابتلاء إذ لا تجب ملاحظة ما هو خارج.

و الإنصاف أن الفرق بين المقامين بعد وجود العلم الإجمالي لا ينفع فإن ارتفاعه مطلقا شرط في العمل بالظواهر فالأحرى سقوط الفحص عن المسائل التي لم يبتل بها المكلف

ص: 58

مطلقا إذا حصل الشك في اختلاف الفاضل و المفضول، و أما ما كان منها محلا للابتلاء فإن لم تبلغ حد الشبهة المحصورة كأن حصر العامي الاختلاف في مسائل عشر، أو شك في المبتلى به في أنه منها لا عبرة قطعا بهذا العلم الإجمالي إذ وجوده كعدمه بخلاف ما لو حصر العشر في مسائل الطهارة و شك في كفاية المرة في التطهير فإنه يلزمه الفحص فإن العلم الإجمالي كالتفصيلي حينئذ في الأحكام و الآثار فيلزمه الفحص عن فتوى الأعلم مهما أمكن و لو بالأمارات سواء علم بمخالفة المفضول له أم لا. فإن تعذر عليه ذلك أخذ برأي المفضول إن علمه ما لم يظن الخلاف فإن ظنه و قلنا باعتبار الظن في حقه لزمه ترك العمل بقول المفضول فيما ابتلي به و الرجوع لغيره من الطرق كالاحتياط و شبهه، و إن حكمنا بعدم اعتباره أخذ بقول المفضول من جهة حجتي الشأنية التي لا يعارضها اشتراط حجية قوله بعدم المعارض أو حجية الظن بوجود المعارض مع ضميمة جريان أصالة العدم بعد الفحص بل الحق سقوط ما تخيله صاحب الفصول من إن الظن بالفتوى من جملة الظنون المعتبرة التي يرجع لها المقلد كيف و ظنه ساقط عن درجة الاعتبار و لا يجوز للمقلد قطعا الاعتماد على ظنه في فتوى من يقلده عند العجز عن تحصيله لفتواه بغير الظن بل لا بد من رجوعه حينئذ إلى الشهرة و غيرها من الإمارات فإن فتوى المجتهد مؤداها الظن بحكم الله الظاهري و ما سواها من الإمارات تكشف عن الحكم الواقعي مثل الشهرة و شبهها، فالعمل بما يحصل به الظن بواقعي الحكم مقدم على ما يحصل معه الظن بظاهرية غايته تقديمه مع العلم تسهيلا و أما قيام الظن مقامه فلا و منه يظهر أن فتوى المفضول كالأفضل إذا لم يكن أحدهما قطعيا بل كانا مظنونين معا لم يجز له تقليد أحدهما و قول العدلين أو الواحد أو الشهرة من طرق القطع المفيدة له نوعا و أما شخصا فلا تتناهى.

بقي الكلام في الشك في أفضلية أحد المفتين على الآخر مع الخلاف في الفتوى و هي آخر الصور و ينتهي القول فيها في مقامات.

المقام الأول: في وجوب الفحص و عدمه.

المقام الثاني: فيما يثبت به الأعلمية بعد الفحص.

المقام الثالث: في أنه هل يتخير المقلد بينهما في التقليد بعد العجز عن تشخيص الأعلم أم يرجع إلى غير التقليد من الطرق؟.

المقام الرابع: أنه على فرض التخيير فهل هو بدوي أو استمراري؟.

فنقول: ظاهر الجماعة هو وجوب الفحص من باب المقدمة لإحراز العلم بالأعلمية إذ ليس الذي يجب تقليده هو الأعلم المعلوم بل هو الأعلم الواقعي المستلزم لكون العلم مقدمة وجودية له فيجب تحصيلها على حد سائر الواجبات المطلقة أو لأن تعدد المجتهد يورث تعدد الطريق و لا يجوز العمل بواحد من هذين الطريقين أو الأكثر إلا بعد المرجح أو لأن التخيير في مثل المقام من الأصول العملية و إن لم يكن كذلك في تعارض الأخبار و لا يجوز العمل بالأصل قبل الفحص عن المعارض فهو من باب اشتباه الواجب بالحرام أو لأن حجية كل واحد منها قبل الفحص مشكوكة و بعده معينة فلا تجري فيها أصالة عدم الحجية أو لأن التخيير حكم عقلي نشأ من فقد المرجح و العقل لا يحكم به مع احتمال أن يكون لأحد الفردين أو الأفراد مرجح فيجب الفحص لنفي المرجح أو لوجوده.

و الحاصل أن احتمال الأعلمية في أحدهما توجب دوران الشك بين التعيين، و التخيير في تكليف النفس الأمري و مقتضى الأصل هو التعيين، و احتمل سيدنا الشيرازي دخول

ص: 59

صورة الشك في العمومات القاضية بالتخيير فإن القدر الخارج منها صورة العلم بالأعلمية. و فيه ما عرفت في منع من تمسك بإطلاقها على عدم وجوب تقليد الأعلم، و احتمل بعض مشايخنا إجراء أصالة عدم الأعلمية. و فيه أيضا أنها لا تكون بنفسها موضوعا للحكم الشرعي بعد كون المستفاد من الأدلة ثبوت التخيير للعنوان الوجودي و هو معلومية التساوي لا للأعم منه و من الأمر العدمي، و لو فرضنا إثبات التساوي به فيحتاج ثبوت التخيير إلى دليل آخر غير مجرد التساوي الثابت بأصالة عدم الأعلمية على فرض الثبوت فإنه ليس من أحكامه العقلية و لا يترتب على المستصحب إلا الأحكام الشرعية. نعم لو ثبت أن التخيير هنا كهو في الأخبار مستفاد من الأدلة الشرعية كان له وجه و على أي حال فمن المحقق الثابت أن الأصول التعبدية الشرعية لا تثبت أكثر من الآثار المجعولة للشارع فلا يمكن إثبات التخيير بأصالة عدم الأعلمية إلا بواسطة أمر عادي و هو لزوم التساوي لها فيعود إلى الأصل المثبت اللهم إلا أن يدعي أن موضوع التخيير الأمر العدمي و هو عدم التفاضل لا الوجودي و هو التساوي و لعله مرضي يقضي به ظاهر المقبولة حيث ذكر السائل بعد بيان الإمام" عليه السلام" للمرجحات: (أنهما عدلان مرضيان لا يفضل أحدهما على صاحبه) فكأنه فهم أن الترجيح من أحكام التفاضل و إن عدمه بنفسه لا يوجب الترجيح و التعيين، فأصالة عدم الأعلمية تكفي في إثباته لكونها تنفي موجب التعيين و لا يلزم إحراز عنوان التساوي مثل: (أكرم العلماء و لا تكرم الفساق) فإحراز عدم الفسق يكفي في لحوق حكم العام، و لا يلزم إحراز العدالة فإن مجرد أخذ عنوان في المخصص لا يقتضي أخذ ضده في المخصص بل يكفي في نفي حكمه عدم كون المشكوك من أفراده إلا أن قيام ظن عدم التساوي يكفي في لزوم الفحص كما في غير المقام من الشبهات الموضوعية التي لا يجري الأصل فيها إلا بعد التفتيش مثل مستصحب الليل و عساه لغلبة المخالفة. و منه ما نحن فيه فالأحرى الحكم بلزوم الفحص مع العلم بالمخالفة سواء علم المقلد إجمالا بالأعلمية أم لا و عدم لزومه إذا لم يعلم الاختلاف بالفتوى و الأعلمية، و لا ريب في الحكم بالتخيير بعد الفحص أو قبله حيث لا نوجبه لانحصار طريق العامي به على قول مشهور، و الأحرى عندنا هو التخيير بين العمل بقول المجتهدين مع مساواتهم و بين الأخذ بغيره من الطرق المقطوع بإيصالها إلى الواقع و في وجوب تقديم ما يقطع المكلف بإيصاله إلى الواقع على الأخذ بقول المجتهد المظنون إيصاله إشكال. نعم ينبغي القطع بعدم جواز تقديم ما يظن بإيصاله إلى الواقع على قول المجتهد و الله العالم و أما كون التخيير استمراري أو ابتدائي فيتوقف الحكم به على بيان صور تبعيض التقليد و هي ثلاثة:

الصورة الأولى: تبعيضه في المسائل المختلفة التي لا ربط لأحدها بالأخرى و لا ريب فيه و لا إشكال في جوازه.

الصورة الثانية: أن يقلد في الحادثة الشخصية شخصا معينا فإنه لا يجوز له الرجوع إلى غيره فيها و عليه المعظم و ظاهرهم ذلك حتى لو فضل الثاني إذ لم يثبت أن أفضلية الأخر من النواقض لكي يتفرع عليه الجواز بالمعنى الأعم و هو مشكل.

الصورة الثالثة: أن يرجع إلى الثاني في الحوادث المستقبلة من جنس تلك المسألة مثل ما لو قلد من يرى صحة الوضوء بماء الورد و عمل به برهة أو في صلاة و بعد ذلك هل يجوز له تقليد من يرى الحرمة أم لا؟ ذهب إلى الجواز الفاضل في" النهاية" و ثاني المحققين و الشهيدين في" الجعفرية" و" المقاصد العلية" و جزم بالعدم الأكثر" كالتهذيب" و" الذكرى" و" المنية" و غيرها. بل لم نجد القول به من متأخري المتأخرين و هو الأنسب

ص: 60

بالفقاهة، و يدل عليه أصالة عدم حجية قول الثاني في حق المقلد بعد أن كان مشكوك الجواز فإن الشك في حجية شي ء علة تامة لعدمها و ما ذهب إليه القمي من البراءة سبق منعه مضافا إلى أن استصحاب الحكم المختار مقدم على استصحاب التخيير و مثله استصحاب الصحة أو الفساد، و قال سيد المفاتيح بأصالة صحة تقليد الأول إذ الرجوع يقتضي فساده و يقضي به أيضا أصالة الشغل لدوران الأمر بين البقاء الموجب للبراءة و بين العدول أو التخيير المحتمل به عدمها و شغل الذمة يمنع من المصير إلى ما لا يعلم منه براءة الذمة و للزوم المخالفة القطعية في الحكم الواقعي التي لا يرتفع قبحها في الوقائع المتدرجة و إن كان العلم إجماليا، و لا يقدح مخالفة العلم الإجمالي في بعض الموارد لقصره على الموضوعات دون الأحكام و إليه ينظر اتفاقهم على عدم جواز خرق الإجماع المركب لأن في إحداث القول الثالث مخالفة قطعية، و زاد بعضهم في الاستدلال عليه بإجماع المختصر و العضدي و الأحكام و المنية و بلزوم الهرج و المرج و بحصول الامتثال عقيبه لأن الامتثال حصل بتقليد الأول؛ و بان التقليد شرع للجاهل و المقلد بتقليد الأول صار عالما إلى غير ذلك من الأدلة التي سطروها و نوقش في جميعها. أما الأول فبان عموم أدلة التقليد أو استصحاب التخيير قبل الرجوع إلى الأول أو استصحاب حجية قول الآخر مما نرده لكن ذلك موقوف على أن يكون الرجوع إلى المجتهد في كل واقعة مماثلة أو مغايرة تقليد ابتدائي و إلا فما كانت أدلة التقليد لتقتضي ذلك بعد دفعها للتحير الابتدائي و هذا تحير آخر يحتاج رفعه إلى دليل آخر و أما الاستصحاب بتقاديره فلا مسرح له هنا لعدم إحراز موضوعه، و هو مقرون بالتحير المرتفع هنا لا أقل من الشك في موضوعه و أما الثاني فيتقدم استصحاب التخيير عليه الذي يلزمه إلغاء هذا الاستصحاب لأنه حاكم عليه إذ لا مانع من استصحاب التخيير المشكوك به في الزمن الثاني بعد العمل بواحد من أفراد التخيير فهو من باب المزيل و المزال و من هنا حكموا بتقديم الاستصحابات الموضوعية على الحكمية و استصحابات الأصول على استصحابات الفروع من جهة عدم وجود الشك في الحكم و في المسألة الفرعية بعد زواله عن الموضوع و منه ما لو شك في الطهارة الصغرى بعد مجي ء البول لأجل الشك في نسخ ناقضيته و عدمه فباستصحاب عدم نسخ الناقضية لا يبقى شك في عدم بقاء الوضوء و ليس منه حكم الأصحاب بتقديم قول المشتري لو اختلف البائع معه في الخيار بعد العقد لزوال سلطنة البائع بالعقد فكيف تستصحب و في الباقي بما مر عليك من الأدلة و العمدة في الدليل على المطلوب هو الأول و إن جوازه كذلك مستلزم للتفكيك بين الوقائع و ليس التزام المقلد بالحكم إلا كالتزام المجتهد بما يؤدي إليه ظنه فلا يجوز حينئذ أن يرجع إلى الأخر إلا على التصويب المعلوم بطلانه فعلم من ذلك كله أنه ابتدائي لا استمراري، ثمّ أنه لا فرق في عدم جواز العدول في مماثل الواقعة بين كون التقليد هو نفس الأخذ أو الأخذ و العمل، قال شيخنا في جواب سؤاله لا يجوز للمقلد العدول بنفس الأخذ قبل العمل، و إن قلنا أن التقليد هو العمل و وجهه هو طريان الشك بمجرد أخذ الحكم في جواز تقليد الآخر لأن المتيقن من تخييره هو ما كان قبل الأخذ، و أما بعده بكون التخيير بالنسبة إلى الثاني مشكوك فلا يجوز الاتكال على قوله لأصالة عدم حجية المشكوك فإن الشك في الحجية علة تامة لعدمها إذ الشك في شرطية الطرق معتبرة كالشك في الشرط المعلوم في الأحكام في لزوم الاحتياط بالإتيان به و مرجعه إلى دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الطريق و المقدم التعيين، كذا قرر و الأنسب بمذاق الفقاهة هو إناطة عدم جواز العدول بالتقليد و لا إجمال في معناه فإن العلماء فيه على قولين فمن يرى أنه العمل لم يعبأ بالأخذ فيجوز العدول به دون من يرى أن الأخذ، و يحتمل جواز

ص: 61

العدول و لو قيل أنه الأخذ به لا بالعمل للإطلاقات القاضية بالتخيير الشاملة لصورتي التقليد خرج العمل للوفاق على عدم العدول به و بقي الأخذ بلا مخرج و لعله الظاهر من الفاضل حيث قيد عدم الجواز بالعمل فقط فتأمل و على فرضه فالعمل يتحقق بما يرتفع به الحكم الشرعي و لو وضعيا أفعالا و تروكا بل يكفي مجرد الالتزام في باب التروك و كذلك الحكم الوضعي سواء كان من إنشاء الخلق كالبيع و الصلح و الطلاق و العتق أو من إنشاء الخالق المعبر عنه بالتسبيب الشرعي كموجبات الوضوء و الغسل و التذكية المجعولة سببا للطهارة و ليس العمل في الأول سواء إنشاء الصيغة من العاقد فيترتب عليه الأمر بالوفاء و تشمله الآية و يحصل الملزم العملي و إن لم يترتب على العقد إثارة من نقل المبيع و أخذ الثمن، و في الثاني يمكن أن يكون المحقق للتقليد هو نفس إيجاد السبب فإذا أجنب أو بال يلزمه إيجاد المسبب على النحو المأخوذ حكمه و لكن الأولى أن التقليد لا يلحق إلا بهما لأن المناط في العمل معروض الحكم الشرعي و لا يعرض إلا بعد فعل المسبب على ما يراه جماعة من عدم الجعل للأحكام الوضعية، و أما على المختار من الجعل يحصل الملزم العملي بنفس إيجاد السبب لأنه يصدق عليه أنه فعل رتب الشارع عليه حكما و هو السببية فلو أخذ المكلف ممن قلده أن الجنابة سبب للغسل كان مجرد إيقاعها عمل بقوله، و يظهر مما ذكرنا جواز العدول في الأعمال التي وقعت باطلة عن جهل أو نسيان أو سهوا أو غيرها مما ظن المقلد المطابقة فيها، و كذا له العدول لو عمل بلا تقليد بناء على أنه العمل و إن صادف العمل رأي المجتهد و له وجه أن لم يدخل بالتقليد. المصطلح. و الميزان في معرفة المتماثل من المسائل دون غيرها العنوانات الواردة في الكتاب و السنة فكل واقعتان اندرجتا في شي ء من موضوعات الأحكام الشرعية يحكم بالمماثلة فيهما بحيث يقطع من خارج عدم الفصل بينهما كما لو حكم المجتهد بنجاسة ماء العنب بعد العلم بأنه ليس لخصوصه حكم في الشريعة بل لأنه مسكر فيشمل حينئذ كل ما أسكر، فلو علم أنه ليس كل مسكر نجس مثلا بل ما كان منه خمر و ليس كل كافر كذلك فيخرج الناصبي مثلا جاز له الأخذ من غيره في المختلف فيه من حيث أن لبعض الأفراد عنوانا غير كلية و خروجها عنه إخراجا حكميا فالموضوعي بطريق أولى، و به يفرق بين نجاسة الكافر أو المسكر و بين حلية البيع فإن العنوان فيها هو الكلي و لا كذلك البيع لتعدد العنوان فيه فإن لبيع الصرف عنوان غير بيع السلم فلا يكفي التقليد في أحدها بالنسبة إلى الباقي و حينئذ فوحدة الدليل لا تكون مناطا للمماثلة و إلا فلزوم الوفاء لجميع العقود و لا يمكن سراية التقليد في البيع إلى غيره من العقود حتى لبعض أفراده مما له عنوان بالخصوص، و الظاهر أن لوازم الواجب حكمها حكم الواجب فلو قصر في الأربع بحكم مجتهد أفطر و لا يجوز له التبعض في المسافة فيقصر في أربعة، و يفطر بثمان. نعم المماثلة التي لا تعلم إلا من قبل المفتي لا من حيث الإفتاء بل من حيث أنه من أهل الخبرة يجب على المقلد الاتباع و إن شك بالمماثلة هذا كله في الأحكام و أما الموضوعات المستنبطة التي شرع التقليد فيها غير الصرفة أو هي إذا كانت منشأ لأحكام كلية شرعية مثل الحائر الحسيني و موضوع الغناء و الكافر و الركعتان في باب شكوك الصلاة، و الركعة، و ما شاكلها مما اختلف فيه و في حكمه و الظاهر عدم جواز التقليد في تشخيص الحائر لشخص و في حكمه لآخر من تحتم القصر أو التخيير، و كذا في موضوع الغناء لواحد و في حكمه لآخر مع الاختلاف، و كذا في موضوع الكافر و في حكمه و وجهه أن الحكم ترتب على ما أعتقده المفتي من الموضوع لا على الموضوع الواقعي ليجوز

ص: 62

للمقلد إحرازه و لو من غير مجتهده لو قطع فيه فإن الحكم مع موضوعه كالقيد و المقيد و الله العالم.

الفائدة الثانية عشر (عدالة المفتي):

عدالة المفتي و القاضي و إمام الجماعة و الجمعة و الشهود خصوصا على الطلاق منصوص عليها بل الإجماع المحقق على ذلك لكن هل هي على سبيل الطريقية أو الموضوعية في جميع ما اشترطت فيه؟ الظاهر من كلماتهم في الموارد أنها قسمان:

منها: ما كان طريقا إلى الواقع بمعنى أن الواقع لو أحرز بغيرها صح العمل و إن اشترطت فيه.

منها: ما كان اعتبارها على جهة الموضوعية.

و القسم الأول: (أمور)

أحدها: اشتراطها في قبول الخبر فلو علم صدق المخبر لزم قبول خبره و إن لم يكن عادلا و لأجله جاز له التحمل مع علمه بفسقه.

الثاني: اشتراطها في نائب الحج و سائر العبادات عن حي أو ميت إذ صحة العبادة لا تشترط بالعدالة فلو حصل الوثوق بأداء النائب على الوجه الصحيح صح استئجاره و إن كان فاسقا.

الثالث: أمين الحاكم على مال الأيتام أو قبض الحقوق فإنه قد اشترطت فيه العدالة إذا أنس منه الحاكم عدم الخيانة صح استئمانه.

و القسم الثاني: اعتبارها في وجه قوي في إمام الجماعة و الجمعة فلا يجوز الائتمام بالفاسق- و إن قطع بصحة عمله- و في شاهدي الطلاق فإن الأدلة تقضي باعتبارها على جهة الموضوعية، و في القاضي و المفتي أيضا كذلك و إن علم بعدم حكمه بالباطل و عدم إفتائه بغير ما أدى إليه نظره بعد الجد و الاستفراغ فإن ذلك لا يكفي في جواز الرجوع إليهما في القضاء و الإفتاء. نعم المفتي يجوز له أن يعول على ظنه و إن علم الفسق من نفسه لعدم حجية ظن الغير في حقه كما أنه لا يجوز له الفتوى حتى لمن قطع بعدالته إلا بما قطع به من الأحكام لعدم مدخلية وصف العدالة بالخبر عن الواقع، و لو شك في عدالة نفسه لجهله بالعدالة موضوعا لزمه معرفتها أو لشكه في ثبوتها استصحب الحالة السابقة و استظهر في الفصول جواز إفتائه بمظنوناته مع علمه بفسق نفسه زعما منه أن آية النبأ تدل على عدم قبول نبأ الفاسق لا عدم جواز الإنباء، و يؤيده أن ليس في الأخبار الخاصة مثل قوله" عليه السلام" لعلي بن المسيب:"

عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين و الدنيا

" و لا في الأخبار العامة المطلقة نحو قوله" عليه السلام":"

من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه

" و كالمقبولة و غيرها مما يقضي بعدم جواز إفتاء الفاسق غيره فيما ظنه. و فيه أن الأصل هو الحرمة لجهة الإغراء بالجهل فالجواز محتاج إلى الدليل و الآية و الأخبار ساكتة عن إفادة الجواز، و لأن اعتبار العدالة فيما أخذت فيه موضوعا كله من واد واحد يلزم القول بعدم الجواز في الفرض المزبور و لو شك في العدالة أنها اعتبرت على جهة الموضوعية أو الطريقية لزم القول بالأول فلو رتب الشارع الحكم على موضوع و اعتبر العدالة فيه دار الحكم مدارها وجودا و عدما لحصول الشك في الإطاعة مع عدمها فلا يمكن الحكم بكونها طريقا إلا إذا ثبت في الخارج حصول

ص: 63

مراد الشارع بدونها و ذلك كاعتبارها فيمن يتولى المصالح عند فقد الحاكم على الأظهر إذا حصل المطلوب من غير العدل و خالف في ذلك جماعة حتى لو كان المتولي مأمونا و المولى لا حظ فيه الغبطة و المصلحة و لكنه خلاف ما يظهر من النصوص مثل صحيحة علي بن رباب و فيها:"

لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم ... إلى آخره

" لكن الاحتياط لا يترك و على كل حال يلزم غير المباشر لمال القصير و الغائب إحراز صحة البيع لو اشتراه ممن تصرف فيه إما بمعلومية اشتماله على المصلحة و إما بإحراز عدالة المتصرف التي تمنعه عن المحاباة، و الظاهر أنه لا واسطة بين الفاسق و العادل و لو قيل بها لحق الفاسق غير العادل مطلقا فيما اعتبرت العدالة فيه على جهة الموضوعية و الله العالم.

بسم الله الرحمن الرحيم

و به نستعين

و صلى الله تعالى على محمد و آله

الفائدة الثالثة عشرة: (ظهور الوجوب في الواجب النفسي):

ظهور الوجوب في الواجب النفسي عند الإطلاق مما لا يكاد ينكر مادة و هيئة، لكن هذا الظهور ليس من جهة الوضع البتة إذ الثابت اشتراك الواجب بين النفسي و الغيري وضعا لإطلاق الواجب على الغيري و عدم صحة سلبه عنه و للتبادر فلا جرم أن يكون منشأ هذا الظهور إما من باب الانصراف إلى أكمل الأفراد أو ظهورا إطلاقيا من جهة الخلو عن القيد فيما يحتاج إليه فالنسبة من جهة دليل الحكمة و إهمال القيد للآمر، و تظهر الثمرة في المفاهيم فإن المنفي في المفهوم على تقدير كون مادة الأمر أو هيئته موضوعة للوجوب النفسي أو منصرفة إليه هو الوجوب النفسي لأنه الثابت في المنطوق بخلاف ما لو كان الأمر موضوعا للقدر المشترك أو كان مشتركا لفظيا بينهما فإن المنفي في المفهوم مطلق الوجوب. نعم يتم ذلك فيما لو كان الانصراف إطلاقيا من جهة إهمال القيد فالمنطوق يفيد النفسية و ينفي في المفهوم مطلق الوجوب الشامل لهما لأنه الثابت منطوقا و إنما حكم بالنفسية منطوقا لأمر هو خارج عن اللفظ و هو إهمال القيد مثلا لو قال المطاع: (أكرم الجائي بشرط إهانة الذاهب) فمفهومه عدم الإكرام عند عدم المجي ء أهنت الذاهب، أو لم تهنه، فالمفهوم رفع وجوب الإكرام مطلقا لأن المذكور في المنطوق الإيجاب من الجملة فالمفهوم رفعه مطلقا لا في الجملة. و لا فرق بين أن يكون الإطلاق من جهة الشمول لجميع الأحوال و الكيفيات و هو المسمى (بالإطلاق الأحوالي) و بين أن يكون ناشئ من المادة الصادقة على الوجوب النفسي و الغيري، بل ربما يفرق بين المفاهيم فيحكم باستفادة الوجوب النفسي من القضية الشرطية دون غيرها من المناطيق من جهة العلية فقولنا: (إذا أحدثت فتوضأ) يظهر منه بل صريحه، أن الحدث علة تامة للوضوء لا أنه جزء علة و الحدث في المثال معرف لذلك الغير فلو شملت القضية الشرطية أو احتمل منها الوجوب الغيري انتفت السببية منها، و كذلك الحال في العيني و الكفائي و التخييري، فقول الآمر: (صل على الميت إن حضر) أو (إذا أفطرت فصم شهرين متتابعين) إن الصلاة و الصيام مطلوبان على كل حال سواء صلى غيرك أم لا، و سواء عتقت أو أطعمت أم لا.

ص: 64

و الحاصل أن مفاد القضية الشرطية أن يكون الوجوب نفسيا عينيا و إلا تنتفي السببية التي اشتملت عليها إلا إذا قامت قرينة على الخلاف كما في المثالين و حينئذ فلو دار الأمر بين الوجوب النفسي أو الغيري في القضية الشرطية يحمل على النفسي لا محالة، كما أنه لو دار الأمر بين الوجوب الغيري أو الاستحباب، يقدم الغيري لأنه أقرب المجازات بالنسبة إلى مطلق الوجوب الشامل لهما و لا يضر كون الاستحباب مطلوبا لنفسه فإن هذه الرجحانية لا توجب تقديمه في مقام الدوران لأقربية الوجوب الغيري من حيث المنع من الترك فيه إلى لفظ الوجوب من الاستحباب، و يحمل لفظ الوجوب أيضا على العيني لو دار الأمر بينه و بين الكفائي و التخييري، و كذا القول في الأوامر الإرشادية لأن فيها نوع إلزام. و مما ذكرنا يظهر أنه لو شك بين أن يكون النكاح متعة أو دواما يحمل على الدوام لإطلاق العقد المنصرف لذلك. لكن يشكل الحال في ترتب آثار العقد الدائم عليه لأصالة عدم ترتبها. و قد يفرق بين مقام الترافع و غيره فلو شك في غير مقام الترافع بين كون النكاح منقطعا أو دائما يحكم بالدوام و يترتب عليه الآثار إما لكونه مشتركا بينهما و إما للانصراف القائم مقام الوضع. و أما في مقام الترافع فالأصل عدم الدوام من جهة النفقة و الإرث و القسم. فتخلص ثبوت الحكم بالوجوب النفسي في مقام الدوران للدليل الاجتهادي، و منه أصالة الإطلاق المحكوم بأنها من الأصول اللفظية أو مما هي بحكمها لا من الأصول التعبدية الشرعية ليقال أنها من الأصول المثبتة، و أما لو كان القاضي بالوجوب دليلا لبّيّا و شك بكونه نفسيا أم غيريا فصور الدوران ثلاثة تنشأ من تحقق أحدهما و احتمال الأخر و عدمه، و على التقادير فالشك إما أن يكون قبل دخول الوقت أو بعده، و الأول لا ريب في جريان أصالة البراءة فيه و يعود الشك في الثاني إلى الشك في الشرطية و الجزئية ضرورة أن وجوب الغير من أجزاء الواجب أو شروطه و كل على مذهبه فإن قيل بأصالة الشغل فيه لزم الجزم بكون الوجوب غيريا لأصالة البراءة من الوجوب النفسي الحاكمة أصالة الشغل عليها، و إن قيل بالبراءة انتفيا معا و لزم الإتيان بذلك الواجب المشكوك لثبوت التكليف به في الجملة و يلزم المكلف عند تركه واجب نفسي إذ هو إن كان غيريا و تركه ترك فقد فوت ما توقف عليه، و إن كان نفسيا فقد تركه فيلزمه أن يؤدي ذلك الفعل بنية القربة المطلقة المشتركة بين النفسية و الغيرية. و أما الآثار المرتبة على أحدهما فهي منفية بالأصل هذا إذا كان الشك بينهما متواطئا فلو كان الواجب نفسيا و شك في غيريته فأصالة الشغل تحكم بالغيرية و أصالة البراءة تنفيها إن حكمنا بجريانها في الشرائط و الأجزاء فيسلم الوجوب النفسي عن المعارض بعد جريان البراءة في الغيري، و أما لو كان غيريا و شك بنفسيته فلا ريب بجريان البراءة و نفي الوجوب النفسي بها و لا مجرى لأصالة الشغل بالنسبة إلى الشك في الوجوب النفسي و عدمه بالاتفاق فيحكم حينئذ بالوجوب الغيري نعم يبقى الإشكال في الصورة الأولى و هي الإتيان بالفعل المردد بين الوجوب الغيري و النفسي لجريان أصالة البراءة فيهما و وجوب إتيانه على المكلف لثبوت التكليف في الجملة، فهل يشترط صحة ذلك الغير به لاحتمال الغيرية فيه كما لو شك في الوضوء أنه واجب لنفسه أو لغيره كالصلاة مثلا فلو أراد المكلف فعلها يلزمه الإتيان بالوضوء المشكوك في مقدميته أم لا؟

الظاهر عدم اشتراط ذلك الغير به فلو أتى بالصلاة مثلا قبل الإتيان به لا يحكم بفسادها و إن كان الإتيان به واجبا مثلما لو شك المكلف بعد فوات وقت ذي المقدمة بمطلوبية الواجب في جميع الأوقات الذي هو مقدمة للفائت وقته أو هو غيري مطلوب في وقت وجوب ذلك الغير فإن الحكم حينئذ بقاء التكليف و استصحاب الوجوب و إن مضى

ص: 65

وقت ذلك الغير أما لو اشتبه حكم واجبين لعدم معلومية أن أحدهما نفسي و الآخر غيري مع العلم الإجمالي باشتمالهما على النفسي و الغيري فالظاهر لزوم الجمع بينهما قبل دخول الوقت لاحتمال الغيرية في كل منهما و في الوقت لاحتمال النفسية، و بعد الوقت إن لم يأت بها فيه سواء جاء بأحدهما أو لم يأت به و الله العالم.

الفائدة الرابعة عشر (امتزاج العين المغصوبة):

العين المغصوبة إذا امتزجت بمال المالك و المازج لها الغاصب بقيت على ملك الغاصب بلا إشكال، و يجب ردها إليه إلا في بعض الصور:

منها: عدم زيادتها في العين المغصوبة و إن لم يسقط أثرها.

و منها: نقصان العين المملوكة بامتزاجها بها، و لا يبعد غرامة الغاصب للنقصان و إرجاع عينه إليه في هذه الصورة.

و منها: عدم إمكان انفصالها عن العين المملوكة مع سقوط أثرها كما لو صبغ غاصب الثوب ذلك الثوب فالصبغ يزيل أثر عين الغاصب و لا يمكن نزعه فحينئذ ليس للغاصب شي ء و إن زادت قيمة المغصوب به في وجه قوي لعوده بمنزلة التالف لسقوط أثره و عدم إمكان انفصاله. و خالف فيه بعض المعاصرين فادعى بقاء المالية و إن سقط الأثر، و لا دليل على انتقال هذا المال إلى مالك الثوب، و العدوان ليس من النواقل و المال لا ينتقل بلا ناقل. و فيه أن سقوط الأثر و عدم إمكان الانتزاع يصير تلك العين معدومة فكأن الغاصب أقدم على تلف ماله، و زيادة القيمة لا أثر لها كمن ينقل مال الغير من غير إذنه إلى مكان ترتفع فيه قيمته فليس لذلك النقل من أثر. و المسألة لا تخل من إشكال لكن الأقوى في النظر ما حررناه و الله العالم.

و بالجملة فرق بين امتزاج العين بمثلها كالماء به و بين امتزاجها بغيرها بحيث يسقط أثرها مع عدم إمكان نزعها كالصبغ فيحكم بتلف الثاني دون الأول و العرف يساعد على ذلك فتدبر.

الفائدة الخامسة عشرة (نائب الإمام):

شريعة النبي (ص) آخر الشرائع، و الأحكام التي أوحى الله إليه بها على لسان جبرائيل لا تتغير إلى قيام الساعة جزما، و بمقتضى اللطف أن تكون تلك الأحكام مخزونة عند من يقوم مقام النبي (ص) في التبليغ بحيث لا يعزب عنه منها شي ء و بذلك أوجبنا نصب الإمام على النبي (ص) عن الله تعالى كي لا تذهب فائدة التكليف؛ فإن التكليف مع عدم معلومية المكلف به قبح مناف للطف و الامتنان، و بحمد الله و لطفه و توفيقه عرفنا المنصوب لذلك بعد النبي (ص) و هو علي" عليه السلام" و ولده (الذين طهرهم الله من الرجس) ثمّ إنا أثبتنا بالدليل العقلي و النقلي على عدم خلو الأرض ممن عنده علم الكتاب كما أن الموجود بين أظهرنا الحجة عجل الله فرجه و لولاه و لو لا وجوده لساخت الأرض بمن عليها، و لم يبق لله تعالى حجة على العباد، لكن من المحقق أنه لا يلزم عقلا رفع العوائق عنه و عدم وصول ما يمنعه مما أمر به إليه إذ الحكمة الإلهية جرت أن يكون المبلغ على نهج ما عليه البشر من الموالي و العبيد و الأمراء و الرعية، و لو أراد الله تعالى أن يعبد على ما أراد لكان و لكن مشيئته اقتضت العقاب و الثواب و الإطاعة و العصيان لأنه أبلغ في السلطنة و أتم في

ص: 66

الربوبية؛ لذلك كان الإمام المنصوب يلزمه إظهار الدين بأي نوع اتفق له و يمكن منه ما لم يمنع مانع و أن يكون حاله بالنسبة إلى الأكل و الشرب و اليقظة و النوم و ورود العوائق، و الحذر من العدو، و الجهاد بالجند و غير ذلك كما عليه البشر. نعم هو أكمل أفراد النوع الإنساني الذي لا يمكن أن يكون أكمل منه في هذا النوع و لما عرض لإمامنا الموجود الخوف من العدو المتغلب اختفى عنه، و في اختفائه و بقائه و انتظار ظهوره حكم لا تتناهى و فوائد للعباد لا تحصى و ليس هذا موضع بيانها، و حيث اختفى عن الأبصار لا القلوب لزم أن ينصب من ترجع له العباد و تأخذ معالم دينها منه كما يلزمه وقت ظهوره أن يستنيب في البلدان من يعرف الناس أحكامه إذ ليس من أحكام النبي (ص) و وصيه أن يطوف الدنيا و يصل إلى جميع المخلوقين بل يلزمه التبليغ على نحو خاص يوافق ما عليه الناس من إرسال الرسل إلى الأطراف و دعوة الناس إليه و إلى التصديق به و الاستنابة و التوكيل فيما يقبل ذلك، و كتابة الكتب و بيان ما يريد فيها و إرشادهم إلى شخص معين و الالتزام بقوله و إرشادهم إلى غير معين متصف بأوصاف معلومة فكل من حصلت فيه تلك الأوصاف جاز الرجوع إليه و أخذ معالم الدين منه، و لقد تحقق بالبرهان القطعي أن المنصوب من قبل الحجة" عليه السلام" هم العلماء الحاملون لحديثهم العاملون بما أمر" عليه السلام" فهم الحجة على الخلق ممن لا تصل أيديهم إلى الإمام، و لما كانت رواة أحاديث أهل البيت مختلفة أشد الاختلاف في فهم الأخبار، فمنهم يحفظها نقوشا، و منهم من يعرف بعض معانيها، و منهم من يصرف معانيها إلى غير المراد منها و المعوج السليقة، و منهم من لا يعرف اللغة و لا يفهم الإعراب- و هي من أعلى الكلام بعد الكتاب- فيلزم الاجتهاد في معرفة ما أراد الله من كلامه و ما أراد الإمام من هذا النص لكي يؤخذ به، و هذا يتوقف على عدة علوم يلزم أن يعرف محل الحاجة منها، فإذا أحاط من وفقه الله تعالى بما يتوقف عليه فهم ما تضمنته النصوص من الأحكام حسب الإمكان؛ بأن عرف أهل الخبرة منه ذلك وجب الرجوع إليه و الأخذ بقوله لأنه المنصوب فمتى أحرز تلك الصفات التي قرن الإمام الرجوع إليه بها وجب العمل على قوله و صار هو المشار إليه و لا تجوز مخالفته و لا الرد عليه فهو بدل له حكم المبدل، فمقتضى اللطف في التكليف و عدم بقاء الناس في ظنك الجهل جعل هذا البدل حجة تعدد أو اتحد و يلزم التفحص مهما أمكن عن الأعرف و إن نقصت معلوماته عن غيره لأن المدار على معرفة لسانهم و الإحاطة باصطلاحاتهم، و التدبر في تورياتهم و كناهم و مجازاتهم و عموماتهم و إطلاقاتهم و تطبيق الفروع على ما أصلوه و يرشد إلى ذلك (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فإذا تحققت الاستنابة و التوكيل و البدلية عن صاحب الدار و الأمر كان موت من قوله حجة و حياته كموت مبدله، و حياته لا يجوز لمن وجب عليه الاعتماد على قوله و الأخذ برأيه أن يعدل عنه إلى غيره في حياته و بعد موته إلا إذا قطع بخطئه و إلا لجرى ذلك فيمن استنابه و لا تقول به الفرقة المحقة، بناء عليه أن الأخذ بقوله ليس من حيث طريقيته إلى الواقع بل هو أمر تعبدي جاء به النص من جهة تنصيبه من المنصوب الذي له التنصيب. نعم إذا فقد أحد أوصاف التنصيب تحقق عزله عن المنصب و ليس الحياة من جملة الأوصاف التي يفقدها ليخرج عن الأهلية فيعزل و تبطل جميع ما أمر باتباعه فيه؛ فإن المرام من الخلق كلي الإطاعة إما بأداء الحكم الواقعي أو بسلوك الطريق المنصوب إليه و متى لم ينكشف عدم إيصاله للمطلوب تحصل الإطاعة و يسقط الأمر بالمطلوب و التعبد به و يكون كمن

ص: 67

أدرك الحكم، و على العلات أن دليلنا على المطلب ثبوت استخلاف الإمام للحاكم الشرعي في مجاري الأمور و مصادرها، و في التصرف أخذا و إنفاقا فيما يرجع إلى الإمام و في أداء الأحكام إلى العباد حسب اجتهاده فهو نائبه و خليفته فيما هو وظيفته مطلقا و من أحكامه حينئذ عدم تبدل ذلك بموته فيلحق المجتهد المستخلف من قبله هذا الحكم، و يحتاج النقض إلى دليل. نعم لو ثبت عن الإمام أن قيام المجتهد بتأدية الأحكام منوط بحياته تم المدعى، أو أن الاستنابة و الاستخلاف لا إطلاق في أدلتهما و لا عموم فكل واقعة ينوب الحاكم فيها محتاجة إلى دليل خاص لكان لنقض الآثار بالموت وجه بل الدليل قضى أن حياته كحياته و موته كموته و غيبته و نومه، بالنسبة إلى ما كان أمره رجعا إليه كغيبته و نومه و لو لا الإجماع المحقق على عدم جواز تقليد الميت ابتداء و الأخذ بقوله لكان الصواب أن نقول به.

و بالجملة من المسقطات للأمر الواقع فتوى المجتهد في حق غيره و إن أخطأ الواقع كسقوط التكليف بعمل الغير أو بارتفاع الموضوع أو بالتقية أو بغير ذلك فإن انكشف الواقع لغي هذا المسقط و لا قضاء له و لا إعادة في الوقت و خارجه و عمل على الحكم الواقعي في المستقبل و إن لم ينكشف فهو باق على إسقاطه و الامتثال حاصل به و إما أن يكون الإسقاط مقرون بالحياة فلا نسلم ذلك و إنه يدور مدارها، و إلا لجرى في جميع تصرفاته من حكوماته و تصرفه في الأموال و الأبدان و العقود الذي أوقعها العامي على رأيه.

أ ترى أن احتمال التقية في أغلب الأخبار موجود؟ فينبغي أن تسقط عن درجة الاعتبار و نفس مخالفة الحي له لا تنفي حجية قوله و لا سقوط أثره بقول الحي و إلا لجرى في حق الحيين و للزم القول باستمرار التخيير في أخذ الحكم من المجتهدين المتساويين حيث لا يمكن الجمع.- و كيف كان؟- فنحن في غنى عن التمسك لوجوب البقاء على التقليد بعد موت المقلد بالآيات و الأخبار و الاستصحاب، و غير ذلك، مما للمناقشة فيه مجال و مسرح بل المعتمد في ذلك عموم المنزلة المنصوص عليها و إن الأخذ منه كالأخذ من المستخلف له، و إن إطاعته كإطاعته.

و خلاصته أن الأحكام الواقعية التي جاء بها جبرائيل مراده من العباد على كل حال و مطلوبة و لكن الله من لطفه و ترحمه اجتزأ بغيرها عنها لو تعذر أو تعسر تحصيلها بشرط حصول الإطاعة العرفية فاجتزى بغيرها في مقام التقية و إن علم المتقي الخلاف و اجتزأ بالعمل بالمنسوخ مع عدم ظهور نسخه بالعام و المطلق قبل ظهور التخصيص و التقييد و كذا نعم لم يجتزئ في بعض الموارد بالأداء على طبق الطريق و ذلك مقصود و على مورده، و من جملة ما اجتزئ به الأخذ بما أدى إليه رأي المجتهد المنصوب من قبل من نصبه علما فجعل موته كارتفاع التقية أو كمعلومية تخلف الطريق المجعول و تبني الخلاف لا دليل عليه. و عليك بالتأمل في هذه المسألة لأنها من مزال الأقدام و الله الهادي.

يقول الجاني على نفسه القادم إلى رمسه العباس نجل الحسن آل جعفر النجفي كاشف الغطاء، سألني من أرشدني إلى نيل المعارف و الثواب أن أرسم بعض الفوائد في المعاملات فاستعنت بالله تعالى و بالأئمة و استأذنت من الحجة" عليه السلام" فرسمت هذه" الفوائد"، و أرجو أن يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم.

ص: 68

بسم الله الرحمن الرحيم

و به نستعين

و صلى الله على خير خلقه أجمعين محمد و آله الطاهرين المرضيين و لعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الفائدة السادسة عشرة (قبول ولاية الجائر):

نفوذ ولاية الجائر في الجملة بمعنى إمضاء الشارع لتصرفاته و حلية المأخوذ منه في الأراضي الخراجية: و هي المفتوحة عنوة الموجف عليها بخيل و ركاب بالإذن من الإمام العادل أو الأعم منها و من المصالح عليها على أن تكون للمسلمين قاطبة، و يحتمل إدخال الأنفال في حكمها زمن الغيبة كما قيل، و الأوفق عدمه إنما الكلام في المتصرف فيها و تشخيصه و في صرف نمائها و تعيين المستحق له جنسا و نوعا.

أما الأول فذهب بعض المتأخرين إلى جواز ذلك التصرف للشيعة مطلقا و ادعى أن عليه ظاهر" التهذيب" و" الكفاية" و فيه:" و أما أراضي الخراج و الأنفال التي انجلى أهلها عنها فإنا قد أبحنا التصرف فيها أيضا ما دام الإمام مستتر مطلقا" انتهى. (و يحتمل جواز التصرف) و الأصل فيه صحيحة عمر بن يزيد و فيها:"

و كل ما في أيدي شيعتنا من الأرض منهم يحللون كل ذلك حتى يقوم قائمنا ... إلى آخره

"، و رواية المعلى و فيها:"

ما كان لنا فهو لشيعتنا

"، و رواية المغيرة و فيها:"

و كل من والى آبائي فهم في حل مما في أيديهم من حقنا

" و رواية الرقي:"

الناس كلهم يعيشون من فضل مظلمتنا إلا أنا أحللنا شيعتنا من ذلك

"، و لو لا شذوذ هذا القول و إعراض الأصحاب عنه حتى قال في" المسالك" (إني لم أقف على قائل به لكان له وجه من جهة التصرف و التقبيل لا ريب في أنه من حقوق الإمام فيكون له الإذن فيه و قد أحله للشيعة مطلقا) فلا وقع لما في المسالك من قوله:" و ليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا لشيعتهم في التصرف فيها حال الغيبة لأن ذلك حقهم فلهم الإذن فيه مطلقا بخلاف المفتوحة عنوة فإنها للمسلمين قاطبة و لم ينقل عنهم الإذن في هذا النوع" انتهى. إذ المخصوص بالمسلمين منافع هذه الأرض أو مع رقبتها. و أما التصرف و التقبيل فلا ريب في أنه من حقوقهم فلهم الإذن فيه مطلقا و هو ثابت بهذه العمومات و إن لم ينقل في خصوص الخراجية. نعم لو ادعى وجود المعارض أو أن هذه العمومات الظاهر منها الإذن في حلية الأموال الراجعة إليهم لا مطلقا ليشمل التصرف و غيره من الحقوق فله وجه وجيه، و على كل حال لا يخلو القول به عن ضعف.

و ذهب الكثير من أصحابنا بأن التصرف فيها للإمام مع وجوده و استقلاله و مع عدمهما فالتصرف للسلطان الجائر و لا يجوز، بغير إذنه و إن أمكن ذلك. و نقل الاتفاق على ذلك و خص السلطان الجائر بعضهم بالمخالف لا مطلقا و بعضهم عمم الحكم حتى للمتغلب من الشيعة و الأصل فيه المعتبرة الواردة في حل ما يأخذه الجائر باسم المقاسمة و الخراج و جواز المعاملة عليه و إن كان حراما عليه، و في جواز تقبل الأرض المذكورة منه بالنصف أو الثلث أو غيرهما و هي كثيرة متفرقة في أبواب الفقه كخبر الجذا الذي نفى البأس فيه الباقر" عليه السلام" عن الشراء من القاسم فإن ظاهره ذلك و إن نوقش فيه، و الحسن الظاهر في جواز أخذ شباب الشيعة ما يعطيه الحاكم و من جملته الخراج و أخذ الراوي من بيت المال الذي لا يخلو من الخراج، و الموثق في جواز الشراء من الظالم ما لم يكن بظلم من دون استفصال و المراد (بالظلم) في الخبر ليس مطلقه بل الزائد على المتعارف عرفا، و يؤيده الإذن بجواز الشراء من الظلمة من دون اشتراط عدم الظلم، مثل ما في الصحيح

ص: 69

(أشتري من العامل الشي ء و أعلم أنه يظلم) قال اشتر منه و الموثق كذا فلا جرم أنه مع عدم الظلم في نفس المبيع أو زيادته عرفا يجوز الشراء من الظالم فيجمع بين الصحيح و الموثق و بين الموثق السابق بإرادة الظلم الزائد فيه و عدمه فيهما، و صحيح إسماعيل بن الفضل و موثقه الظاهران في جواز الشراء مع علم المشتري بأن ما يشتريه يدرك قبل أن يدرك ممن يؤجر الأرض و كأن جواز تقبل ما عليه الضريبة و الخراج أمر مفروغ منه عند السائل و مثله الصحيح عنه: (

لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض و أهلها من السلطان

)، و عن مزارعة أهل الخراج بالربع و النصف و الثلث، قال:"

نعم، لا بأس

" مستشهدا بتقبل النبي (ص) خيبرا و إعطائها لليهود فإنه كالصريح في مساواة الجائر للعادل في الحكم، و صحيح ابن الفضل أيضا فيمن استأجر من السلطان أرض الخراج و أجرها بطبق معين و شرط له النصف أو غيره قال" عليه السلام":"

نعم إذا عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك

"، و خبر العيص قال قلت لأبي عبد الله" عليه السلام": (الأرض أتقبلها من السلطان ثمّ أؤاجرها أكرتي؟ على أن يكون لي من ما أخرجه الله منها النصف أو أقل أو أكثر بعد حق السلطان) قال:"

لا بأس به، كذلك أعامل أكرتي

"، و خبر زرارة في خبر شراء الأرز من هبيرة، و أخبار حل جوائز السلطان الشاملة بإطلاقها لما كان من الخراج و أخبار احتساب ما يأخذه المصدق من الزكاة، و بعض أخبار أحياء الموات و هذه النصوص و إن أمكن المناقشة فيها دلالة و سندا غير أنها لا تخلو من إشعار بالحكم فضلا عن معلوميته منها مضافا إلى الإجماع المحكي في" التنقيح" و" جامع المقاصد" و" المسالك"، و نفى الخلاف في" المفاتيح" و في" الرياض" استفاض نقل الإجماع عليه، و في الجواهر لعل المسألة من الضروريات و الوالدين في الكشف و أنوار الفقاهة أرسلا ذلك إرسال المسلمات.

و الحاصل كأن حلية ما يؤخذ من الجائر المتغلب من الخراج و جواز أن تتقبل الأرض منه بحصة أو نقد أو عوض أو غيرها مما لا شبهة فيه، فلا ينبغي التصدي لرد من يشكك في ذلك لوهنه و انقراضه إنما الإشكال في أن التصرف في الأرض المذكورة بعد ضرب الجائر عليها الطبق هل يحتاج من تقبلها بضريبتها منه إلى إذن غير الجائر الذي أخذها منه أو لا؟ و على فرض الاحتياج، هل لذلك فرد منصوب من طرف الأئمة (ع) أم لا؟ و في أن الحصة المسماة التي هي أجرة الأرض مطلقا لمن تدفع في زمن الغيبة و من المستحق لها؟ فهل هو الجائر الذي أخذت منه أم غيره؟ و من ذلك الغير المستحق الذي تدفع له؟ و هل يجوز الاستبداد به للمستأجر بأن يصرف ذلك في مواضعه مع التمكن أم لا؟ ذهبت الآراء في ذلك كل مذهب:

أقول لا ريب في أن المتصرف في الخراج و الأراضي و جزية الرءوس و الزكاة من الولاة و غيرهم غير ولاة الحق غاصب يجري عليه حكم الغصب من الحرمة و غيرها لكن لما قام القاطع الذي لا محيص عن قبوله بأن الشارع قد أمضى سلطنة الجائر المتغلب مطلقا فحينئذ أمر الخراج له و طريق التقبيل بيده لا يشاركه فيه مشارك و يتفرع على ذلك حرمة جحوده عليه، و حرمة منعه عنه أو عن بدله المعوض عنه في العقد معه، فكان المفهوم من ظواهر النصوص و عمل الأئمة (ع) و العلماء بعدهم و حفظ النظام و بيضة الإسلام بأن مرجع خراج الأرض هو السلطان الجائر المتغلب بجنوده و أتباعه ذا طبل و جمعة وعيد مؤمنا أو مخالفا مستحلا أو لا. فمن جمع هذه الأوصاف أمضى الشارع

ص: 70

سلطنته و حلية ما يؤخذ منه و دفع الضريبة إليه دون غيره و عدم توقف الحلية على إذن غيره مطلقا و عدم جواز الدفع لغيره من دون إذنه و إن حرم عليه التصرف و قبض الخراج غير أنه بعد أن أحرز السلطنة و دفع بالقوة القاهرة الحق عن أهله بسوء اختياره أمضى الشارع تصرفه و انقلب الحكم و صار ذلك إليه، و إن كان حراما عليه يحاسب به حسابا نكرا، و لأجل ظهور النصوص و كلمات الأصحاب في ذلك ترقى البعض فحكم بحلية ما يأخذه السلطان لأنه كالجعل على حماية بيضة الإسلام.

و بالجملة التدبر في النصوص و الفتوى و كلمات الأصحاب في أبواب متفرقة يشرف الفطن على الجزم بأن أمر الخراج و تقبيل الأرض الراجع أمرها إلى ولي الأمر هو السلطان الحافظ بجنوده الإسلام سواء في ذلك سلطان الحق و غيره المخالف و المؤالف و إن كان هو من مناصب الأول و حقا من حقوقه لكن بعد غصبه أمضى الشارع تصرف الغاصب المتغلب الحافظ للثغور، الحامي للإسلام عن الكفرة، الذي يخطب باسمه في الجمعة على المنابر، و في معاملة الأمير" عليه السلام" مع الخليفتين و الحسن" عليه السلام" مع معاوية و الأئمة (ع) مع الأمويين و العباسيين في القبض من الخراج و مداعاتهم بحقوقهم من بيت المال كما أن صحابة النبي (ص) و من بعدهم من الشيعة و المخالفين في زمن الأئمة (ع) إلى زماننا يتقبلون الأراضي من الحكام و يدفعون لهم المسمى مما كانوا وضعوه على الأرض و مثل الخراج الزكاة في بعض الأخبار و الفتاوى، لكن لعل بينهما فرق لمعلومية من يستحق الزكاة من أصناف الناس دون الخراج الذي أمره إلى الوالي و لا اعتراض لأحد عليه في القسمة و لا في تعيين المأخوذ و لا في كيفية التقبيل و لا بدع و لا غضاضة في إمضاء الشارع لتصرف الجائر في الأراضي و إرجاع أمر الخراج إليه بعد ما ثبت تولية أمير المؤمنين" عليه السلام" لمثل زياد و شريح و ابن عباس و غيرهم من عماله الذين أمضى صنيعهم و أذن لهم و استعملهم و فوض أمر الخراج إليهم لمصلحة حفظ الرعية و سياسة الملك فلا مانع عقلا و لا شرعا من إمضاء الشارع معاملة هذا المتغلب بسلطانه و إن عذبه عليه و على غيره و ليس هؤلاء إلا كولاية الأب و الجد على الصغير و ماله مع عدم إحراز أنهما يتصرفان بما يعود نفعه إلى الصغير أو بما يوافق الدين و الحكم الواقعي حتى مع عدم عدالتهما فإن الشارع نهى عن التصرف فيما يعود إلى المولى عليه بدون إذنهما و إن كان الحاكم و مثله ولاية الكتابي على ما له الولاية عليه و عدم جواز التصرف في ذلك إلا بإذنه، و هكذا و بعد التدبر في أحوال السلف الغابر يتضح لك ذلك أكمل الوضوح فلا وقع حينئذ لما يدعي من أن الشارع لم يمض من هذه المعاملة إلا حل ذلك للمنتقل إليه من الجائر لا لزوم الدفع له و ما أحسن ما عبر به الجد الكاشف غطاء الأحكام حيث قال: (و يقوى حرمة سرقة الحصة و خيانتها و الامتناع عن تسليم ثمنها بعد شرائها إلى الجائر و إن حرمت عليه و دخل تسليمها في الإعانة على الإثم في البداية أو الغاية لنص الأصحاب على ذلك و الإجماع عليه) انتهى.

و اقتفاه الوالد في" أنوار فقاهته" و أخواه و أحفادهما أفتوا به و لعلة الأوفق بمذاق الفقاهة إذ لا ريب في عدم جواز التصرف بمثل هذه الأراضي بلا أجرة إذ هي ملك للمسلمين فلا بد لها من منفعة تصرف في مصالحهم و اشتغال ذمة المتصرف بمثل هذه المنفعة لا شبهة فيه، و براءة ذمته موقوفة على حصول الرخصة من ولاة الأمر في دفع تلك الأجرة إلى فرد خاص فيدور الأمر بين دفعها للجائر الذي تقبل المستأجر الأرض منه المتغلب عليها

ص: 71

عدوانا و بين دفعها إلى نائب العادل العام. و دفعها إلى الأول لا ريب في أنه مبرأ للذمة ممضي عند الولي العادل، و قد صرح غير واحد من الأصحاب، و منهم المحقق الكركي في" قاطعة اللجاج" بحل ما يأخذه الجائر من الخراج و المقاسمة لأنه قد وردت به النصوص و أجمع عليه الأصحاب بل و المسلمون قاطبة فتسليمه إليه سائغا شرعا. و أما دفعه إلى النائب العام بعد غيبته" عليه السلام" فبراءة ذمة الدافع إليه مشكوكة لان ولاية الفقيه ليست كولاية الإمام" عليه السلام" بحيث أن جميع ما للإمام العادل التصرف فيه فالمجتهد مثله و ليس بينهما فرق، فإن أدلة ولاية الفقيه لا توجب ذلك، و على فرض أنها نص بالمماثلة من كل وجه فلا يبعد القول بخروج المفروض بالنصوص و الإجماع و السيرة القطعية عن تلك العمومات التي تقتضي النيابة من كل وجه. ثمّ إذا كان المناط في وجوب الدفع إليه إيصال الحق إلى أهله و دفعه لمستحقه فهو موقوف على حصول العلم بمعرفة ذلك المدفوع له في كيفية القسمة و تحصيص الحصص و التوفير لبعض المصارف دون بعض، و ذاك مما لا يحصل العلم به للدافع غالبا من جهة عدم ممارسة المجتهد لهاتيك المصارف و عدم معرفته بالعساكر، و حفظه الثغور، و عدم تمييزه للرئيس من المرءوس، بخلاف الجائر الذي تبرأ الذمة بمجرد الدفع إليه سواء أحرز فيه الإيصال إلى المستحق أم لا. و لم يقم عندنا برهان قاطع في أن مراد الشارع هو إيصال مال الخراج إلى مستحقيه و صرفه في مصارفه فيلزم من استولى عليه أن يوصله إلى أهله على أي نحو حصل له سواء في ذلك الفقيه و غيره و لا دخل للمدفوع له في الحكم و لا حظ له إلا الطريقية فلو أمكن المستولي ذلك تعين في حقه و لا يباح له دفعه لا للجائر و لا لغيره، و إن تعذر عليه ذلك تحرى اقرب الطرق الموصلة إلى الواقع سواء في ذلك الجائر و غيره، بل يجزيه و إن دفعه إلى الكافر الذي يقطع بأنه يوصله إلى أهله و يصرفه في مصارفه فإن ذلك لم يقل به أحد، بل الثابت إن ذلك من خصائص الإمام و لا تبرأ الذمة إلا بدفعه إليه و إن أمكن المستولي صرفه في مواضعه و الإمام" عليه السلام" رخص في دفعه للجائر المتغلب الذي يصدق عليه اسم السلطان.

و أما دفعه لغيره من حيث النيابة العامة فلم يقم عليه دليل لا أقل من الشك في براءة الذمة معه. قال الكركي في رسالته: (فإن قلت هل يجوز أن يتولى من له النيابة حال الغيبة ذلك اعني الفقيه الجامع للشرائط قلنا: لا تعرف للأصحاب في ذلك تصريح) انتهى. فلو كان ذلك ثابت لنبهوا عليه و أعلنوا به فإنه مما تعم به البلوى وتراهم يسطرون ما هو دونه. و إذا تدبرت ما ذكرناه تعرف سقوط مقالة شيخنا في" مكاسبه" في الرد على الجد (رحمه الله) في قوله: (و إن أريد منعها من خصوص الجائر فلا دليل على حرمته، لأن اشتغال ذمة مستعمل الأرض بالأجرة لا يوجب دفعها إلى الجائر بل يمكن القول بأنه لا يجوز مع التمكن لأنه غير مستحق فيسلم إلى العادل أو نائبه الخاص أو العام و مع العذر يتولى صرفه في المصالح حسبة) انتهى. قلت أما اشتغال ذمة من بيده الأرض و يقبض حاصلها بالحصة المعينة أو بالخراج المضروب عليها من الإمام أو من الجائر فلا ريب فيه، و أما كون تلك الحصة و المال لقاطبة المسلمين فأيضا لا شبهة فيه، و أما براءة ذمة الدافع إلى الجائر في الجملة فكذلك لا كلام فيه كشراء ما بيده من ذلك و اتهابه و المعاوضة عليه و ترتب أحكام حلية ذلك المال و ملكيته للمشتري و جواز نقله بأي أنواع النقل له سواء أخذه الظالم بالقهر أو تعذر على الدافع الدفع للإمام و نائبه أو صرفه في مواضعه، و هذا من

ص: 72

المتفق عليه ظاهرا إنما التشكيك في أن هذه الضريبة زمن الغيبة، هل يجب أدائها إلى الحاكم الشرعي؟ أو إن تعذر أداؤها إلى الإمام" عليه السلام" يكفي في لزوم دفعها للجائر و تعينه و إن أمكن الدافع الدفع للحاكم أو الصرف بنفسه للحصة في مواضعها لأن دفعها إلى الفقيه الجامع للشرائط لم تثبت الرخصة فيه من إمام الأصل بخصوصه من نص و لا وقع الإفتاء به ممن فتواهم بمنزلة النصوص و مثله استبداد من بيده من الأفراد و صرفه في مواقعه فلم يبق إلا لزوم دفعه إلى الجائر لجهة النصوص و الفتاوى الظاهرة فيه الحاكمة على عمومات ولاية الفقيه لكثرة الخارج منها ففي صحيحة الحذاء"

أما الإبل و الغنم إلا مثل الحنطة و الشعير لا بأس به

،" و قوله" عليه السلام":"

إذا كان قد أخذها و عزلها فلا بأس

، و قال فيها:"

إذا كان ما قبضه بكيل و وزن فلا بأس

"، و قريب منها حسنة الحضرمي، و رواية الهاشمي و غيرها. و التصرف فيها يأباه ظاهرها و سياقها، كالتصرف في حمل عبارات العلماء على غير ذلك، و مثله جار في كل نص و عبارة، فينفتق علينا فتقا لا يلتئم و ليس ذلك إلا لمحض استبعاد إمضاء الشارع لولاية الجائر الفاسق و هو كذلك حيث لا مصلحة تقتضيه و ما ذكره شيخنا في مكاسبه من إن في بعض الأخبار ظهور في جواز الامتناع مثل صحيحة زرارة في الأرز ففيه:

أولا: إمكان أن يكون الأرز من مال الناصبي أو بعض بني أمية كما في يقال فتكون الرواية واردة مورد حكم آخر.

و ثانيا: أن محل كلامنا ما كان في زمن الغيبة إذ لا شك بأنه مع وجود إمام الأصل" عليه السلام" يلزم الرجوع إليه في مثل هذا الأمر مهما أمكن، و لا أظن أن لأحد مناقشة في ذلك إذ هو الولي المطلق و منه يظهر الجواب عن أمر الإمام" عليه السلام" علي بن يقطين بقوله" عليه السلام":"

إن كنت فاعلا فاتق أموال الشيعة

"، فإنه" عليه السلام" أمر بدفع خراج الشيعي إليه لطفا و مرحمة فيقتصر على مورده إذ مطلق من بيده الأرض الخراجية من الشيعة لا قائل بأنه يستحق خراجها دون بقية المسلمين أو دون ما هو أهم من دفعه لمن بيده تلك القطعة من الشيعة مع احتمال جريان احتمال المحقق الكركي بأن ذلك من وجوه الظلم المحرمة و لو كان من مفروض المسألة فلا نزاع لنا فيه بعد أمر الإمام" عليه السلام" به. و أما أخبار الزكاة مثل ما في صحيحة العيص:"

ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا به و لا تعطوهم شيئا ما استطعتم

"، و صحيحة الشحام في من يأخذ الصدقة من المصدقين و إجزائها عنهم قال:"

لا، إنها الصدقة لأهلها

"، و إيماء صحيحة سليمان إلى المنع و إن جاز ما أخذ منهم فإنها معارضة لصحيحة يعقوب بن شعيب عن العشور (أ يحتسب من زكاته) قال" عليه السلام" قال:"

نعم إن شاء الله

" إن شاء و الحلبي و فيها:"

لا آمرك أن تعيد

"، و مرسلة النهاية عن الرجل يأخذ منه هؤلاء زكاة ماله أو خمس غنيمته و معدنه أ يحسب ذلك من زكاته و خمسه قال: (

نعم

)، و بعد التكافؤ يرجع إلى ما عليه مشهور الأصحاب من نقدة الأخبار، فلعلنا نقول بعدم بجواز ذلك في الزكاة من جهة معلومية المصرف و إمكان ذلك لأغلب من يؤخذ منهم، و ليس سبيله سبيل مال الخراج أو ندعي أيضا جريان حكم الخراج فيه إلا في تعيين دفعه للجائر فيورث ذلك إمضاء تصرف الجائر في الجملة بما يعود أمره إلى الإمام و يحكم بعدم فراغ الذمة بالدفع لغيره في الخراج لأدلته من الأخبار و الإجماع و السيرة على أنه لا إشكال بأن

ص: 73

الجائر غاصب فبمقتضى الأصل الأولى أن ما يأخذه باسم المقاسمة و الخراج و الزكاة باق على ملك المأخوذ منه، إذ هو غير مستحق لأخذه فتراضيه مع من عليه الحقوق المذكورة في تعيين شي ء من ماله بدلها فاسد قطعا، و مع القهر فساده أوضح لكن دلت النصوص و الاجماعات بجواز أن يقبض ذلك منه مجانا أو بعوض، و لا خلاف يعتد به في عدم الجواز فإذا فرضنا أن من بيده الأرض دفع للجائر خراجها في الصورة المسلم جوازها، و هي مع عدم التمكن من الإمام و نائبه، و عدم إمكان صرف المال في مواضعه حسبة لمن بيده أو مع قهر الجائر له ثمّ تعاقبت الأيدي على عين ذلك المال بمعاوضة و غيرها، و بعد التعاقب ارتفع المحذور فينبغي أنه يجب على من بيده عين ذلك المأخوذ أن يدفعه إلى الحاكم أو أن يصرفه في مواضعه لأن من له الولاية عليه قد أمكن فيلزم رده و يجري فيه حكم المال المغصوب، و لم يقل به أحد كما قالوه في تكرير الزكاة في الدفع لغير مستحقه، فإذا تحقق الإمضاء في هذه الصورة من الإمام" عليه السلام" فيكشف ذلك عن إمضائه مطلقا و لو مع التمكن من الحاكم الشرعي لأن تعاقب الأيدي ليس سببا في حلية هذا المال، و الفرق بين الابتداء و الاستمرار معدوم الدليل، و القائل مع أن هذا المال و إن كان مستحقا لأناس معلومين أو معينا في مواضع مخصوصة ظاهر الأدلة أنه لا يجوز الاستبداد به لمن هو في يده حتى مع تعذر الولي، و لا تجري فيه أدلة الحسبة بل ظاهرها أنه مشترط فيه الدفع للسلطان، و لا تبرأ الذمة بوضعه في مواضعه سواء أمكن الدفع إلى السلطان أم لا. أشبه شي ء بحق الإمام- روحي فداه- فإنه و إن علم فتوى المقلد في تعيين مصرفه لا يجوز للمقلد أن يصرفه في ذلك إلا بإذنه، و لو صرفه لا يحتسب له بل الإمضاء المتأخر عسى أن لا يفيد في براءة الذمة إلا إذا أدرج في الدين أو إذن الحاكم باحتسابه، فقول شيخنا بمكاسبه: (و مع العذر يتولى صرفه في المصالح حسبة كما ترى إذ لا شك بأن الحكم الواقعي ليس مجرد صرفه في مواضعه لكي تتساوى الطرق و يكون دفعه للإمام أو نائبه من باب الأولوية، و مع التعذر يسقط اعتباره كالزكاة في قول أو أن مراد الشارع صرفه في مواضعه كيف اتفق بل الظاهر أن حكم هذا المال أن يدفع إلى السلطان العادل فإن تعذر فللجائر المتغلب الصادق عليه اسم السلطنة، فالسلطنة مأخوذة في الحكم شطرا أو شرطا و لا يفرق الحال بين من يصدق عليه الاسم مطلقا من المخالفين أو الشيعة فلا وقع لما يتوهم أو توهم من كون ذلك على القول به مختص بالسلطان المخالف الذي يعتقد حلية ذلك لأن المناط في إمضاء هذه المعاملة و لزوم الدفع إلى السلطان أما الحرج، أو وصول الحق إلى مستحقيه أو بعضهم أو لجهة انتظام أمر المسلمين من حفظ الثغور، و حماية بيضة الإسلام، و قتل الباغي، و قطع شأفة السراق و غيرهم ممن يسعى في الأرض الفساد لقدرة الجائر المتغلب مطلقا على ذلك كله، و للأخذ المنهي و عليه الوزر فإذا كان المناط ذلك لا فرق بين الظلمة المتغلبين بغير حق من أن يكونوا مؤمنين أم لا. أخذا بإطلاق النص و الفتوى أو عمومهما من كفاية إذن الجائر في حل الخراج و إن تصرفه بالإعطاء و المعاوضة و الإسقاط و غير ذلك نافذا ففي صحيحة الحلبي:"

لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض و أهلها من السلطان

" و صحيحة ابن مسلم"

كل أرض دفعها إليك سلطان فعليك مما أخرجه الله تعالى منها الذي قاطعك عليه

" و غيرهما لكن شيخنا في مكاسبه تبعا لظاهر الشهيد و غيره حكم بعدم لزوم استئذان المتغلب من الشيعة بل حرمته و إن كان واسع المملكة بالأوصاف التي ذكرناها للسلطان مثل شاه إيران و الهند، و إن المرجع في ذلك الحاكم في زمن الغيبة أو الصرف لمن بيده حسبة و لم يذكر الحكم مع تعذرهما و وجود

ص: 74

السلطان من الشيعة و خلاصة ما ذكر بعد أن حكم باختصاص مورد الأخبار بالمخالف فيقتصر على مورده أن العموم إما للحرج أو لإطلاق بعض النصوص ورد الحرج بلزومه في الخراج و غيره مما يأخذه الجائر من وجوه الظلم، و ليس الخراج عندهم ممتازا و لا قائل بالجواز مطلقا و الاطلاقات بإمكان انصرافها إلى الغالب- و هو المخالف- و بورودها لبيان حكم آخر مثل إدخال الأرض فيها كما في صحيحة الحلبي، أو لجواز أخذ أكثر ما تقبل فيه كما في رواية المختار أو لغير ذلك من أنواع التقبيل و الاستئجار كما في غيرهما و أيد عدم الشمول بعناوين الأصحاب للمسألة بأن ما يأخذه الجائر باسم الخراج و المقاسمة أو لشبهة الخراج يلزم أن يكون مورده المخالف، لأنه هو الذي يأخذ بشبهة الخراج على معتقده أنه حقه كأخذه لغير ما يستحق عندنا و هو يرى استحقاقه، و لا ريب أن الخراج غير مستحق له لرجوعه إلى الإمام" عليه السلام" أو نائبه عند الشيعة بخلاف الموافق من السلاطين فإنه يدري بأن الحق ليس له في الأخذ، و عروض شبهة الاستحقاق لبعضهم لو فرض غير داخل في عناوين الأصحاب، لأن المراد من الشبهة من حيث المذهب التي أمضاها الشارع للشيعة لا هي في نظر الشخص الخاص لكون الشبهة صحيحة- إن كانت عن مستند شرعي-، و باطلة إن كانت عن غيره لا تنفذ في حق أحد، و عطف الزكاة عليها في كلامهم مؤيد آخر لأن الجائر الموافق لا يرى لنفسه ولاية جباية الصدقات إلى آخر ما سطر، و ختم المقال بقوله: (فينبغي في الأرض التي بيد الموافق في المعاملة على عينها و على ما يأخذ منها مراجعة الحاكم الشرعي) انتهى. و حكم أيضا بهذا الحكم في الجائر المخالف الذي يعتقد عدم استحقاقه لجباية الخراج و غيره، و فيه أن الأصل عدم ترتب فعل الغير على إذن غيره في كل فعل خرج عن الأصل ولاية النبي (ص) و الأئمة (ع) لأنهم أولى بالناس من أنفسهم، و أما غيرهم فهو على الأصل حتى يثبت حينئذ من الشارع ولايته و لزوم استئذانه في خصوص الموارد أو مطلقا و ليس المجتهد في خروجه عن الأصل إلا كالأب، و الجد، و الوصي، و القيم على الصغير، و المالك على ما تحت يده، و أما أن للفقيه جميع ما للإمام من السلطنة فغير مسلم و لا تنهض الأدلة به كما حقق في محله، و في مكاسب شيخنا بعد ذكر أدلة ولاية الفقيه (لكن الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية، لا كونهم كالنبي (ص) و الأئمة (ع) فلو طلب الفقيه الزكاة و الخمس من المكلف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعا) انتهى. و استحسن إشكال المحقق في جواز أخذ الفقيه أجرة الأرض من الأنفال من المخالفين (كما يكون ذلك للإمام" عليه السلام" إذا ظهر للشك في عموم النيابة قال، و هو بمحله) انتهى. و حينئذ حيث ليس للفقيه عين و لا أثر في خصوص و الخراج و الأنفال بالنصوص و لا في كلمات الأصحاب، و إنما قرن ذلك بالسلطنة و الرئاسة العامة فالحكم يدور مدارها وجودا و عدما فمن تحقق فيه الوصف لزم الرجوع إليه و استئذانه سواء في ذلك المجتهد و غيره مطلقا و لا يظهر من الأخبار غير ذلك.

نعم ذلك المرجع إذا كان مخالفا أو كافرا يعاقب على ذلك كعقابه على سائر الفروع و التصرفات و الحكمة في ذلك حفظ النظام، و إمكان وصول الحق إلى بعض أهله حتى يظهر صاحبه- (عجل الله فرجه)- فيجري الأمور على مجراها، و ليس ذلك بأعظم من جواز المعاملة على ثمن الكلب و الخنزير عند مستحلهما و عدم جواز التصرف بمال

ص: 75

الصغير مع وجود الأب و الجد المخالف بل الكافر الذمي و ليس العموم للحرج ليرد بما ذكر و لا بنفس المطلقات ليرد بانصرافها بل لأن المفهوم من النصوص و العبائر التي تنزل منزلتها، و بعض القرائن الداخلة و الخارجة أن مرجع أمر الأراضي الخراجية إلى من تحققت فيه السلطنة و صدق عليه هذا الاسم و إن كان ظالما غاصبا لها، و منع الإمام" عليه السلام" الدفع لبني أمية لا يظهر منه إطلاق الحكم حتى في زمن الغيبة فإنه مع وجوده ليس لغيره ولاية أبدا، و لذلك تراه يأمر و ينهى حسب ما تقتضيه المصلحة الواقعية. نعم مع الحكم بعموم نيابة الفقيه لا محيص لنا عن التزام ذلك، و تفسير شيخنا عبارة" المنتهى" في قوله:" ما يأخذ الجائر لشبه المقاسمة و الخراج بالشبهة لا بالشبه" بمعنى المثال كما ترى فإنه يجري مجرى مقالة غيره من التعبير بالاسم يعني بأخذ الجائر ما يسميه هو خراج و مقاسمة أو بما يماثل الخراج أو يشابهه لا شبهة استحقاقه و بين الشبه بالمعنى الذي فسره شيخنا (رحمه الله) و الشبه بمعنى المماثلة فرق و سياق العبارة تقتضي الثاني، بل هو المتعين لمصادقته لعنوان غيره ممن عبر باسم المقاسمة فإن الجائر لا يؤخذ لحقيقة المقاسمة و الخراج المأمور بها شرعا بل بما يسميه بذلك أو بما يشابهه و يشاكله فتم إلى هنا جواز تصرف غير الحاكم الشرعي و عدم جواز الركون في ذلك لغير السلطان المتغلب، و عدم التفرقة بين السلاطين، و عدم التوقف على إذن الحاكم الشرعي و عدم جواز السرقة و الجحود على الجائر، و إمضاء هذه المعاملة في الأراضي الخراجية تبعا للمشهور، و الاحتياط ساحل لبحر الهلكة فلا مانع من الرجوع للحاكم الشرعي احتياطا من حيث شبهة الخلاف، و نصبه من الإمام" عليه السلام" في كل أمر يتوقف على الرئيس في الجملة، و ربما استدل على المقام بعموم قوله" عليه السلام":"

السلطان ولي من لا ولي له

" و فيه تأمل، و منه يظهر حل المأخوذ من الجائر مطلقا للأخذ مطلقا من الخراج و التقبيل، و إن خالف بعض الشروط المعتبرة في صرف ارتفاع الأرض، كما أنه ليس للخراج في لسان الشارع قدر معين بل الممضي هو ما تراضى فيه المؤجر و المستأجر و للسلطان أجرة المثل مع مستعمل الأرض قبل تعيين المسمى، و للمستعمل أن يمتنع مما زاد عليها لو أراده الجائر، لأنه ضرر منفي، و لصريح مرسلة حماد بن عيسى و في ذيلها و لا" يضر بهم" و التحقيق أن مستعمل الأرض المزبورة مع عدم الإذن أو مع النهي يكون حكمها حكم الأرض المغصوبة من مالكها و مع الإذن في الاستعمال عموما أو خصوصا للسلطان أجرة المثل لا ما زاد عليه، و مع الجحد و الخيانة يبقى المسمى أو ما نقص عنه بذمة المستعمل حتى لو كان من مصارف الخراج لشرطية الإذن كما سبق فلا بد أن يدفعه لسلطان الوقت سواء في ذلك من تقبل منه أو غيره، و تبرأ الذمة بالإبراء منه أو من وكيله إنما الإشكال في جواز أخذ غير المستحق من السلطان بهبة أو جائزة أو إقطاع أو عفو عن الخراج عمن بيده، و ظاهر جماعة جوازه بإذن الجائر مطلقا، و آخرون حكموا بالجواز مع اعتقاد الجائر استحقاق الأخذ، و حكم غير واحد بعدم الجواز مطلقا حتى مع الإذن و يكون الآخذ غاصبا سواء كان المال مما أخذ باسم المقاسمة و الخراج، أو باسم الزكاة، و مناط المسألة أن السلطان المتصرف بالأرض الخراجية هل يكون سبيله سبيل المالك في الأحكام أو سبيل المؤتمن الذي يوصل الحق إلى أهله؟ فإن كان الأول تنفذ جميع تصرفاته، و يحل الخراج المأخوذ منه مطلقا، و إن كان الثاني لا يحل منه إلا بعد (عليهم السلام) الآخذ أنه من مصارفه، يرجح الأول إطلاق الأصحاب بالجواز من دون استفصال، و يومئ إليه إطلاق ما دل على حل جوائز السلطان

ص: 76

و عماله مع كونها غالبا من عين بيت المال أو من الضياع و غيرها من أملاك السلطان التي يعلم أن ثمنها من بيت المال، و يرجح الثاني عدم الدليل على حله لأن الملكية للمأخوذ فرع الاستحقاق، و هو لا يثبت بمجرد دفع الجائر له بعد معلومية المصرف و لزوم الدفع إليه و عدم التصرف بغير إذنه لا يوجب حلية ما يدفعه لغير المستحق، لأن يده يد أمانة لا ملكية حتى لو قطع باستحقاق الأخذ جهلا مركبا و حكم هذا المال حكم المال المأخوذ من المجتهد المعلوم أنه من الوجوه التي لها مصرف خاص ليس الأخذ من مصارفها، و أخبار الجوائز وردت في مخصوصين فلعل لهم حق في بيت المال و لم يرد خبر مطلق في حل هباته و إقطاعه مطلقا و نفس حلية الشراء منه و التقبيل لا يورث جواز هبته له و براءة ذمته إذا أبرأه من ارتفاع الأرض من دون استحقاق لذلك، و ربما استند إلى عدم الجواز بقوله" عليه السلام" في خبر الحضرمي:"

أما علم أن لك نصيبا من بيت المال

". و فيه أن مفاده حلية الأخذ ممن له في بيت المال نصيب لا حرمة من ليس له نصيب إلا بمفهوم ضعيف، و كذا قول الفاضل و غيره (بأن الخراج مال الله أخذه غير مستحقه إذ ذلك لا ينافي إمضاء الشارع لبذل الجائر إياه كيف شاء) بناء عليه يمضي تصرف الجائر و ينفذ على الإطلاق بالقبض و الأخذ و المعاملة و لا ينفذ من حيث البذل و التفريق لكن مع ذلك كله هو مشكل لظاهر كلمات الأصحاب بحيث نسب الجواز إلى مشهورهم فعساهم فهموا من النصوص أن الشارع- لطفا و مرحمة- أمضى تصرف السلطان مطلقا تسهيلا للأمر فإنه بعد أن كان معاقبا على تصرفه مطلقا حتى ما كان منه لحق مثل صرف الخراج في مواضعه و جعله حلالا للأخذ، فلا يفرق الحال بينه و بين غيره- فلنا المهنى و عليه الوزر- و يكون يده العادية باعثة لحلية المأخوذ إذ بعد الإعراض عن أنه غاصب لحق الغير و ظالم له و إن التقبيل منه معاونة على الإثم، و إن الأدلة اقتضت خروج هذا الفرد من الغصب عن حكمه و من المعاونة عن حكمها، و لا قرنه الشارع بالتقية كما توهم فيدور الحكم مدار وجودها بل أنفذ تصرف السلطان و قرن الحكم بصدق الاسم فإن كان بيد من ولاه أمر الرعية أو بيد نائبه الخاص أو العام لا ريب بنفوذ تصرفاته مطلقا و حلية المأخوذ منه مطلقا و إن غصب منه حقه فإما أن يكون الغاصب له سلطان أو لا.

و الأول أيضا أنفذ تصرفاته تسهيلا لأمر الرعية و حكم بحلية ما أخذ منه مما كان أمره و صرفه بيد العادل، و الثاني حكمه حكم الغاصب فكان ما كان للسلطان العادل مما هي وظيفته راجع لما تسمى بالسلطان. هذا هو المفهوم من النصوص، و ظاهر كلمات الأصحاب، فلا يبعد الحكم بالجواز و إن كان الأخذ و الموهب من غير الخراج غير مستحق له، و ليس من مصرفه فيكون إثم الأخذ من غير حق مضافا لعقابه و حلالا للأخذ. نعم هذه الأحكام و الأخذ بالمتيقن من الصرف و التقبيل و حلية المال تلزم الحاكم الشرعي لما عرفت من أن ولايته ليست كولاية الإمام" عليه السلام" بقول مطلقا فيلزم أن يتحرى ما وردت به الآثار من بيان كيفية التصرف بعين الأرض و بارتفاعها، و يلزم الموهوب أو المعطى للأرض إقطاعا أو غيرهما أيضا أن يأخذ بقول من قلده لجميع ذلك فلا يلتفت حينئذ إلى ما أطنب به شيخنا في جواهره (بأن علة صحة معاملة الجائر و إمضائها هو التقية فيدور الحكم مدارها، و تكون كسائر الأحكام التي شرعت لها لمنافاته لما حققه أولا من إمضاء الشارع معاملة الجائر، و جواز تقبل الأرض منه بالحصة المضروبة مدعيا عليه الضرورة، و لو كان ذلك الجواز يدور مدار التقية لكانت كسائر ما تشرعه من الأحكام، و لما جاز شي ء من هذه المعاملة إلا مع الخوف الشخصي في تركها و انقلب الحكم، و فسدت المعاملة حين

ص: 77

ارتفاع الخوف و لو في أثنائها و لم يزعمه أحد، و ليس له في الأخبار عين و لا أثر لمنافاته أيضا لما اختاره في عموم السلطان للمخالف و الموافق مع أن الرجوع للحاكم في تسلط الموافق لا تقية فيه و لا حذر. نعم في الخوف منه على النفس أو العرض تجري على الخائف أحكام الخوف و ليس هو من التقية التي تشرع الحكم كما أن الظاهر في ابتداء المسألة أن التقية التي شرعت الحكم نوعية لا شخصية، و هنا حكم بشخصيتها قال و منشأها أن الأئمة لما علموا انتفاء تسلط السلطان العادل إلى زمن القائم" عليه السلام" و علموا أن للمسلمين حقوقا في الأراضي المفتوحة عنوة، و علموا أنه لا يتيسر لهم الوصول إلى حقوقهم في تلك المدة المتطاولة إلا بالتوصل و التوسل إلى السلاطين و الأمراء حكموا بجواز الأخذ منهم إذ في تحريم ذلك حرج و غضاضة عليهم و تفويت لحقوقهم بل قد عرفت أنه لا يمكن التعيش مع إطلاق التعرض له) انتهى. فكأنه جعل العلة هي الحرج المنفي لا التقية و هو الخوف الشخصي على أنه لو قرن الحلية بوجودها اختل النظام لإمكان ارتفاعها في الأثناء و عروضها بعد الارتفاع قد يتكرر الارتفاع و العروض فلا يبقى للزارع و لا للمتقبل و لا للمشتري وثوق بالحلية و الجواز على وجه الجزم به، و في" مفتاح الكرامة" (اختصاص جواز الدفع في الخراج و نحوه بالجائر ملاحظة للتقية إلزاما و إن الأصل عدم الإذن منهم في الدفع إلى غيره و لاقتصار النص في المقام و نظائره على بيان حكمه في يد الجائر) انتهى.- و هو متن-، و قال جدنا في شرحه (و مع عدم السلطان الجائر فالمرجع إلى الفقيه المأمون فيما يتعلق بأمور المسلمين) انتهى. و هو كذلك.

و الحاصل أنه لو كان كما ذكر من اقتصار الأصحاب على الحكم في يد الجائر لمعلومية حاله في يد الفقيه لما قال المحقق الكركي لا نعرف للأصحاب في ذلك تصريحا ثمّ حكم بجواز تناول الفقيه لمن يقول بنيابته عن الإمام" عليه السلام" في مطلق ما للإمام و لم يظهر منه أن هذا الجواز مع وجود الجائر و تغلبه أو مع فقده و دوران الأمر بين جواز تصرف كل من يصرف ارتفاعها في مصارفه و بين توقفه على إذن الحاكم الشرعي و إنه أحق بها من غيره و لم يظهر منه أن ذلك يجوز مع وجود السلطان الجائر بل ظاهره الترتب كعبارة الجد (قدس سره): فاستظهار الجواهر منها الموافقة لا يخلو عن إبهام و كيف كان؟ فالظاهر من الأخبار و الأصحاب هو الذي قلناه من أن للسلطان دخل في حل المقاسمة و الخراج و التقبيل بحق أو بباطل، و إن ذلك من لوازمها حيث تكون على حد ضرب السكة و تسعير المسكوك بما يزيد على أصل معدنه أو ينقص فإن الشارع أمضى المعاملة فيه مع أن حكمه الواقعي أن يكون بأمر الإمام" عليه السلام" لأنه من وظائفه، إذ هو من أجزاء السلطنة و قد أمضى الشارع المعاملة فيه حسب ما يسعره الجائر أو العادل، و لا يخلو في بعض فروضه عن الربا فيما لو عوض بمثل معدنه و زاد المعوض فإنه لا مانع من بيعه صرفا و إن كان بجنسه لأن للسكة السلطانية قسط من الثمن و قد أمضى الشارع ذلك إلى غير ذلك مما جعله الشارع من لوازم السلطنة غايته أنه معاقب على النقير و الفتيل، لكن بعد أن غصب و تسمى نفذ تصرفه بأمر الشارع و احتاج الرجوع إلى غيره إن أمكن إلى الإذن هذا مع اقتداره و نفوذ أمره، أما لو تغلب عليه غيره أو ضعف بهيجان الرعية بحيث لم ينفذ أمره سقط اعتبار إذنه، و في تعيين الرجوع إلى الحاكم الشرعي و إعطاء ارتفاع الأراضي له أو صرف الضريبة في مواضعها لمن بيده الأرض إن عرف ذلك و أمكنه، و مثله تعيين حق المسلمين منها بالثلث أو الربع أو غيرهما وجهان في عموم نيابة الحاكم فيما يحتاج فيه

ص: 78

إلى الرئيس فتبرأ الذمة بالدفع إليه، و من اعتبار ولايته في الموارد الخاصة المأذون فيها شرعا فيساوي غيره و لا يبعد براءة الذمة بالدفع له مع العلم بإيصال المدفوع إلى مستحقيه و صرفه في مصارفه فيكون كأحد الطرق الموصلة لما يريد الشارع وجوده في الخارج و هو الأقوى. نعم لو أحرز السلطنة وجب الرجوع إليه جزما فيما كان تحت يده و لا يعتبر العلم بإيصاله و عدمه، و أما المأخوذ باسم الزكاة فهو إما بعد عزل المالك لها أو قبله و هما إما بالاختيار بعد الطلب أو قبله أو بالقهر مع عدم إمكان التخلص، أما المأخوذ بالقهر مع العزل فحكمه حكم المتلوف من دون تفريط، و الظاهر براءة ذمة المزكى بذلك و أما المأخوذ اختيارا و لو بعد الطلب مع إمكان دفعه للحاكم أو لأهله فقيل و نسب إلى المعظم بأن حكمه حكم الخراج على الخلاف فيه و في تفصيله فلا يجب إعادته على أربابه و إن عرف بعينه و اشترط الشهيد في حليته المأخوذ منه أن يكون أخذه و صرفه حسب ما يقتضيه مذهبهم، و احتمل الجواز مطلقا و هو الأوفق بالأدلة و كذلك المأخوذ بالقهر قبل العزل و أحلوا تملكه ببيع أو شراء أو هبة أو غيرها من أنواع النقل و حكموا بأنها تكون زكاة بقبض الجائر و البراءة من أدائها أخرى كالخراج، قال المحقق الثاني (أن ظاهر الأخبار و العبارات جواز أخذها لكل أحد و إن كان غنيا إلى آخره) فينوي المالك عند الدفع إليه و يجتزأ به، و إن كان غير نائب عن المستحقين فيكون بحكم العازل لها المغصوبة منه أو كحصة الشريك المغصوبة مع نيابة شريكه في القسمة عنه، و خلاف ذلك ضرر منفي، و ترقى بعض فحكم بجواز احتساب ما يأخذه الجائر من الخراج بدل الزكاة لحديث رده الأكثر و حكموا بشذوذه- و إن صح-، و الأصل في المسألة الأخبار، و هي بين ما يدل على جواز الاحتساب مطلقا و بين ما يقضي بعدم الاجزاء مطلقا مثل قوله" عليه السلام":"

لا إنما هؤلاء قوم غصبوكم إنما الصدقة لأهلها

"، و بين ما يظهر منها الإجزاء مع الإكراه و مع عدمه، و استطاعة أن لا يعطوهم فلا مثل (لا تعطوا منها شيئا ما استطعتم و أمرك أن لا تعيد) و لا ريب أن الأصل عدم براءة ذمة الدافع لها لغير مستحقها مطلقا خرج عن الأصل صورة العزل و الإكراه، و أما غيرها من إكراه المالك مع عدم العزل أو دفعها بالاختيار للجائر فالظاهر أنه لا يجزيه ذلك و لا تبرأ ذمته. نعم إذا أخذ الجائر من الأنعام و غيرها باسم الزكاة قهرا من مجموع المال يلاحظ الباقي فإن بلغ النصاب لزم المالك دفع الزكاة لأربابها منه و إن نقص ارتفع الحكم بارتفاع موضوعه، و يكون حال المأخوذ كحال باقي المؤن، و أما لو دفع الزكاة اختيارا من دون خوف و إلجاء فلا يحتسب له قطعا و لا ينافيه قوله" عليه السلام":"

فإن المال لا ينبغي على هذا أن يزكيه مرتين

" و الظاهر الفرق بين الزكاة و الخراج و المقاسمة و إن اشتركا في كون كل منهما لأشخاص معلومين و في عدم استحقاق الأخذ لهما، و عدم جواز دفعهما إليه لكن المستأنس بالنصوص الممارس لها يفهم أن للسلطنة و الولاية دخل في خراج الأرض كما بينا بخلاف الزكاة التي يسوغ دفعها لمستحقيها مطلقا إلا إذا طلبها الإمام- و لو عصى المالك و دفعها لمستحقيها- فالظاهر الإجزاء و الإثم فليس حكمها حكم الخراج و لا حكم حق الإمام كما بين بمحله، فظهر إلى هنا أن براءة ذمة المالك لا تكون إلا مع العزل، و أخذ الجائر لها مع الإكراه لا بالاختيار، و في جواز شراء عين المأخوذ من الجائر، أو قبول هبته لمن لا يستحقها ممن يمكنه إيصالها لأهلها إشكال من أن ظاهر النص و الفتوى الجواز، و من الأصل و من أنه مال مغصوب و عينه باقية فيدفع إلى أهله. نعم من يجعلها كالخراج حكما و موضوعا يلزمه الحكم بجواز الشراء من الجائر و الاتهاب و غيرهما من النوافل و لتحقيق المقام محل آخر

ص: 79

و عليه يختص الحكم بالمخالف الجائر و لا يعم غيره من غير إشكال لأن الشارع لم يمض ذلك في غير من يخشى منه من المخالفين و إن قرن في كلمات الأصحاب بالمقاسمة و الخراج فهو من جهة اشتراكهما في بعض الأحكام لا مطلقا و مع ذلك يظهر من غير واحد من المحققين أن المأخوذ باسم الزكاة مبرأ لذمة الدافع و جاز أخذها من الجائر مطلقا و سقطت حقوق أربابها و لعله لظاهر الأخبار و عبائر الأخيار و له وجه غير أن اجزاء حكم المال المغصوب على العين الواجب دفعه لأهله لا يبعد و يلحق بالزكاة كلما يأخذ الجائر بعنوان الاستحقاق غير الخراج و المقاسمة من الأنفال و من المحيي للموات من الأراضي إذ لا حق على الزراع فيهما و لو اعتقد الآخذ أن له فيهما حق لو أنهما خراجية إذ هو من الجهل المركب و إليه يومئ قولهم: (أن تصرف الجائر في الأراضي الخراجية من قبيل تصرف الفضولي مع إجازة المالك و هذا هو الأوفق بالقواعد و الأصول) لكن عموم الأخبار و عبائر القدماء في حلية ما يؤخذ من الجائر مما يندرج بسلك الخراج و المقاسمة بل و الزكاة مما لا ينكر مضافا إلى السيرة القطعية فإن من يشتري من الجائر و يتهب أعم من العارف العالم من الفرقة المحقة و غيره، و لم يظهر لنا التوقف في ذلك مع عدم اجتماع شرائط المفتوحة عنوة في الخراج المأخوذ من الأراضي فليس ذلك إلا أنهم فهموا من النصوص إطلاق حل ما يأخذه الجائر لحكمة دفع. الحرج و المسألة مشكلة و العمل بساحل بحر الهلكة أولى، و على كل حال فكون الأراضي خراجية يجري في ارتفاعها الحكم المذكور موقوف على أن تكون مفتوحة عنوة بأمر الإمام و محياة حال الفتح أو مصالح عليها بأن تكون للمسلمين قاطبة دون غيرهما من الأنفال أو المحياة ابتداء و يثبت ذلك بما يثبت به النسب و الوقف و الملك المطلق من الشياع حتى المفيد للظن نوعا منه بل و غير ذلك من الأمارات الظنية بالظن الاطمئناني. و قد ذكر المؤرخون و اهل السير بعض الأراضي المفتوحة عنوة المملوكة لسائر المسلمين و كأنه في خصوص العراق متواتر بحيث يفيد الظن المتاخم للعلم في كونه من المفتوح عنوة، المملوك لسائر المسلمين المحيا حال الفتح كالمحدود عرضا و طولا بما بين منقطع جبال حلوان إلى طرف القادسية و من تخوم الموصل إلى ساحل البحر، و مساحة بستة و ثلاثين ألف ألف جريب. و يظهر من الفاضل و غيره العمل بذلك و أما غيره من الأراضي مما ذكروا فهو من مشتبه الموضوع أو الحكم فتجري فيه الأصول و لا ينفع يد الجائر في إحراز موضوعها بعد أن كانت يده عادية، و معلوم أن المشتبه موضوعا لا يحكم فيه بالإباحة إلا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يقضي بالحرمة، و لو اشتبهت الخراجية بغيرها من الأنفال و الموات فالأصل عدم كونها خراجية و عدم كونها من المفتوحة عنوة أو محياة حال الفتح الذي لا يعارضه أصالة عدم كونها غير خراجية لعدم ترتب حكم شرعي عليه و حينئذ يحرم دفع شي ء من انتفاعها إليه، و لا يلزم استئذانه في التصرف بها، و العلم الإجمالي بأن في جملة ما تحت يده من الأراضي ما كانت خراجية لا يفيد في حرمة التصرف و لا يقطع الأصل لأنه من قبيل الشبهة غير المحصورة، و الأولى الرجوع في التصرف بمطلق الأراضي غير ما تيقن أنها خراجية محياة حال الفتح إلى الفقيه الأفضل المتصدي للمصالح العامة، و يجوز من غير إشكال المعاملة على خراجها المعين قبل أن يقبضه صاحبه و الحوالة عليه و أدائه من غير نماءها إلا إذا عينه و أراده و خالف البعض في ذلك و هو موهون.

ص: 80

الفائدة السابعة عشرة: (حكم الأرض الخراجية):

اشتهر بينهم في أن الأراضي الخراجية للمسلمين قاطبة و ظاهرهم أعمية المسلم للمؤمن في هذه المسألة فيصرف نمائها في مصالحهم العامة بنظر المتولي، و كونها للمسلمين يقتضي أنها لهم على سبيل الملكية لظهور الإضافة و اللام فيها، لكن ليست على حد سائر الأملاك من كونه مشاعا ينقسم حصصا فلكل واحد حصة معينة المقدار من عين الأرض و إن قلت، و لذلك لا يتعلق بها بعض الأحكام من الإرث أو القسمة أو نقل حصة الشريك و لا يملكون الارتفاع أيضا على الإشاعة شبه الوقف الخاص أو العام إذا انحصر في جماعة مثل الهاشميين أو القرشيين و لا كتملك الفقراء للخمس و الزكاة الحاصل بالقبض، لأنهم من مصارفه، بل ملكيتها بمعنى صرف نمائها في المصالح العامة الراجعة لعموم المسلمين كما نطقت به الأخبار فموضوعها هي كل أرض عمرها الكفار في دارهم و أوجف عليها بخيل و ركاب من المسلمين فرفعت يدهم عنها قهرا و عنوة فهي و ما لا ينتقل مما اشتملت عليه من الأشجار و المعادن للمسلمين كافة؛ فخرجت الميتة بالأصالة التي لم تسبق بعمارة فإنها للإمام إجماعا، و يطلق عليها الأنفال و هي حل لمعمرها من الشيعة و ليس عليها طبق لا للإمام و لا لنائبه الخاص قبل الطلب، و أما العام فليس له طلب الأجرة من المعمر لأن نيابته ليست على الإطلاق كما ذكرنا، و بذلك يجمع بين ما قضى بدفع الأجرة كما في صحيحة الكاهلي، و مصححة عمرو بن يزيد و بين ما صرحه الحل للشيعة مثل"

ما كان لنا فهو لشيعتنا

" و بمضمونه أخبار أخر، و خرج أيضا ما تعاقب عليه الموت و الحياة- و هي من أملاك من أحياها- و خالف البعض في ذلك فادعوا أنها بالموت يكون حكمها حكم الميت ابتداء و الوجه عدمه، و خرج ثالثا ما كان منها عامرا بالأصالة لا من معمر خاص، و الظاهر أن دخولها في الأنفال هو المشهور و يقتضيه عموم (كل أرض لا رب لها فهي للإمام) و يعارضه التقيد بالموات في بعضها لأن الوصف كهو في [وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ] ليس بمسبوق للاحتراز بل وارد مورد الغالب في موت الأرض بالأصالة لأن المعمر بالأصالة اقل قليل و تملك بالحيازة و إن كانت قبلها ملكا للإمام بعموم النبوي من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به فتأمل. و خرج رابعا ما عرض له الموت بعد العمارة الأصلية لكونه للإمام كأصله و بعد العمارة من معمر خاص من المسلمين فيه خلاف لاختلاف الوارد و مختارنا فيه أنها لا تخرج عن ملك المعمر، لكن القول برجوعها للإمام" عليه السلام" معروف سواء كان المعمر مسلما أو كافرا في دار الإسلام و قيل بعدم اعتبار كونه في دار الإسلام و له وجه و خرج أيضا ما كان معمورا بدار الكفر و اسلم أهلها عليها طوعا أو صالحهم الإمام أو نائبه الخاص عليها بأن تكون لهم لا للمسلمين قاطبة، و في اجزاء مصالحة الفقيه الكلام المتقدم في كونه من وظائفه أم لا، و كذا ما انجلى عنها أهلها أو ماتوا فإنها أنفال أيضا فلم يبق إلا ما حددناه و هو الذي تقتضيه مرسلة حماد:" و الأرض التي أخذت بخيل و ركاب هي موقوفة متروكة بيد من يعمرها على ما صالحهم الوالي من الخراج" حتى قال:" عليه السلام""

فيؤخذ ما بقي بعد العشر فيقسم بين الوالي و بين شركائه

" إلى أن قال" عليه السلام""

فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين الله و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير إلى آخره

".

ص: 81

و صحيحة الحلي و رواية ابن شريح و غيرهما مما مر، و مقتضى هذه النصوص هو عدم جواز نقل رقبتها بشي ء من النواقل مطلقا و لو تبعا لآثار التصرف ففي رواية إسماعيل الهاشمي و سأله عن رجل اشترى أرضا من أرض الخراج فبنى بها و لم يبن غير أن أناما من أهل الذمة نزلوها له أن يأخذ منهم أجرة البيوت إذا أدوا جزية رءوسهم، قال:"

يشارطهم فما أخذ بعد الشرط فهو حلال

"، و في خبر أبي الربيع و غيره"

لا تشتر من أرض السواد شيئا فإنما هي في ء للمسلمين

" كما أن إطلاق كلمات بعض العلماء تفيد ذلك" كالمبسوط" قال:" لا يجوز التصرف فيها ببيع، و لا شراء و لا هبة و لا معاوضة، و لا يصح أن يبني دورا أو منازل و مساجد و سقايات و لا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك، و متى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا و هو على حكم الأصل" انتهى. و ظاهر الأكثر جواز التصرف فيها زمن الغيبة تبعا للآثار و ظاهرهم أنها تملك كذلك تبعا و هو نوع من التملك، و حمل غير واحد مقالة الشيخ (رحمه الله) على زمن الحضور لا الغيبة، و لا ريب في أن زمن الحضور أمرها إليه" عليه السلام" هو الولي المطلق يفعل ما يشاء. و أما زمن الغيبة فلا يجوز التصرف بشي ء منها إلا ما أعطاه السلطان الذي حل قبول الخراج و المقاسمة منه على ما سبق و الظاهر المتجه هو رجوعها إلى من أحرز وصف السلطنة كما سبق، و جواز التصرف فيها مجانا أو بعوض، و جواز تناول من لم يكن من مصارفها و مستحقيها لارتفاعها بإذنه و عدم الجواز من غير إذنه و إمضائه، و لو قيل بجوازه مطلقا نظرا إلى عموم ما دل على تحليل مطلق الأرض للشيعة فله وجه، الأوفق عدمه.

تنبيه: إن لم نقل بالملكية تبعا للآثار من حيث أنه لا دليل عليه فلا ريب في ثبوت حق الاختصاص في الأرض المزبورة لمن تقبلها فلا يجوز مزاحمة من يتقبل الأرض من السلطان و لو نقل الآثار بنا قل إلى الغير كان للغير الولاية أيضا على نهج البائع، و يجوز وقف الآثار أيضا. نعم لو ذهب ما هو قابل للنقل من الآثار ذهب سلطان المعمر عليها و عادت للمسلمين قاطبة و تقبيلها بيد السلطان و إن كانت مسجدا أو غيره، و في لحوق الحكم لمثل المساجد الموجودة حال الحضور إذا انهدمت إشكال الأقرب عدمه لأن إمضاء الإمام لمسجديته يكفي في دوامه لترتب الصحة على أفعاله كما لو أقطع منها شيئا فإنه يكون خارجا عن حكمها من جهة سلطنته المطلقة إلا إذا علم منه بقرينة أن النقل لآثارها أو لإمضاء كذلك فمسجد الكوفة و السهلة و حرم الله تعالى بناء على أن مكة فتحت عنوة لا يلحقها الحكم، و هكذا ما ضاهاها و منه يعلم أن ما أقطعه الجائر في زماننا لأحد فلا يجوز مزاحمة الغير له إن كان من مصارفها جزما و إن لم يكن فكذلك في وجه قوي. و حاصلها له و كذا ما دفعه إلى الغير بحصة معينة و مثله المنقول بطريق الطابو، و الاحتياط يقتضي أن يكون المتصرف بمن يستحق ارتفاعها الذي يضربه السلطان عليها مما هي له قابلة فلو حابا هو أو وكيله يلزم المتصرف أن يدفع أجرة المثل و ما عدا ذلك فهو عليه حلال، لكن ظاهر الإطلاق أن السلطان مختار في ضرب الخراج، و للتأمل فيه مجال من جهة حرمة التصرف بمال الغير إلا ما تحققت الرخصة فيه فأخذ من لا يستحق من أجرة الأرض الخراجية في غاية الإشكال و لو بإذن الجائر أو الحاكم الشرعي لأنه خيانة لعدم دخول الأخذ في المصارف المعهودة من الشارع، و حكم ما انفصل منها مما اشتملت عليه مختلف فإن كان من غيرها كورق الأشجار المغروسة بها و الأخشاب و الحديد المثبت فيها و غيرها فهي لمالكها الأصلي، و إن كان من أجزائها كالأحجار و الخزف المأخوذ منها و ما اشتملت عليه من المعادن مثل الحجر الصلد المعمول للأرحية و القير و النفط و الفضة و الذهب

ص: 82

و الفيروزج و الأحجار التي في بحرها لو كان فيقتفي الآثار في الملكية لمن بيده إذا كان مما شأنه أن ينقل و هل يجب؟ فيه الخمس بعد دفع الضربية ممن بيده أو لا يجب الظاهر الوجوب و ربما يترجح لزوم إخراج الخمس من الجميع و الضريبة بعده و لكن العمومات من النصوص و الفتاوى ناطقة بأن المتقبل للأرض الخراجية بعد دفع خراجها فالباقي له، فينبغي التأمل في الأدلة و الحكم بما يدان الله به و حينئذ لا وقع لما يتوهم من أن الأمور المنقولة منها بعد الفتح بحكمها و هي للمسلمين قاطبة و إن صح ظهر ذلك من الفاضل و الشهيد و المحقق الثاني من جهة تقييدهم رهن الآثار التي فيها بما لم يكن من أجزائها و القاعدة تقتضيه لكن إطلاق الآثار و عمل الناس عليه يقضي بأن المنقول منها بعد انفصاله عنها من أملاك من بيده فللأجزاء حكمان حكم مع ثبوته و آخر في انفصاله، و الآثار أعم من المنفصل من أجزائها و احتمال أنه بحكم المباحات الأصلية لعموم من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به بعيدا جدا لاحتياجه إلى الدليل بخصوصه و لذلك لمتقبل الأرض أن يمنع الغير من نقل ما ينقل من أجزائها و إن سبق.

و الحاصل أن الأجزاء التي تنفصل منها مما تتمول و لا تضر برقبتها تحسب من نمائها التي هي حق للمستأجر كسائر الأراضي التي تستأجر من ملاكها فالأشجار الموجودة فيها قبل الإيجار و ليست مغروسة للغير متى استؤجرت فثمرها و الخشب الذي لا يضر انتزاعه من ذلك الشجر أو ما يضر بقاءه فيه مثل ما ينتزع من النخيل من سعف و غيره كل ذلك من النماء التي هي من حقوق المستأجر، نعم قلع ما يضر برقبتها فهو تابع للأرض و له حكمها كما ذهب إليه من تقدم و لا يمكن جعله من المباحات بعد كون أصله من الأملاك فليفهم.

الفائدة الثامنة عشرة (الشك في أرض الخراج):

الأراضي التي تحت يد الجائر- في زماننا هذا- إن علم أنها خراجية أو ملحقة بها حكما لحقها حكمها، و إن اشتبهت بغيرها كانت من مشتبه الموضوع فيرجع فيها إلى النصوص أو إلى الأصول و القواعد الممهدة، فلو زارع أحدا مثله في أرض خراجية، قيل تبطل المزارعة لعدم تملك رقبة الأرض للجائر المأخوذ في حقيقة المزارعة من كون المعقود عليه الأرض المملوكة المنتفع بها فلا تشرع إذا لم يكن ملكا لأحدهما، فلا بد من استعمال الحيل الشرعية في تسلط العامل و المزارع على الحصتين من الاشتراك في البذر و غير ذلك، و قيل لا تبطل إذا أخذها أحدهما ممن له الولاية و السلطنة على الأرض بأجرة، فإن الولي سلطه على الانتفاع بها و على المنفعة و هو يكفي في صحة المزارعة بالحصة و إن لم تكن الأرض مملوكة للمزارع فلا يحتاج إلى الحيل، و كون المعاوضات التمليكية لا يتصور فيها عدم ملكية العوضين لا ينافي ذلك فإن أرض الخراج و إن لم تملك عينها لكن قد تملك منفعتها بالإيجار و غيره ممن أمرها إليه فيكون لأحدهما حق فيها، و هذه الأحقية قابلة لأن تكون ثمنا لمبيع كحق التحجير و غيره من الحقوق المالية فيصح حينئذ لمن له الحق أن يزارع غيره بحصته كمن استأجر أرضا من مالكها و زارع آخر عليها، و على ذلك تخرج الصحاح في جواز مزارعة أرض الخراج كصحيحة الحلبي و المختار و غيرهما مما سبق.

نعم مقتضى عقد المزارعة عدم استحقاق المزارع الحصة في الأرض المستعارة و لو للزراعة و رجوعها إلى المالك لا إلى المستعير، فأرض الخراج التي يفوض أمرها الولي إلى أحد لو زارع عليها بحصته لا يملك تلك الحصة، بل هي للمسلمين تابعة لأصلها لعدم

ص: 83

ملكية العين و المنفعة و الانتفاع بنفس تفويض الجائر أو العادل عليها، فأما أن تبطل المزارعة من رأس، و إما أن تعود للمسلمين لو صحت على بعض الوجوه لكون المزارع كالوكيل أو كالفضولي، و لو استمر الولي على إباحته لها للمزارع إلى الحاصل ملك المزارع الحصة بالإباحة لا بالمزارعة.

الفائدة التاسعة عشرة (حكم ما تحت يد السلطان):

جميع ما تحت يد سلطاني الإسلام من الأراضي و العقارات و المسقفات و الدور في زماننا، إن علمت جهته من حل أو حرمة لزم العمل على مقتضى تلك الجهة، و إن كانت من بيت مال المسلمين بمعنى أنها عمرت من نماء الخراج أو الجزية أو الزكوات على وجه يصح قبولها منه أو من الحاكم أو منهما، و يحل التصرف بها عينا أو منفعة بعد أن تقبلها الآخذ، و لو بالإقطاع أو غيره، و في جواز شرائها بمعنى حصول ملكيتها للمشتري إذ علم أن مصرفها مما يملكه المسلمون من سلطان الروم أو العجم و جوازاتها بها منه وجهان أسبق الأوجه منهما و هو الجواز، و إن كانت العين مغصوبة و الرجوع للحاكمين في ذلك أولى، و أما ما كان من غير ذلك من أنواع ما يأخذه السلطان و وكلائه أو مما تلقاه من السلطان السابق و دفع عنه ورثة السابق بمعنى أن بعض العقارات و العروض و النقود التي في الخزانة كان المتسالم عليها أنها لكل من تسربل بالسلطنة توارث السلطانان أو لا، فهذه الأشياء يشكل تقبلها من السلطان أو من وكلائه و إجراء أحكام ملكيتها للمتقبل عينا أو منفعة و تبطل الصلاة فيها و غيرها من العبادات مع الاختيار خصوصا في المشتري من الجزاءات أو المبرات، أو ما اجتمع بصندوق البلدية، و كذا ما يطلق عليه الخالصة من المسماة بلغة الفرس (ديهه) و هي الأراضي المختصة بسلطانهم التي لا يعلم أنها من أي قسم من أقسامها، و من الأراضي التي كانت في يد وكلائهم و وزرائهم و بعد عزلهم أو موتهم أخذها السلطان قهرا، و وضع يده عليها، و كذا ما اشتهر أنها وقف لجهة مخصوصة من الحضرات و المساجد و الرباطات و أخذها السلطان، و كذا ما يدفعه إلى الناس مما يسمى بالمواجب الذي يشتبه مأخذه مع معلومية أنه من المشتبه- و لا زلنا نسأل عن ذلك- و الوجه فيه أن يخمس أولا، و بعد أن يخمس يعطى حكم مجهول المالك و لا بد في الرجوع فيه و في أمثاله إلى الحاكم الشرعي فإن نيابته في مثل ذلك معلومة، مجمع عليها فإن تعذر لزم دفع ذلك إلى السادة و الفقراء من المؤمنين الأحوج فالأحوج، و توهم ملكة ذلك للسلطان و أعوانه بمجرد وضع يدهم عليها و تصرفهم فيها كما يسبق إلى الأذهان لا معنى له لمعلومية مورده و مصدره و من أي باب أخذ، و أي مكان جمع؟ حتى ما يهدى لهم فإنه لا يخلو عن الرشوة، فالدخول إلى مضاربهم و الأخذ منهم مطلقا و المعاملة معهم، و التولي من قبلهم اختيارا و إن تعقبه القهر و جمع المال لهم من الأراضي و غيرها غير المستثنى يلزم فيه الرجوع إلى الحاكم الشرعي، و يجب على من يرجع أن يفصل له جميع ما اقترف و حوى و لا يغر به بالجهل و لا يحمل له المطلب فيأخذ الحكم مفصلا و يدين الله به.

الفائدة العشرون (الضرورة المجوزة للحرام):

ذكروا أن الضرورة و الخوف المتعارف مما يبيح ما هو محذور و محرم شرعا مثل الكذب، و قبول الولاية من الجائر، و ارتكاب المحرمات و إعانة الظلمة فيما عدا الدماء، و قد يوجب ذلك و هو على إطلاقه في غاية الإشكال إذ الخائف لا يخلو من أن يمكنه

ص: 84

التخلص بأنواع الحيل من ذلك، أو لا يمكنه. و الثاني فهو تقدر الضرورة بقدرها أو هي علة لرفع الحرمة و متى ارتفعت يحتاج العود إلى دليل؟ ثمّ الخوف و الحذر قد يتعلق بالشخص نفسه أو ماله أو عرضه أو بمن يعنيه أمره مثل العمودين و الأبناء أو بما يلحقه العار بسببه من الأقارب رجالا أو نساء أو بمن لا يعنيه أمره مثل حراسة بعض المؤمنين عن الوقوع في الهلكة و حفظهم عن إتلاف أموالهم أو رفع ضرر يصيبهم في أعراضهم، بمعنى أنه لا فرق بين من يتعلق الضرر به أو بغيره ممن يتدين بدينه أو بين الضررين فرق فيباح المحرم من الدخول في أعمال أهل الجور و المحرم من الكذب و ارتكاب الحرام من الأموال في مطلق الخوف و الضرر أو في بعضه لا مطلقا، ثمّ أن الارتكاب للخوف و الضرورة المبيحان إذا استلزم ذلك ضرر الغير طبعا أو ترتب على فعله بحسب العادة إضرار الغير فهل الإباحة مقصورة على ما يلزم فيه إضرار غيره أو أنه يباح و إن ترتب عليه ذلك، فلو طلب الجائر خمسة غير معينين لأمر فيه إضرارهم من جماعة مخصوصين فأمكن أحدهم التخلص منه برشوة أو بكذب أو بدخول في عمله، و يعلم بأن الخمسة لا تنقص و متى خلص هو أو أنجى ولده أو غيرهما يصيب الضرر آخر مثله فهل يباح له ذلك أم لا؟ و لو فرض أيضا تعيين الخمسة بأسمائهم. فهل يباح له شرعا أن يرفع عن نفسه الضرر، و يعلم أن المأمور يقيم مقامه آخر و يظهر للآمر أن هذا ذاك؟ إلى غير ذلك من الصور التي اختلفت في بعضها كلام الأصحاب للاختلاف في معاني الأخبار الواردة في خصوصيات المقامات و هي أنواع منها:

ما ورد في خصوص النهي عن الإعانة مطلقا ففي كتاب الشيخ ورام قال" عليه السلام": (

من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنه ظالم فقد خرج عن الإسلام

)، و قال: (

يجتمعون أعوان الظلمة حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنم

)، الخبر مضافا إلى آيتي: [وَ لٰا تَرْكَنُوا] أو [لٰا تَعٰاوَنُوا] و قوله:" عليه السلام": (

ما اقترب عبد من سلطان إلا تباعد من الله

)، و قوله (ص): (

إياكم و أبواب السلطان و حواشها

) و في حسنة أبي بصير عن أعمالهم قال" عليه السلام": (

لا و لا مدة بقلم إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شي ء إلا أصابوا من دينه مثله

)، و موثقة يونس: (

لا تعنهم على بناء مسجد

)، و قوله" عليه السلام" في رواية ابن أبي يعفور: (

ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو و كيت لهم وكاء و إن لي ما بين لابتيها إلا و لا مدة بقلم إن أعوان الظلمة يوم القيامة سرادق من نار

)، و موثقة عمار عن الرجل يخرج بأعمال السلطان قال" عليه السلام": (

لا إلا أن لا يقدر على شي ء و لا يقدر على حيلة

)، و رواية عذاف: (

ما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة

)، و رواية أبي حمزة: (

إياكم و صحبة الظالمين و معونتهم

)، و رواية طلحة: (

العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء

) و في تفسير العياشي، عن الرضا" عليه السلام" قال: (

العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر، و النظر إليهم على العمد من الكبائر

)، و رواية صفوان الجمال: (

قال يا صفوان أيقع كراءك عليهم، قلت: نعم جعلت فداك، قال: أ تحب بقاءهم حتى تخرج كراك، قلت: نعم، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم و من كان منهم كان ورده إلى النار

)، إلى غير ذلك مما ورد بهذا المضمون من الصحاح، و هذه الأخبار بعد التدبر فيها تفيد حرمة إعانتهم على الظلم و إن لم يطلق على المعين لفظ الإعانة و حرمة جعل الشخص

ص: 85

نفسه معاونا بحيث يطلق عليه لفظ المعين و إن لم يكن على ظلم فيقال له من الأعوان مثل من يقتصر بعمله على خدمته و إليه يومئ قوله" عليه السلام" في رواية الكاهلي: (

من سود اسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزير

)، غير أن عنوان أصحابنا، أن المحرم المعونة في الظلم حملا لمطلق الأخبار على مقيدها و توفيقا من الآية الكريمة و الإعانة على المحرم تشمل من أعد نفسه لذلك، و إن لم يكن الظالم متلبسا بالمبدإ كمن علق سوطا بين يد سلطان جائر، ففي الخبر (

يكون ثعبانا يعذب به في نار جهنم

) و أما غير ذلك من الخياطة و الحياكة و الملاحة و البناء و غيرها فلا بأس فيه، لكن جماعة من المتأخرين استوجهوا التحريم مطلقا و عللوه باستفاضة النصوص بحرمة إعانتهم في المباحات فضلا عن غيرها لأنها قد يترتب عليها أو تفضي إلى المحرم مستشهدا بقوله" عليه السلام": (

لو لا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا و لو تركهم الناس و ما في أيديهم لما وجدوا شيئا إلا ما في أيديهم

)، و ردهم بعض المحققين بأن السيرة على خلاف ذلك مع منافاة ذلك لسهولة الملة و إرادة اليسر مع ما قضى من النصوص على مجامعتهم و حسن معاشرتهم و الملق لهم، و جلب محبتهم، و ميل قلوبهم كي يقولوا (

رحم الله جعفر بن محمد ما كان أحسن ما يؤدب به أصحابه

). أقول: كأنه يشير إلى حصول الحرج أو الخوف في ترك ذلك و مع تحققهما أو أحدهما لا ريب في الجواز، إنما الإشكال فيما يعمل لهم من المباحات من غير حرج و لا خوف و لعل المتجه حرمته مطلقا للظالم مطلقا، و منه يظهر الدليل على حرمة الولاية من قبلهم في بلدة أو صقع لأنه إعانة و زيادة و إغراء بالجهل مع اشتمالها على مفاسد جمة لا يأمن الداخل فيها منها، و وقوعه في الحرام من حيث لا يشعر مضافا إلى النصوص الواردة في حرمتها خصوصا و عموما و إلى أنها من أعظم الإعانة لهم لاستلزامها طبعا علو كلمتهم، و أن يخطب باسمهم و جباته الأموال لهم و مساعدة عساكرهم، و قراءة أوامرهم على الناس و العمل بطواميرهم، و غير ذلك. مما هو مشاهد معلوم في مشايخ الأعراب و بعض حكام البلاد، و منه قبول الولاية منهم على الأوقاف و الرباطات و قبور الأئمة (ع) لاستلزام ذلك أمورا مشاهدة بالعيان كلها محرمة عقلا و نقلا، و كذا الجلوس في مجالس شوراهم و إمضاء الجالس لأعمالهم و استخدامهم له، و من ذلك رئاسة البلدية و المختارية فإنها نوع من الولاية التي لا تنفك عن ظلم المؤمنين جزما فإن هذه الولايات أشد على ولي الأمر من محاربة يزيد لمولانا الحسين" عليه السلام"- أعاذنا الله تعالى من ذلك- ففي خبر زياد بن أبي سلمة: (

أهون ما يصنع الله لمن تولى لهم عملا أن يضرب الله عليه سرادقا من نار

)، و مع ذلك فقد استثنى الأصحاب (رحمهم الله) من حرمة الولاية مواضع بل قسمها بعضهم إلى الأحكام الخمسة فأوجبها كوجوب غيرها من المحرمات مثل الميتة و الكذب و غيرهما عند الخوف و عدم إمكان التخلص و مما يضر بحاله من النفس و المال و العرض لو توعده الجائر على الترك و إباحة ذلك لا ريب فيها. و يكفي فيه الاستثناء من [لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً] و حديث الرفع و قولهم (ع): (

ما من شي ء إلا و قد أحله الله لمن اضطر إليه

)، لكن القدر المتيقن من الإكراه هو ما لحق الضرر نفسه و ما هو كنفسه كالأب و الولد و الزوجة، و أما لو لحق الضرر مطلق الشيعة لو لم يفعل ما أمر به فالظاهر عدم دخوله في الإكراه و عدم

ص: 86

تحققه مع عدم لحوق ضرر بالمكره أو بمن هو كنفسه، و لا تجري أدلة الحرج فيه لكن صريح جماعة إباحة قبول الولاية أن تترتب على الترك الإضرار بأحد المؤمنين ففي" المسالك" (ضابط الإكراه المسوغ للولاية الأخوف على النفس أو المال أو العرض عليه أو على بعض المؤمنين) انتهى، و هو مشكل لأن الولاية نوعان: منها من لا يلحق المتولي من لوازمها إلا المعاونة فقط، و منها ما يلحقه لوازمها من غصب الغير و الإضرار به، و مع الثاني لا تجوز الولاية قطعا للزوم الضرر على كل حال، فلا يجوز نهب مال مؤمن لسلامة آخر إلا في الدماء فتجوز حفظا لدمه و إن استلزم ذلك إضرار الغير، و الأول أيضا مشكل لأن المعاونة محرمة كما بينا، فهي إضرار بالشخص نفسه و ارتكابه لدفع ضرر الغير أول الكلام، لكن يظهر من بعض الأخبار جوازه، ففي الاحتجاج عن علي" عليه السلام" في كلام له و منه: (

و إياك ثمّ إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك و دماء إخوانك معرض بنعمتك و نعمتهم للزوال فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك و نفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا

) انتهى، غير أنه يظهر منه الجواز عند الاشتراك بالضرر لا عند تمحض الضرر بغيره من المؤمنين.

و الحاصل أن قبول الولاية و حلية لوازمها دفعا لضرر الغير في غير النفس و العرض مشكل جدا و معهما أيضا فيه تأمل، و لو جاز فعليه ضمان ما غصب من مال و غيره بأمر من ولاه فإنه لا ينافي الجواز، و يشكل أيضا قبول الولاية و الأخذ بلوازمها مع الضرر المالي اليسير الذي لا يضر بالحال بل لا يبعد إن تركها عزيمة لا الدخول بها رخصة فإن دفع المفسدة خير من جلب المصلحة و قد رخص في بذل المال بل وجب لتحصيل الطهارة المائية و ليس ذلك من القياس، ثمّ إن الضرورة تقدر بقدرها فإذا أمكن التخلص عن جميع لوازمها وجب و إن أمكن عن بعض دون بعض تحتم، و أما هي نفسها فيظهر من بعض أصحابنا أن العجز عن الخلاص منها غير معتبر فمع الضرر يجوز قبولها، و التفصيل عار عن الدليل لأن الجميع من واد واحد، و الظاهر لزوم التخلص على من دعي إلى الولاية بماله الذي لا يضر بحاله و حسابه من المؤن فإن الناس مسلطون على أموالهم، و ليس ذلك من الإسراف أو بارتكابه لغيرها مما يحتاجه الجائر لكن من استظهر نوعية التقية من (

التقية ديني و دين آبائي

) و من (

لا إيمان لمن لا تقية له

) يسقط عنه حكم إمكان الخلاص و عدمه لحكمه بشرعيتها مطلقا بعد إحراز موضوعها فتدبر. فاشتهر أنه لا يباح بالإكراه قتل المؤمن، و الأصل فيه ما صح عنهم (ع) أنه إنما شرعت التقية لتحقن بها الدماء فإذا بلغت الدم فلا تقية و ينبغي تقييد الدم بالمحقون دون المأمور بإهراقه لكل أحد، و أما الجائز إهراقه لمخصوص مثل من عليه القصاص، أو من يتولى قتله الحاكم دون غيره فهو من المحقون و دم المخالف أيضا من المحقون، و إن اختصت الرواية بدم الإمامي من حيث وجود لفظ التقية إلا إذا أخذت بمعنى الخوف في قوله" عليه السلام" في رواية: (

لا تقية في الدماء

)، فإن ارتفاع مشروعيتها بدم الإمامي محققة فيكون غيره مسكوتا عنه مندرجا في دفع الضرر فيجوز لكن المستنبط أن أدلة حقن الدم مطلقا واردة و حاكمة على أدلة رفع الضرر فيتساوى حينئذ الإمامي و غيره ممن حقن الشرع دمه حتى الذمي، و استظهر شيخنا بمكاسبه أن الخارج من عموم دفع الضرر إهراق دم الإمامي المحترم بالذات دون غيره و له وجه، و لا يشمل المخالف الناصبي و لا المخالف المفتي بجواز إهراق دماء الشيعة و لا متابعيه في وجه قوي. و الحرج المؤدي إلى القتل بحكمه و غيره فيه إشكال من

ص: 87

جهة إطلاق الدم و هو محكى عن الشيخ و القواعد تقتضي عدمه- و إليه ذهب بعض المتأخرين- و من المواضع التي سوغ فيها قبول الولاية من الجائر إمكان القيام بمصالح العباد، و قطع الفساد، و أمن الطرق و إيصال المال إلى مستحقيه، و حفظ المؤمنين من التعدي فإن كل واحد من الأمور المذكورة يسوغها فضلا عن جميعها خصوصا مع الأمن من ارتكاب محرم غير قبولها، بل قيل بوجوبها لو أمكن المتولي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الواجبين على كل متمكن منهما قوة لا فعلا مع قبول الولاية كذلك فإن ما يتوقف على الواجب واجب من باب المقدمة لكن ذلك متوقف على إباحة الولاية بالأصل إلا المشتمل منها على محرم و إلا يكون من قبيل توقف الواجب على الحرام الذي علمت الحال فيه من باب المقدمة فالأحرى أن يكون من باب التزاحم فيلاحظ ما هو الأهم في نظر الشارع أو التخيير لو تساويا، و على كل حال فقد حكى الإجماع على جواز قبول الولاية مع إمكان القيام بمصالح المسلمين، و مضامين النصوص مختلفة لكن الأكثر فهم من مجموعها أن الولاية و إن كانت محرمة لذاتها لكن ارتكابها للتمكن من صنع الخير فيها و بسببها مقدم و أهم في نظر الشارع من عداد الشخص من أعوان الظلمة، و مما يرشد إليه ما ورد عنهم (ع) ففي رواية الصدوق في حديث المناهي: (

فإن قام أي الوالي فيهم بأمر الله أطلقه و إن كان ظالما يهوي به في نار جهنم

)، و في عقاب الأعمال مثله. و في صحيحة الشحام عن أبي عبد الله" عليه السلام": (

من تولى أمور الناس فعدل فيهم حتى قال: كان حقا على الله أن يؤمن روعته

) انتهى، و رواية زياد بعد النهي عن قبولها قال: (

إلا لتفريج كربة مؤمن

) انتهى، و رواية ابن يقطين: (

إن لله تعالى مع السلطان من يدفع بهم عن أوليائه

) و في آخر (

أولئك عتقاء الله من النار

)، و قال أيضا: (

كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان

) و في المقنع فيمن قتل تحت رايتهم من المحبين لمحمد (ص) قال أبو عبد الله" عليه السلام": (

يحشره الله على نيته

)، و عن رجال الكشي: (

إن لله في أبواب الظلمة من نور الله به البرهان

) و فيه (

و إليهم مرجع ذوي الحاجة من شيعتنا

) و فيه (

أولئك من نورهم تضي ء القيامة خلقوا و الله للجنة و خلقت لهم

) انتهى، إلى غير ذلك مما يقضي بحسن الدخول في الولاية الممكن فيها ما ذكر و حملها على صورة ما لو لم تشمل على محرم مع الإذن فيها من قبل الإمام مثل الولاية على جباية الخراج أو مع الضرورة الباعثة على الرخصة مستهجن و إن أمكن لكن مع ذلك كله فأدلة حرمتها المؤكدة عقلا و نقلا مما يوهن جواز ارتكابها و إن وقع في النصوص التي يمكن حملها على بعض الصور المأذون فيها، و من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه فإنا قد شاهدنا أن المتولي من قبلهم في بدأ الأمر يجتهد في أمر إصلاح الشيعة فإذا تمادى به الزمان صار من أعوانهم على الشيعة، فإن عزل عنها استوحش و رشى و بذل ماله حتى يعود إليها فيرجع ظلما على المسلمين بما بذله عليها، و يظلمهم أكثر من ظلم من سلمه الولاية و قد لا تعود فيحرم من الدنيا و الآخرة، فالأحرى التجنب عنهم و عن ولايتهم و مخالطتهم و قبول جوائزهم.

و اعلم أن الأخبار و كلمات الأصحاب و إن كان مصبها المخالف لكن الحكم يعم المؤالف لذي ليس له حاجز عن المعاصي فرب شيعي تولى فصار أدهى من المخالف و أمر. نعم لا بأس بل يرجح مواصلتهم بمقدار ما تقتضي به حوائج المؤمنين، و يحسن مدحهم و عيادة مرضاهم لأجل ذلك لكن لا إلى حد يورث القسوة و تميل معه النفوس إليهم، و أحسن السيرة سيرة أسرتي (رحمهم الله) معهم فالسعيد من حذا حذوهم فكم نفسوا من

ص: 88

كرب، و رفعوا من بلاء عام و خاص و لو لم يكن في صحائف حسناتهم إلا ذلك لكان حريا على الله تعالى أن يدخلهم به الجنة و أن يعفو عنهم و الوالد (رحمه الله) في واقعة كربلاء في سنة 1258 ه عمل مع الوالي ما سلم به النجف و فك به أسرى كربلاء و غير ذلك من تنفيس الكرب التي صنعها- سلك بنا الباري مسلكه- و كيف كان فلوازم الولاية المكره عليها و ما يتفق خلالها مما يأمر به السلطان تباح أيضا كالولاية غير إراقة الدماء.

كما تقدم و يشكل الأمر إذا كان الضرر المتوعد عليه المتولي أهون من ضرر الغير كأن يكون المتوعد عليه القول السيئ فيه، أو في عرضه فهل تباح به أموال الناس الخطيرة و أعراضهم أو يلاحظ الضرران و يتحمل الأخف منهما؟ يرجح الجواز إطلاق الأدلة، و (إن الضرورات تبيح المحظورات) و يرجح عدمه عدم جواز دفع ضرره بضرر غيره و إن نقص عنه فكيف إذا كان أشد؟ و الأقوى الأول لتوجيه الضرر فيه إلى الغير، فلا يجب على الشخص دفع ضرر غيره بإضراره، و إن نسب الإضرار بالغير إليه فإنما هو آلة. نعم لو توجه الضرر إليه فدفعه بإضرار غيره كان ذلك حراما غايته أن الإضرار بالغير من المحرمات فكما يجوز له ترك الصلاة و الصيام في الإكراه عليهما كذلك يجوز له إضرار الغير و وجوب التخلص بهما أمكن لا يعم إضرار نفسه و إلا لم يبق مورد من المحرمات التي يكره عليها لا يمكن التخلص منها مضافا إلى عموم (

إذا بلغ الدم فلا تقية فيه

) مشروعة لما عدا الدم، و منه الإضرار بالغير لكن الإنصاف أن تحمل اليسير من الضرر لدفع الضرر الكثير المتوجه إلى الغير مما يحسنه العقل و العرف و من مقامات الأولياء و إن لم يوجبه الشارع، و أما ضمان المتلوف من أموال الغير فالظاهر عدم ضمان المباشر؛ لأن السبب أقوى و (حديث الرفع) ينفيه و إن كان الحكم وضعيا و الضمان لا ينافي جواز الارتكاب لعدم شمول (على اليد) و (من أتلف) لمثل المكره جزما و الله العالم. الموضع (الثالث) مما تجوز الولاية عليه من السلطان الأراضي الخراجية و قد مر تفصيلها فراجع.

الفائدة الحادية و العشرون: (جوائز و الظلمة):

اشتهر جواز قبول جوائز الظلمة و هداياهم، و جواز الجلوس على بساطهم و التناول من موائدهم و غير ذلك من المال المأخوذ منهم مجانا لا عوضا، و المستند فيه بعد ما تواتر من قبول الحسنين (عليهما السلام) لجوائز معاوية و غيرهما من الأئمة (ع) لجوائز حكام وقتهم النصوص الخاصة الواردة في المقام كصحيحة أبي ولاد عن الأخذ من عامل السلطان الذي لا مكسب له سواه قال" عليه السلام" لي: (

خذ و كل لك المهنى و عليه الوزر

)، و صحيحة أبي المعز قال: (

نعم و حج بها

)، و صحيح ابن مسلم و زرارة قالا سمعناه يقول: (

جوائز السلطان ليس بها بأس

)، و خبر الاحتجاج عن الحميري عن الحجة" عليه السلام": في سؤاله عما تحت يد وكلاء الوقف المستحلين لها في الأخذ منهم فأجاب" عليه السلام": (

إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل من طعامه و اقبل بره و إلا فلا

)، و الإشكال في المشتبه المحصور من أمواله و إلا فالمعلوم حرمته و حليته لا إشكال في اجتنابه و جواز تناوله، و مثلهما المشتبه بغير المحصور الذي ليس أحد طرفي الشبهة من المبتلى فيه للمتناول لإلحاقه في الحكم بغير المحصور من المشتبه كالاشتباه بين حرمة هذا المال، أو ما في الخارج من أمواله التي لم تختلط بهذا المال، فلم يبق من الصور إلا المشتبه المحصور

ص: 89

الذي هو محل للابتلاء كالإناءين الذي أحدهما طاهر و جواز التناول عند من يجري الأصل في الشبهة المحصورة، و لا يرى تنجز التكليف مع العلم الإجمالي بأحد المشتبهين أيضا لا شك فيه، و أما من يرى وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة كما هو الأوفق فيشكل عليه الحال في المقام، و لا بد للقائل بالجواز من دليل وارد على أدلة الاحتياط، يظهر من بعضهم خروج هذه المسألة عن حكم الشبهة المحصورة و إن حكم بالاجتناب فيها، و لعله المفهوم من إطلاق" الشرائع" و" نهاية الأحكام" و" الدروس" إن جوائز الظالم إن علمت حراما بعينها فهي حرام، و في" المسالك" (أن التقييد بالعين إشارة إلى جواز أخذها و إن علم أن في ماله مظالم كما هو مقتضى حال الظالم، و ليس حكمه حكم المال المختلط بالحرام في وجوب اجتناب الجميع للنص على ذلك) انتهى، و لكن الجد الأكبر و شيخنا بمكاسبه حكما (بأن الجائر كغيره).

و ليس في إخبار الباب ما يكون حاكما على قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة قال الجد (رحمه الله) في شرحه جوائز الجائر (إن علمت علما يقينيا غصبا أو مأخوذة بغير حق على أي نحو كان متميزة أو ممتزجة أو في ضمن محصور حرمت عقلا و شرعا كتابا و سنة و إجماعا) انتهى. و وجه شيخنا الحرمة بأن الأخبار المستدل بها على ذلك لا تخلو إما أن تكون من قبيل كل شي ء فيه حرام و حلال فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه فهو إن تم كان دليلا على جواز الارتكاب في مطلق الشبهة المحصورة و لا خصوصية للمقام، و إن كان المقام خارجا بنص خاص فليس في نصوصه ما يفيد هذا مما مر كصحيحة أبي ولاد السابقة و ما بعدها.

و ملخص ما ذكره بعد التدبر في كلماته أن مساق رواية أبي ولاد إن كان حل ما بيد الجائر فهو خلاف ما يظهر من هذه الرواية و غيرها من حرمة ما يأخذه عمال السلطان بإزاء عملهم فلا بد من صرف الحكم بالحل إلى أن ما أعطاه ليس من أعيان ما أخذه، أو أنه من الخراج المحكوم بحليته فلا يشمل العلم الإجمالي بوجود الحرام فيه و لو شمل فهو في الشبهة الغير المحصورة و لو شملها أيضا لا يجدي لأن الحل من جهة تصرف الجائر المحمول على الصحيح و لو رده بعدم جريان أصالة الصحة من حيث اعتقاد العامل الحل و إن كان المالك معلوما فضلا عن المشتبه المحصور فالحل المذكور من جهة أن المشتبه مردد بين ما ابتلي به المكلف و ما لم يبتل به و لا يجب الاجتناب حينئذ عن شي ء منها، و لا فرق بين ما نحن فيه و غيره ما ابتلي المكلف فيه بأحد المشتبهين دون الآخر و إن كان الحكم بالحل لورود النص المطلق مثل جوائز السلطان ليس بها بأس فهو يجري مجرى المطلقات المتقدمة مثل كل شي ء لك حلال و لا حكومة لها على قاعدة الاحتياط، و نزل إطلاق من قال بالإباحة الشامل بإطلاقه للشبهة المحصورة بأن ذلك إما من جهة حمل تصرف المعطي على الصحيح أو من جهة أن المشتبه و إن انحصر إلا أن الانحصار بين ما ابتلي فيه و بين غير المبتلى به لا من أجل أن هذه المسألة خارجة بالنص. ثمّ ناقش في حمل مثل هذا التصرف على الصحيح بما مر، ورد المناقشة بأن الأصحاب لا يعتبرون بالحمل على الصحيح احتمال تورع المتصرف عن التصرف بالحرام لكونه حراما بل يكتفون باحتمال صدور الصحيح منه و لو لدواع أخر، و أما عدم الحمل فيما إذا تصرف بالشبهة المحصورة الواقعة تحت يده فلفساد تصرفه في ظاهر الشي ء فلا يحمل على الصحيح الواقعي حتى قال (رحمه الله): (لم يثبت من النص و الفتوى عدم العمل بقاعدة الاحتياط في المقام) انتهى.

ص: 90

أقول: لا يخلو كلامه من تأمل إذ أقصاه التصرف في الأخبار التي ظاهرها بل صريحها كفاية عدم العلم بالحرام في التناول من عملة السلاطين، و الفتوى المطلقة و تحكيم قاعدة الاحتياط بلا داع يوجب ذلك فإن مخالفة العلم الإجمالي في الشبهات الموضوعية فوق حد الإحصاء، و ليس التصرف في هذه الأخبار بأولى من الحكم بمخالفة العلم الإجمالي و عدم الاجتناب في الشبهة المحصورة في المقام و خروجها بالنص، و مثل ذلك في الفتوى مضافا إلى فهم الأصحاب و نقدة النصوص من كفاية عدم العلم بالحرام في جوائز الجائر و عملته من الأخبار حتى أفتوا به، و ليس ذلك بأعظم من الخراج المغصوب من صاحبه الذي أبيح لنا التصرف فيه مطلقا على أنه بعد إجراء قاعدة الاحتياط يكون حكم هذا المال، إما مال اختلط حرامه بحلاله، أو بحكم مجهول المالك فإن كان الأول طهره الخمس، و إن كان الثاني فمرجعه الإمام و هو أباحه بهذه النصوص لشيعته كما أباح الصلاة في الأرض التي اشتملت على الغصب من الصحارى، و إليه ذهب علم الهدى و جماعة و لعل في قوله" عليه السلام" في رواية: (

ابعث إلي بخمسه

) إيماء إلى ذلك، على أنه لا ينكر صراحة موثقة سماعة في جواز الأخذ قال: سألت أبا عبد الله" عليه السلام" عن رجل أصاب مالا من عمال بني أمية يتصدق منه و يصل قرابته و يحج ليغفر له ما اكتسب و يقول: [إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ]، فقال" عليه السلام": (

إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة و إن الحسنة تحبط الخطيئة

) ثمّ، قال" عليه السلام": (

إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس

)، فقد أذن" عليه السلام" بترك بعض المقدمات العلمية و الأخذ به و العمل عليه تجويز منه لمخالفة العلم الإجمالي، و لعل حكمته كثرة ابتلاء الشيعة بما شابه ذلك، و يرشد إلى ذلك النصوص الواردة بحلية الربا الذي لا يميز بعينه، و قد عمل بمضمونها الأكثر و التزموا بخروجها عن قاعدة الشبهة المحصورة.

و الحاصل أن فهم الأصحاب من النصوص هو في نفسه حجة و لا ينكر استظهارهم لما ذكرنا في خصوص المقام. نعم تناول جميع ما تحت يد العامل و عدم إبقاء ما يتحمل أنه يساوي الحرام بحيث يفضي إلى العلم التفصيلي بارتكاب المحرم لعله لا يخلو من إشكال، و إن كان الدليل أعم لأن لازم ما ذكرنا إلغاء العلم الإجمالي و الرخصة في تناول المشتبه كالرخصة في تنصيف العين بين متداعيين يعلم بكذب أحدهما لا بعينه، و على كل حال ظاهر الأخبار و الفتاوى و عبارات الأكثر و فهم الأصحاب مما يخرج المقام عن قاعدة الشبهة المحصورة و يخصص موردها و خلاصة رفع المؤاخذة الحاكم بها العقل عن الارتكاب و جعلها كارتكاب بعض المحتملات فيما كانت الشبهة فيه غير محصورة، فإن حكومة العقل فيهما سواء سواء كان الارتكاب دفعة أو تدريجا حتى قيل بجواز ارتكاب الجميع، و لا يخفى أن دليل الجواز في غير المحصور ليس بأقوى من أدلة المقام، و لا بد من الاقتصار في المأخوذ عما ورد به النص من الجائزة و الأكل و الهدية، و أما غيرها من المأخوذ بدلا و عوضا من السلطان و عماله غير ما أخذ باسم الخراج و المقاسمة يجري فيه حكم الشبهة المحصورة، و لا تخصص قاعدة الاحتياط إلا أن يفهم من النصوص أن ما يؤخذ من الجائر و عماله مطلقا ما لم يعلم أنها من الحرام لا تجتنب و تخرج عن قاعدة الاحتياط فيكون للسلطان و أعوانه موضوعية دون غيرهم.

ص: 91

الفائدة الثانية و العشرون: (العلم بغصبية الجائزة):

متى علمت غصبية عين الجائزة تفصيلا وجب ردها إلى مالكها أو إلى وكيله العام أو الخاص، فإن تلفت لزم التدارك ما لم ينوي الأخذ لها حين قبضها الرد إلى صاحبها فتكون أمانة بيده لا يضمنها من دون تفريط، و لو حدث العلم بغصبيتها بعد أخذه لها احتمل الضمان لأن أخذها كان بنية التملك لا بنية الرد، و احتمل عدمه لأنها بحكم الأمانة، و قيل بعدم الضمان في مطلق القبض مع الجهل لأن يده يد أمانة، و المعروف في تعاقب الأيدي على مغصوب ضمان الجميع، و يرجع الجاهل إلى العالم. و حكموا أيضا بجواز رجوع المالك ببدل العين لو تلفت على المتهب الجاهل المستمر جهله إلى حين التلف.

و الحاصل القبض بغير نية الرد مطلقا موجب للضمان و لا يسقط إلا بإعلام المالك و تخليتها له أو ردها عليه، و ظاهرهم عدم تكليف الأمين، بإقباض المالك و كفاية التخلية و رفع يد القابض عنها حتى قيل بالضمان بحملها إلى المالك بغير إذنه إلا إذا كان الحمل أحفظ، و يلزم الفحص مع جهل المالك لتوقف وصولها إليه عليه، و يحتمل عدم الوجوب و على الوجوب يكلف بالمتعارف منه كاللقطة، و لو احتاج من وقع في يده إلى دلال لم يجب عليه تحصيله، و يحتمل الوجوب لتوقف الواجب عليه، و الأجرة على القابض لو وجب، و من المالك أو العين لو تولاه الحاكم و الفحص يلزم إلى اليأس، و لا حد له زمانا و إن حدد في غيره، و ذهب جماعة إلى التحديد بالسنة أو أن يحصل البأس و به رواية حفص بن غياث و إن وردت في اللص لكنهم تعدوا إلى مطلق الغاصب، و التحديد باليأس أقرب، و هو الذي يحصل به البراءة اليقينية إلا في غير المقام من مورد الرواية و الضائعة لخروجها بالدليل فإن وجد المالك مكنه الغاصب أو القابض منه، و إن حصل اليأس تصدق به عنه و الحكم به في خصوص جوائز الظلمة مشهور فإن التصدق أقرب طرق الإيصال بعد اليأس، و عليه الأكثر، و ذهب بعض إلى إبقائه أمانة و الوصية به و هو غير وجيه و يؤمى إليه قوله" عليه السلام": (

أخرج من جميع ما اكتسبت من ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله و من لم تعرف تصدقت به

) و الأمر بالتصدق فيما تجمع الصاغة يومئ إليه، و كذا ما ورد من الأمر بالصدقة لم يدفع إليه تمام أجرته و لا سبيل إليه و عن مال الوقف المجهول أربابه، و سأل في مصححة يونس عن متاع حمل لأناس في طريق مكة ذهبوا و لا سبيل إلى معرفتهم أو معرفة أوطانهم فقال" عليه السلام": (

بعه و أعط ثمنه أصحابك

)، لكن يظهر من جملة من المعتبرة أن مجهول المالك للإمام كرواية داود بن أبي زيد و فيها، قال أبو عبد الله" عليه السلام": (

لو أصبت صاحبها كنت تدفعها إليه

)، فقال الرجل: (إي و الله تعالى)، فقال" عليه السلام": (

ما له صاحب غيري

)، قال: (فاستحلفه أن يدفعه لمن قال اذهب و قسمه بين إخوانك و لك الأمن مما خفته)، و حينئذ يلزم أن يدفع إلى الإمام عند اليأس أو إلى الحاكم الشرعي و هو يرى رأيه فيه. و أما استبداد من وقع في يده بالتصدق و إن ورد به النص خلاف الاحتياط، و الظاهر أن الحاكم يتبع شهادة حال المالك من التصدق و الإمساك، و لو شك برضاه في الصدقة و عدمه جنح إلى الإمساك- و هو الأحوط- لأن الشك في صحة التصدق و الموقوف على رضاء المالك الذي لم يحرز يورث بطلانه لأصالة الفساد، و قد يقال بحرمة الإمساك لعدم إذن المالك و لا الشارع به فاللازم إما الدفع إلى الحاكم أو التصدق، و استشكل البعض في الدفع إلى الحاكم لعدم ولايته المطلقة و لظهور النصوص

ص: 92

الواردة في تعيين الصدقة. نعم معرفته بمواقع الصدقة و ولايته على من يستحقها مما يسوغ الدفع إليه فالأوفق مراجعة الحاكم و لا يبعد وجوبه لورود أن مجهول المالك من مال الإمام و حكمه حكم مال من لا وارث له إن حكمنا بالنيابة العامة للحاكم، و يستحق هذه الصدقة الفقير هاشميا و غيره عن الغير مطلقا حتى لو كان المالك غير هاشمي و تعذر الوصول إليه لأنها صدقة مستحبة و إن وجبت على المتصدق و لو ظهر المالك بعد التصدق لا رجوع له على المتصدق قصد التملك أم أخذ المال حسبة لأصالة براءة ذمته و أصالة لزوم الصدقة و عدم تبدل موضوعها الذي وقعت عليه. و قال جماعة بالضمان لعموم (من أتلف) الذي لا ينافيه إذن الشارع لاجتماع الضمان مع الإذن في اللقطة و بما استودع من الغاصب فكأنه أذن بالتصدق على تقدير الضمان. و فيه أن الموجب للضمان يقول بعدمه مع إجازة المالك و إيجابه مراع بالإجازة و عدمها يحتاج إلى الدليل مع أن حديث (من أتلف) مختص بالإتلاف على المالك لا بالإيصال له كما سبق من أن الصدقة أقرب طرق الإيصال، ثمّ لو تم القول بالضمان لكان المتصدق كالفضولي فيجوز حينئذ الرجوع على الفقير بالعين مع وجودها و لا قائل به فحينئذ و لا داعي و لا موجب للضمان و لا لعدمه لعدم الدليل على أحدهما فالرجوع إلى الأصل لازم محتم و هو يقتضي براءة الذمة، لكن يتم هذا في المأخوذ حسبة، و أما غيره فاليد عند أخذه يد ضمان فيستصحب فالتفصيل متوجه لو لا أن الاستصحاب محكم حيث يعارض البراءة ثمّ لا قائل بالفصل، فالجاري على القواعد الحكم بالضمان مطلقا في ظهور المالك و رده للصدقة، و لو مات قام وارثه مقامه لأن ذلك من الحقوق الموروثة من حيث تعلقها بالأموال، و قيل بالعدم للزوم التصدق، و لو لا قيام الدليل على رجوع المالك بالقيمة لما قلنا به، و أما غيره فمحتاج إلى الدليل و هو وجيه و أما لو مات المتصدق ورد المالك كان كالدين يخرج من تركته، مثل ما لو لم يتصدق لأن الرد من قبيل الفسخ عند تحقق الخيار هذا في غير الحاكم. و أما هو فلا ريب أنه بدفعه إليه تبرأ ذمة الدافع، و إن خرج المالك لأن، الحاكم وكيله و الدفع إلى الوكيل مبرأ للذمة، و لا إشكال في أن الحاكم ولي الغائب و تصرف الولي كتصرف المولي عليه مبرأ للذمة، و احتمل شيخنا الضمان لأن الغرامة هنا ليست من جهة التصرف بالمال لأنه مأذون فيه و نافذ؛ و لذا لا يرجع المالك على الفقير بل هي حكم شرعي يلحق المتصدق بالمال فإن كان المالك هو المأمور بالتصدق و الحاكم تصدق بوكالته عنه كانت الغرامة على الموكل، و إن كان المتصدق بعد فحص المكلف به الحاكم دون من وقعت بيده كان الضمان عليه و الدفع من بيت المال له وجه.

الفائدة الثالثة و العشرون (عدم إلحاق مظالم الظالم بالديون):

قال الجد الأكبر في شرحه (أن ما في يد الظالم من المظالم تالفا لا يلحقه حكم الديون في التقديم على الوصايا و المواريث لعدم انصراف الدين إليه و إن كان منه و بقاء عموم الوصية و الميراث على ماله و للسيرة المأخوذة يدا بيد من مبدأ الإسلام إلى يومنا هذا فعلى هذا لو أوصى بها بعد التلف خرجت من الثلث) انتهى. و اعترضه شيخنا تبعا للجواهر بعدم الشك في أن ما في ذمته من قيم المتلفات غصبا من جملة ديونه، و يجب على الحاكم و غيره استنقاذ الحقوق الراجعة للحق جل شأنه و للناس منه مثل حقوق السادة و الفقراء و لو مقاصة من أربابها و غيرهم، فلو مات قبل أن يدفع ذلك كانت من جملة ديونه فتقدم على

ص: 93

الوصية و الميراث حسب قواعد الدين و الانصراف المدعى ممنوع لعدم الفرق بين ما يتلفه هذا الظالم من المظالم و غيرها، و لا أحد ينكر جريان أحكام الدين على المتلوف حال حياته في جواز المقاصة من ماله كما هو المنصوص، و من تعلق الخمس و الاستطاعة و غير ذلك فلو تم الانصراف لزم إهمال الأحكام المنوطة بالدين وجودا و عدما من غير فرق بين حياته و موته و منع السيرة بقلة المبالاة من الناس و ذلك موجود بأكثر السير، و نراهم لا يفرقون بين الظلمة و غيرهم ممن بذممهم حقوق الناس إلى آخر ما ذكر، و هو بظاهره لا ريب في وروده و لا أظن، أن ذلك يخفى على الشيخ الأكبر غير أن نظره إلى أن يد الظالم كيد الجائر القابض للخراج في عدم إجراء أحكام الدين على ما يقبضه من الخراج، فكذا المظالم المتلوفة التي هي من مجهول المالك الراجع إلى الإمام أيضا كما في الخبر المتقدم.

و بعبارة أخرى إن الجائر لا يخلو إما أن يغصب أموال الناس أو مال الإمام" عليه السلام" فإن كان الأول لحقه حكم الدين، و إن كان الثاني لا يلحقه، و اعتراض شيخنا عليه بعدم الفرق بين الحياة و الموت كما ترى لعدم ظهور كلامه (رحمه الله) بان ذلك بعد الموت، و معنى (عدم انصراف الدين إليه) يعني أن المال المتعدد مستحقوه الراجع أمره إلى وليهم- و إن عمه لفظ (الدين)- لكن لا تلحقه أحكامه فلا يفرق (رحمه الله) بين الخراج و بين مجهول المالك في عدم لحوق أحكام الدين، و مثله من تصرف بالخراج بلا إذن من الحاكمين أيضا لا يلحقه حكم الدين و كذلك الاستدلال بالسيرة يعني أن العمل ممن عملهم يكشف عن رضاء رئيسهم ينفي أن يجري عليه حكم الدين فلا جرم أن يقال أن هذا الدين من حيث رجوعه إلى الإمام لم تجر عليه أحكام الدين تالفا لعدم معلومية الإذن من صاحبه في التوكيل على قبضه، و الدين بلا ديان غير معقول. و لم يستفد من أدلة ولاية الحاكم شمولها لمثل قبض هذا الدين خصوصا بعد الاختلاف في المتصدق حين اليأس بهذا المال فاستغراب ذلك من حكم الجد لعله في غير محله و الله العالم.

الفائدة الرابعة و العشرون: (بيع الخيار):

بيع الخيار جائز عندنا للمعتبرة المستفيضة، و نماء المبيع للمشتري بلا شبهة و به صرحت موثقة إسحاق بن عمار، و رواية معاوية بن ميسرة و سعيد بن يسار بأن يبيع و يشترط رد المبيع إليه برد الثمن عينه أو بدله في مدة معلومة فلو جهلت المدة أو لم يكن له مدة أصلا فسد البيع و مبدأ الخيار في الإطلاق من حين العقد أو من أول ساعة من المدة في المتصل و المنفصل فلو شرط له الخيار غدا كان مبدأه من طلوع الفجر، و يصح جعل الخيار لأجنبي عن البائع و المشتري منهما، و يصح لمتعدد. و لو اختلفوا في الفسخ و الإجازة قدم الفاسخ لأن مرجع الإجازة إلى إسقاط حق المجيز لا إلى ذهاب حق الفاسخ، و يصح توكيل جماعة في الخيار لكن من سبق منهم إلى الإجازة أو الفسخ سقط حق الباقين لفوات محل الوكالة بعد ذلك كل ذلك لا شبهة فيه.

إنما الكلام في أن رد الثمن بمجرده سبب لرد المبيع إلى بائعه الأصلي، أو أنه لا يكفي بل يحتاج من له الخيار أن يفسخ، و إن رد الثمن أو مثله ظاهر الأكثر الثاني قيل، و يجوز أن يشترط البائع على المشتري بأنه إن رد الثمن و استقاله أقاله، و يلزم الشرط، و منعه، بعضهم بأن مثل هذا الشرط مخالف للكتاب و السنة لجهة أن انفساخ البيع بنفسه من دون إنشاء فعلى أو قولى يخالف المشروع من توقف المسببات على أسبابها الشرعية. و الظاهر كفاية رد الثمن في الفسخ لأنه يفهم منه عرفا إرادة الفسخ و كون الإرادة لا تكفي لأنها غير

ص: 94

المراد مندفع بأنه لا يعتبر في الفسخ أكثر من ذلك، بل ظاهر النص الكفاية، قال: ابن ميسرة سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله" عليه السلام" عن رجل باع دارا من رجل، و كان بينه و بين الذي اشترى الدار خلطة، فشرط أنك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتى له بماله، قال" عليه السلام": (

له شرطه

)، قال له: فإن هذا الرجل قد أصاب في هذا المال في ثلاث سنين، قال" عليه السلام": (

هو ماله

)، و قال" عليه السلام": (

رأيت لو أن الدار أحرقت من مال من كانت؟ يكون الدار دار المشتري

) فحينئذ يتحقق الفسخ الفعلي به عينا أو بدلا عند إطلاق رد الثمن، و لا يلتفت إلى أن الخيار لا يتحقق إلا بعد الرد فلا يفيد الرد لأنه موجب للخيار إذ لا مانع من تحقق الفسخ، و الخيار به عقلا و شرعا مع أن شهادة الحال و قصد الفسخ كاف، و لو شرط رد عينه توقف الفسخ عليه و إن حصل الرد و لم يحصل القبض حتى مضى زمن الخيار فالمعروف لزوم البيع و الأظهر العدم لأن اشتراط الرد بمنزلة اشتراط القبض قبله، نعم لو انقضت مدة الخيار سقط قولا واحدا كسقوطه بقول البائع أسقطت خياري أو يكون المردود من غير الجنس لو اشترط. و لا يسقط بحصول العيب في الثمن، بل يكفي في الرد و له الاستبدال، و تسقط أيضا بالتصرف فالمعروف في جميع الخيارات سقوطها بالتصرف، لأنه كاشف عن الرضا بالعقد، لكن ذهب بعض المدققين إلى عدم السقوط في غير العين المدفوعة مع الشرط سواء أ كان الثمن كليا بالذمة أم شخصيا، و لا ريب أن الأصل عدم سقوط الخيار بالتصرف في غير المنصوص و كون مطلقه دليلا على الرضا بلزوم العقد أول الكلام إذ لا منافاة بين صحة التصرف و فسخ العقد فإن السقوط بالتصرف ليس بتعبدي بحيث يدور لزوم العقد مداره لكن المستفاد من النص و الفتوى في المقام كون التصرف مسقطا فعليا كالقولي الذي يسقط به الخيار قبل الرد من ذي الخيار، نعم يشكل ذلك فيما لو جعل الرد و الفسخ في يوم معين فإسقاطه بالقول أو التصرف قبل تحققه مبني على أن إيجاد سببه يكفي أو هو تابع لجعل المتعاقدين. و في سقوط خيار البائع بتلف العين عند المشتري وجهان من الشك في رفعه فيسترد البائع المثل أو القيمة مطلقا أو عند تعذر المثل إذا فسخ، و من أن ظاهر اشتراط البائع الخيار و هو رغبته في العين الذي يفيد اعتبار بقاء المبيع فلا خيار مع تلفه. و حكم غير واحد بأن التلف قبل الرد الذي هو ليس بزمان خيار مسقط لخيار البائع مطلقا إلا بالشرط بناء على صحته هنا، و بدونه لا خيار مع التلف حتى لو تصرف فيه المشتري تصرفا ناقلا فضلا عن التلف بآفة سماوية للأصل و ظاهر الصحيح و الموثق. و فيه ما عرفت من كون رد الثمن في هذا الخيار قيدا للفسخ لا للخيار بل قيل و الأكثر عليه بعدم جواز تصرف غير ذي الخيار تصرفا يمنع من استرداد العين عند الفسخ، و كلامهم لا يخلو عن اضطراب في كثير من أبواب الفقه في مطلق الخيارات، و المتيقن في منع التصرف إلا ممن له الخيار هو في زمان تحقق الخيار فعلا، فلو قلنا بحدوث الخيار بعد الرد حينئذ لا مانع من التصرف قبله بخلاف ما إذا كان قيدا للفسخ على ما حررنا.

و الحاصل إن سقوط الخيار هنا بنقل المشتري و تصرفه ربما يشكل إذ الخيار حق يتعلق بالعقد المتعلق بالعوضين حتى يرجع كل إلى صاحبه بحل العقد فالحق متعلق بالعين التي انتقلت منه إلى صاحبه فلا يجوز التصرف فيها بما يبطل ذلك الحق بإتلافها أو نقلها لآخر، و حكمهم إن بالفسخ عند التلف يلزم الرجوع إلى البدل لا يظهر منه جواز الإتلاف لتعلق الحق بالعين فإتلافها إتلاف لهذا الحق، و إن انتقل إلى بدله لو تلف بنفسه، و نظيره

ص: 95

رجوع المرتهن على الراهن ببدل العين المرهونة عند تلفها فإنه لا يقضي بجواز إتلافها على ذي الحق، و في الإيضاح استوجه بطلان العتق في زمن الخيار، و علله بوجوب صيانة حق البائع في العين المعينة فإنه يبطل و يرشد إليه أن التصرف الناقل بإذن من له الخيار يسقط خياره بالاتفاق فإذا لم يكن له حق في العين كيف يوجب إذنه سقوط خياره؟ إذ لا منافاة بين تلف العين، و بقاء الخيار و انتقال الحق بالتصرف المتلف إلى البدل، و مع ذلك لا وثوق لنا بعدم سقوطه فإن ثبوت الخيار في حالة وجود العين و فقدها لو قيل به لا يدل على حكم التلف جوازا و منعا بل المرجع في التلف إلى أن المتلف مسلط عليه شرعا أم لا. فلا بد للقائل بعدم الجواز أن يقيد سلطنة الناس على أموالهم بحق يحدث لذي الخيار يزاحم به سلطنة المالك و التقيد كذلك عار عن الدليل، فالجواز لا يخلو من قوة.

أقول خيار البائع أو المشتري أو هما منه ما يكون في الخيارات الأصلية، و منه ما هو في الخيارات المجعولة بالشرط و هي ضربان بحسب الزمان فمنه ما يشترط فيه الخيار مستمرا و هو ما لم يتنجز فيه الخيار فعلا، أما لعدم تحقق سببه مثل خيار التأخير إذا كان سببه تضرر البائع أكثر من ثلاث، و أما لعدم تحقق شرطه و الأول كخيار الحيوان و المجلس و الثاني كالزمان المشترط فيه الخيار مستمرا و الثالث كاشتراط الخيار بالرد مطلقا، كما في بيع الخيار بمقتضى حكم الأكثر من كون الرد شرطا للخيار و عدم تنجزه قبله و الرابع اشتراطه في زمن متأخر فأما الأولان فجواز التصرف فيهما، و كون المبيع من أملاك المشتري، وذي الخيار يرجع بالمثل أو بالقيمة نفاه الأكثر، و استقوى جوازه شيخنا، و خلاصة دليل الجواز عموم السلطنة على المال المنقول، و إن وجود الخيار لا يرفع تلك السلطنة لا أقل من الشك و معه يرجع إلى الأصل و خلاصة دليل المنع إن الظاهر من الجعل و الاشتراط إرادة إبقاء الملك ليسترده عند الفسخ بل الحكم في أصل الخيار هو إبقاء السلطنة على استرداد العين و إن أمكن في الخيار الأصلي بقاء الخيار مع التلف كما ذكرنا و الرجوع إلى البدل بنوع ما، و أما في المشترط فلا ينكر إرادة بقاء المالك للرد و لا ينكر أيضا جواز التصرف لمن له الخيار فينبغي إبقاء العين و لو في يد المشتري الثاني إلا في المانع العقلي فينتقل إلى البدل، و أما الشرعي مثل الاستيلاد فلا يبعد إلحاقه بالعقلي، و يحتمل تقديم حق الخيار لسبقه و كذا لو نقله عن ملكه فالوجهان إذ فرع جواز التصرف تسلط العاقد الثاني على ما ملكه فينتقل إلى البدل و لا يضر فيه أن الثاني فرع صحة الأول و بقائه فإذا انفسخ انفسخ المبتنى عليه فإذا فرض انعدام الاشتراء الأول و الثاني قد تلقى الملك منه فإذا رجع الملك إلى مالك العين قبل البيع بالفسخ ارتفع بذلك ما استند إليه من العقد الثاني، و خلاصة دفعه أن العاقد الثاني قد تلقى المبيع من مالكه و لو آنا ما و مقتضى سلطنته في ذلك إلا أن صحة تصرفاته في العين المملوكة له بذلك الزمن و اقتضاء الفسخ صيرورة ذلك العقد معدوما كأن لم يكن إنما هو بالنسبة إلى الزمن المتأخر لأنه هو الذي ارتفع فيه ذلك العقد، و قد ذهب المعظم في باب تلف أحد العوضين قبل قبضه و بعد نقل العوض الأمر إلى انفساخ البيع الأول دون الثاني و استحق البائع بدل المبيع ثانيا، و لا فرق فيما نحن بصدده بين كون تزلزل البيع لأمر اختياري أو اضطراري لتلف عوضه، هذا إذا كان المنقول بعقد لازم، و أما إذا كان بعقد جائز فالظاهر أنه كذلك فإن السلطنة على فسخ الجائر من العقود إنما هو بيد العاقد لا الأجنبي و المالك السابق أجنبي بالنسبة إلى هذا العقد و إلزامه للعاقد بفسخ العقد لا وجه له إن لم يستنبط الفقيه أن علة الانتقال إلى البدل هو الحيلولة المانعة و مع ارتفاعها بجواز الفسخ يتجه الإلزام به لكن هذا إن تم فهو تعذر المبدل و البدل باق على ملك صاحبه لم ينتقل إلى غيره كالمملوك إذا غصب ثمّ أبق، و دفع

ص: 96

الغاصب بدله للمالك ثمّ وجد الغاصب الآبق و أما ما نحن فيه فلا يجري فيه ذلك إذ العين انتقلت للعاقد الثاني و حال المشتري الثالث بنيها و بين الثاني بانتقالها إليه فاستحق الأول البدل، و لا دليل على إلزامه بتحصيل المبدل بعد خروجه من يده بوجه شرعي و دخوله في ملك الثالث و لا يختص هذا الحكم بخيار الشرط فقط بل ينسحب أيضا لخيار الغبن و العيب إذ تصرف الغابن مثلا لا يسقط خيار المغبون فلو فسخ و العين خارجة عن ملك الغابن فلا يخلو الخروج بين أن يكون لازما كالعتق و الوقف و بيع الغير بلا خيار و الهبة المعوضة مع تعذر العوض و غير المعوضة مع نقل الواهب العين بأحد النواقل و الأخذ بالشفعة من الغابن و غير ذلك و حينئذ فلو فسخ المغبون بطل ما سبق لكن هذا البطلان هل هو من الأصل أو من حين الفسخ؟ لكل وجه فمن أجل أن عقد الغابن وقع فيما للغير تعلق حق فيه فإن حق المغبون و إن لم يظهر حين نقل الغابن إلا أنه ثابت في أصل المعاملة الغبنية فلو ظهر السبب كان له الخيار في رد العين و إن نقلها الغابن بعقد لازم، و عدم بطلانه من رأس لجهة وقوع العقد الحادث في ملك الغابن و من أن وقوع العقد في عين للغير تعلق حق فيها موجب لتزلزل العقد من رأس كما في بيع الرهن على الأقوى، فالفاسخ يغنيه بتلقي الملك من الغابن لا من المشتري منه أو أنه لا بطلان و ليس للمغبون رد العين بأحد الأمرين و إنما يستحق البدل، و وجهه أن التصرف صحيح لازم، و إن كان للغير الخيار فيترتب عليه أثره و ليس للفاسخ إلا البدل بل المتجه عدم تحقق الخيار قبل ظهور الغبن على وجه يمنع من تصرف الغابن فإن الأكثر، و إن حكموا بالمنع من تصرف غير ذي الخيار بدون إذنه لكنهم حكموا بلزوم العقود الواقعة قبل ظهور ما يوجب الخيار كالغبن و العيب، و لم يفرقوا بين العقد اللازم و الجائز، و دليله أن معنى جوازه تسلط أحد المتعاقدين على فسخه لا الأجنبي الذي هو المغبون بعد فرض وقوع العقد صحيحا إذ فسخه إما لدخول العين في ملكه أو بدلها، و لا حاجة إلى الفسخ في الأول لدخول العين في ملكه من غير فسخ، و لا وجه للعدول لغير البدل الذي استحقه إلى غيره على الثاني، و ليس البدل المستحق للمغبون لجهة الحيلولة حتى يقال بأنه متى ارتفعت و أمكن رد العين وجب على الغابن تحصيلها فإن تملك المغبون للبدل بالفرض و عدم ملكيته للعين مما يرفع وجوب تحصيل العين على الغابن بل لو عادت العين إلى الغابن بعد فسخ المغبون بخيار أو غيره لا يجب ردها إليه لتملكه للبدل فيحتاج عودها إليه و انسلاخ ملكيته للبدل إلى دليل. نعم إن عادت قبل فسخ المغبون ثمّ فسخ لا يبعد أنه يستحقها إن لم يكن العود بعقد جديد و إلا فلا يستحقها مطلقا لأنه ملك للغابن قد تلقاه من مالكه و الفاسخ لا يملك إلا بعد ارتفاع السبب الناقل فظهر مما ذكرنا قوة منع تصرف من له الخيار مطلقا في لازم العقد و جائزه في زمن الخيار، و أما الصورتان الأخيرتان فعدم المنع أولى، و يظهر وجهه مما سبق إذ الخيار غير منجز إما لعدم تحقق سببه أو شرطه و إن أمكن التفصيل بين ما يتوقف تنجزه فعلا على ظهور أمر كالعيب و الغبن و نحوهما، و ما يتوقف على مجي ء زمان كالخيار في الزمان فيمنع من التصرف المتلف في الثاني لمعلومية ثبوت الحق و إن لم يحضر زمانه فيفرض كأنه موجودا و يكون العقد في معرض الارتفاع لكن ذلك لا يقيد سلطنة المالك و لا يحجر به عليه إذ لا حق بالفعل لذي الخيار و إن كان زمن وجوده متحقق. فتلخص من جميع ما ذكرنا أنه يجوز لغير ذي الخيار التصرف في زمن الخيار في العين المبيعة و في الثمن بمقتضى القاعدة إلا ما دل الدليل التعبدي على عدم الجواز في بعض المقامات و لذي الخيار الرجوع بالعين مع وجودها و بالبدل في الحيلولة بما يمنع عقلا أو شرعا من عودها إليه، و المشتري و البائع سواء في ذلك إنما الإشكال في أن ذا الخيار يرجع بالبدل لو تلفت

ص: 97

العين في الزمن الذي لا خيار له فيه بمعنى تأخر خياره إما للرد أو لوقت معين سواء أ كان التلف ممن لا خيار له بآفة سماوية أم كان هو المسبب للتلف بنقل أو غيره أطلق الفاضل في" القواعد" عدم سقوط الخيار بتلف العين، و قال المحقق الثاني: (هذا الكلام ليس على إطلاقه لخروج خيار التأخير عنه بل مطلق الخيار قبل القبض أو الخيار المختص بعده) و من المعلوم أن تلف العين موجب لانفساخ العقد فلا يبقى خيار فيكون المراد عدم ذهاب العقد بالتلف و اجتماع بقائه بعده و هو كذلك و وجهه أن العقد بعد التلف لا يخرج عن قابليته للفسخ و الخيار عبارة عن ملك فسخ العقد و من هنا تشرع فيه الإقالة فلا مزيل لهذا الملك بعد التلف و لا مقيد له بصورة البقاء لكن تأمل غير واحد في بقائه في بعض الموارد مع التلف مثل ما لو ظهر كذب البائع بعد تلف المبيع في قدر رأس المال في البيع مرابحة بل جزم بعضهم بالعدم من حيث أن الرد لا يتحقق إلا بوجود العين و قال آخرون ببقاء الخيار لثبوت المقتضى و عدم المانع و كذا تردد المحقق (رحمه الله) في سقوط خيار الغبن مع التلف للمغبون به و علل الفاضل سقوط الخيار لو نقل المغبون العين عن ملكه بعدم الاستدراك للعين المنقولة، و حيث كان الموجب للخيار نفي الضرر بعد، لا يفرق الحال بين بقاء العين و عدمه، إنما الإشكال في أن الغرض من الخيار و الباعث عليه بين المتعاقدين إذا كان هو الرد و الاسترداد كيف يحكم ببقائه مع عدم التمكن من ذلك فلا يبعد سقوطه بمقتضى الضوابط الشرعية فتخصص به قاعدة نفي الضرر بل لا موضوع لها بعد جعله منوطا بذلك فيتجه القول بعدم بقاء الخيار المشروط برد الثمن في البيع الخياري عند تلف المبيع عند المشتري لأن الثابت من شرطيته هو التمكن لا من استرداد المبيع بالفسخ عند رد الثمن لا التسلط على مطلق الفسخ المشروط مطلقا و لو عند التلف، و في الجواهر في باب بيع الخيار فإنه بعد أن حكم بضمان العين المتلوفة من المشتري بعد الرد من البائع و لزوم إعطاء البدل على المشتري في زمن الخيار قال (رحمه الله): (بخلاف التلف قبل الرد الذي هو ليس زمان خيار كي يستحق الرجوع به عليه بعد الفسخ بل المتجه فيه سقوط الخيار إلا أن يشترط عليه الرجوع به عينا أو قيمة فيلزم بناء على صحة هذا الشرط و بدونه لا يلتزم حتى لو تصرف فيه باختياره تصرفا ناقلا فضلا عن التلف السماوي للأصل و ظاهر الصحيح و الموثق)، و في مكاسب شيخنا (لم أجد من التزم بذلك أو تعرض له). و قال أيضا (و من هنا يمكن أن يقال في هذا المقام و إن كان مخالفا للمشهور بعدم ثبوت الخيار عند التلف إلا في مواضع دل الدليل عليه) إذ لم يدل أدلة الخيار من الأخبار و الإجماع إلا على التسلط على الرد و الاسترداد و ليس فيها التعرض للفسخ المتحقق مع التلف أيضا، و إرادة ملك الفسخ من الخيار غير متعينة في كلمات الشارع، حتى قال: (نعم لو دل الدليل الشرعي على ثبوت خيار الفسخ المطلق الشامل لصورة التلف أو جعل المتبايعان منهما خيار الفسخ بهذا المعنى ثبت مع التلف أيضا).

أقول يمكن أن الزمان، و إن كان لا خيار فيه فعلا، و الخيار يتجدد إما بالرد أو لمجي ء وقته لكن له حكم زمن الخيار و لا يظهر من كلماتهم إلا ذلك مضافا إلى عموم الرد و الاسترداد في الثمن و المثمن للعين و البدل فلا يسقط إلا بعد تعذرهما. نعم استرداد العين من المشتري الثاني إذا كانت مبيعة عليه قبل حدوث الخيار مشكل جدا إلا أن يقوم إجماع على وجوب إبقائها إلى حين الخيار، و لعل الاستقراء يفيد ذلك مع إيماء بعض النصوص إليه، و لا بد من التأمل في كلماتهم في هذا المقام و في أحكام الأخيار مطلقا.

ص: 98

تنبيه: إذا تعذر الرد إلى المشتري لغيبته أو لجنونه أو لصغره فسخ البائع إذا أحضر الثمن و دفعه لوكيله أو وليه خصوصا أو عموما فيتولى القبض الحاكم الذي هو ولي الغائب. و يسلم المبيع إلى البائع بعد فسخه فإن تعذر الحاكم فعدول المؤمنين حسبه، و كأنه لا إشكال في ذلك مع التصريح به أو مع الإطلاق أو التصريح برده إلى المشتري، و توقف في الأخيرين جماعة بل مال بعضهم إلى عدم جواز الرد إلى الحاكم و بقائه أمانة عند البائع حتى يحضر المشتري لو فسخ أو عدم جواز الفسخ إلى أن يحضر و هو مع التصريح باشتراط الرد إلى خصوص المشتري يمكن أن يقال بعدم جواز الرد لغيره لاشتراط الخصوصية و مع عروض ما يخاف منه من تلف الثمن ربما تلغى الخصوصية أيضا، و أيضا الصبر إلى حضور المشتري و بقاء نماء المبيع له ربما يكون ضررا على البائع مع حصول الثمن عنده و هو منفي، و أما مع الإطلاق فالأقرب قيام الولي مقامه فإن ظاهر الرد إلى المشتري هو حصوله عنده كي لا يبقى في ذمة البائع شي ء، و لذا قام الوارث مقامه، و المتعاقدين في الرد، و دفع العين مع أن المصرح به في العقد رد البائع و قبض المشتري، و ما ذاك إلا لأجل إرثه للخيار و عدم مدخلية خصوص أحدهما و احتمال أن تصرف الحاكم بمال الغائب منوطا بالمصلحة الظاهرة، و خروج المبيع عن ملك المشتري قد لا يصادف المصلحة للغائب و شبهه فتنتفي ولايته فلا يؤثر الفسخ أثره موهون بأن ما يناط بالمصلحة على القول به هو تصرف الحاكم استبدادا و اختيارا و المقام ليس منه إذ البائع لما فقد المشتري تحرى الإيصال إليه الكافي في تسلطه على الفسخ لمن هو المنصوب لحفظ مال الغائب مطلقا و لا يعتبر القبول من المشتري أو من وليه كي يقال أن قبوله متوقف على ظهور المصلحة بل المعتبر دفع المال إلى المشتري أو إلى من ينوب عنه من وكيل أو ولي ليتمكن البائع من الفسخ، و العلة تسري حتى في الدفع لعدول المؤمنين أشبه شي ء بدفع حق الفقير المشترك في أمواله إلى من ينوب عنه و يوصله إليه عند التعذر، و لو تعدد الأولياء تحرى الأفضل الأورع أو تخير، و لا يجب الدفع على الظاهر للمباشر من الأولياء لشراء عين لصغير أو شبهه لأن المباشرة لا تخصص الدفع إليه فيجوز الدفع للجد و إن كان المشتري الأب تعذر الدفع إليه أم لأن و كذا للحاكم الآخر الذي لم يشتر إن لم يكن ذلك من باب المزاحمة للحاكم الأول فلا يجوز القبول من الدافع بل و لا الدفع من المشتري.

الفائدة الخامسة و العشرون: (سريان خيار الشرط في المعاملات):

يصح الاشتراط و يجري الخيار في كل معاوضة لازمة دون الجائزة، لأن جعل الخيار بالشرط تحصيل حاصل مثل الوكالة و الجعالة و القراض و العارية و الوديعة، و دليل الجواز (عموم المؤمنين عند شروطهم) و كذا يجري في العقود اللازمة أيضا بلا خلاف يعتد به في الطرفين لصحيحة ابن سنان المتقدمة، و لا يجري على الظاهر المصرح به في الإيقاعات كالطلاق و العتق و الإبراء و الوقف و النكاح لا لأن الإيقاع لا يتقوم إلا بواحد، و المفهوم من الشرط قيامه بين اثنين كما قيل لمنعه بأن الشرط إنما يقتضي مشترط و مشترط عليه أي لا بد له من شخصين و إن صدر من واحد لا أنه يتوقف على إيجاب و قبول لنا على عدم جريانه في الإيقاعات إجماع الشيخ في" المبسوط" و نفي خلاف" السرائر" و إجماع" المسالك" بل لم نقف على من جوزه من المعتبرين مضافا إلى أن الفسخ و التسلط عليه لا بد لمشروعيته من دليل إذ لا عموم يقتضي مشروعيته مطلقا، و قد

ص: 99

ثبت مشروعيته في المعاوضات و جملة من العقود اللازمة فجاز اشتراطه، و أما في الإيقاعات لم يثبت ذلك لكي يجوز الاشتراط و الرجوع في العدة ليس فسخا للطلاق ليقال بثبوته في الإيقاعات بل هو حكم شرعي في بعض أقسام الطلاق مقصور على مورده لا يقبل الثبوت في غيره و لا السقوط فيه، و من هنا أنكر المحققون وقوع الصلح على سقوطه مع أن الصلح صالح لكل شي ء.

و الحاصل نقض أثر الإيقاعات لم يعهد من الشارع بعد وقوعها لكي يصح اشتراط الفسخ فيها، فالفسخ لا يكون سببا لارتفاع الإيقاع لأن اللزوم فيها حكم شرعي كالجواز في العقود الجائزة فلا يمكن أن يبدله الشرط و يكون سببا للتسلط عليه في متن الإيقاع، و نحن إنما جوزناه في العقود لثبوت خيار المجلس و الحيوان و مشروعية الإقالة فيها، بل ترقى الفاضل (رحمه الله) فمنع الخيار في العقد الذي يتضمن الإيقاع فأثبته في الصلح و نفاه عن بعض أفراده و تبعه غيره، قال في غاية المرام (أن الصلح إن وقع معاوضة دخله خيار الشرط و إن وقع عما في الذمة مع جهالته أو على إسقاط الدعوى قبل ثبوتها لم يدخله لأن مشرعيته لقطع المنازعة فقط و اشتراط الخيار لغو، و الخصومة ينافي مشروعيته و كل شرط ينافي مشروعية العقد غير لازم) انتهى. على أنه يكفي في الحكم الشك في سببية الفسخ لرفع الإيقاع و إن أمكن حصولها بالشرط فاندراجه و تصحيحه بعموم المؤمنين فيترتب عليه أثره من الفسخ لا وقع له كما بينا. و أما العقود فلا ريب في دخوله و صحته في البيع مطلقا إلا الصرف على تأمل و مطلق الإجارة و المزارعة و المساقاة و كل ما شرع فيه التقايل بعد العقد من العقود كذلك يشرع فيه التراضي قبل وقوعه على سلطنة أحدهما أو كلاهما على الفسخ دون العكس ضرورة أنه إذا لم يثبت إن التراضي بعد العقد على الفسخ مؤثر و لا يحصل و إن رضيا المتعاقدان بذلك فالالتزام حين العقد لسلطنة أحدهما عليه لا يحدث له أثرا فإن الالتزام حين العقد لا يفيد إلا فائدة الرضا الفعلي بعد العقد بفسخ صاحبه بل لا يجعل الفسخ مؤثرا شرعيا. و بالجملة أن صحة التقابل بعد العقد عن اختيار إذا كان مثلها حين شروط العقد أمضاه الشارع عن اختيار و بنى العقد عليه فيلزم إمضاءه و العمل به بعد العقد و إن لم يحصل الرضا، و لذلك اتفقوا على عدم دخوله في النكاح لأنه لا يمكن التقايل فيه بعد العقد من حيث توقفه على الطلاق. نعم اختلفوا في دخول الشرط في بعض العقود و لكن الضابط ما ذكرناه و ما خرج عنه فبدليله مثل الوقف، و اشتهر عدم قبوله لشرط به ينفسخ عقده و علل باشتراط القربة فيه و إنه فك ملك بلا عوض ورد بمنع الكبرى في الصغريين فليس كلما اشترط فيه القربة لا يبطل بالشرط و لا كل فك ملك بلا عوض يأبى عن الاشتراط، و قيل بقبوله للشرط و ربما يستأنس له بالموثقة، و بخبر إسماعيل بن الفضل (فيما لو شرط الواقف الرجوع بالوقف عند الحاجة ثمّ مات الواقف و جواب الإمام" عليه السلام": (برجوع ما أوقف ميراثا و في دلالة الخبرين تأمل لاحتمال إرادة الوقف المنقطع منهما من حيث أن الإمام" عليه السلام" فيهما حكم بالرجوع ميراثا)، فقط و ليس فيه إيماء إلى صحة الشرط و فساده، و الحق الأكثر بالوقف الصدقة مطلقا لعموم ما قضى بأنه لا يرجع بما كان لله تعالى واجبا أم جائزا.

و إما لو تبين الخلاف مثل التصدق بمجهول المالك و اللقطة أو حق ظن المتصدق وجوبه عليه فهو و إن كان لله تعالى لكن عارضه حق الغير أو عدم تحقق موضوعه فلذلك قيل برجوع المالك على المتصدق و جواز رجوعه بالصدقة في الثاني فهو غير ما نحن فيه

ص: 100

على أن القول بعدم الرجوع مطلقا عسى أن يخرج على القواعد و لا ينافي ضمان المتصدق في الأول و الحكم في اللقطة كذلك، و لو قيل: بأن اللزوم حكما شرعيا للصدقة كالجواز للعقود الجائزة كفى ذلك في عدم جواز اشتراط الفسخ لا أقل من الشك و هو يكفي في عدم سببية الفسخ التي يتوقف صحة اشتراط الخيار عليها اللهم إلا أن يقال بثبوت السببية بنفس دليل الشرط و هو واضح الاندفاع إذ لا منافاة بين لزوم العقد و عدم الوفاء بالشرط و ليس عدم الوفاء موجب لتزلزل العقد بل هو أمر آخر له أحكام أخر و ألحق أيضا الأكثر بهما بعض أنواع الصلح و هو الذي يحصل به الإبراء كما سبق و أثبتوه في جميع أقسامه و لا يخلو عن وجه لما مر من حصول الشك في رفع الإبراء، و ما أفاد فائدته بالفسخ و في إلحاق الضمان بهذا القسم من الصلح خلاف للشك في سببية الفسخ له، فلا يدخله الخيار و لدخوله في الضابط الذي قدمناه فيدخله و الثاني أوفق لقبوله للتقايل، و مثله القول في الرهن فمن جهة أنه وثيقة للدين و الخيار للراهن فيه ينافي الاستيثاق فلا يصح فيه، و من أن التراضي على الخيار بين الراهن و المرتهن لا ينافي كون وضعه على اللزوم فلا مانع من الخيار فيه، و هو أوجه، و كذا الصرف فقد صرح بعضهم بعدم دخول خيار الشرط فيه، بل ادعى جماعة عليه الإجماع و علل ببقاء العلقة بين الافتراق لو دخله الخيار و بعد الافتراق و التقابض لا تبقى علقة في بيع الصرف كما ذكروا ذلك فيه و في السلم و جوزه الأكثر، و منعوا الملازمة لعدم الدليل عليها و شمول الضابط، و أما دخوله في القسمة مطلقا و المعاطاة فغير متجه في التراضي الفعلي من القسمة بعد تعديل السهام، و كذا في الإنشاء الفعلي في المعاطاة لأن الظاهر في خيار الشرط لزوم ذكر الشرط في متن العقد و إن الشرط القولي لا يمكن ارتباطه بالإنشاء الفعلي و للشك في تحقق السبب بقي دخوله في الصداق فقد ذكره في التذكرة و عساه لا مكان فسخه في بعض الفروض كما لو زوجها الولي بدون مهر المثل أو دون مهر السنة فإذا أمكن الفسخ فيه لا مانع من اشتراط شي ء فيه على الزوج، و تنظر فيه الوالد و شيخنا و عساه لخروج ما ذكر بدليله و للشك في سببية الفسخ فيه و الله العالم.

الفائدة السادسة و العشرون: (دخول خيار الشرط في سائر المعاوضات):

لا يدخل في سائر المعاوضات عدا البيع من الخيارات غير خيار الشرط، كما نبه عليه غير واحد من أصحابنا، بل المرجع إلى أصالة اللزوم لأن الخارج بالنص و الإجماع خيار الشرط في المعاوضات اللازمة و أما غيره فلا. لكن حدث لبعض المتأخرين القول بدخول خيار الغبن و العيب في سائر العقود التي يدخلها خيار الشرط بتقرير أن ثبوت كل خيار في البيع لجهة نفي الضرر لا لجهة الإجماع لكي يرجع فيما سوى البيع إلى أصالة اللزوم، و هذه العلة سارية في جميع المعاوضات المالية، بل حكى الجريان مطلقا عن شرح" الإرشاد" و" التنقيح" و" إيضاح النافع". نعم استحسن المحقق الثاني جريان خيار الغبن في الإجارة، و علله بكون عقدها في توابع المعاوضات فيظهر منه العموم، و بعضهم استثنى الصلح و حكم بعدم دخولهما فيه بخيال أن الغرض منه قطع الخصومة فلا يشرع الفسخ فيه.

و فيه أن لا ملازمة بين قطع الخصومة و ثبوت الخيار، و ليس كل خيار يوجب المنازعة و لا كل صلح شرع لذلك، و لذلك فصل بعضهم بينما وقع من الصلح على جهة

ص: 101

المعاوضة و ما وقع على إسقاط الدعوى التي لم تثبت فأجرى الخيار في القسم الأول و نفاه في الثاني، إذا ظهر حقية ما يدعيه و كان مغبونا فيما صالح فيه و الصلح الواقع على ما في الذمم و كان مجهولا ثمّ ظهر بعد الصلح غبن أحد المتعاقدين لأن الإقدام على هذين مع احتمال الضرر إقدام عليه فلا تجري فيه العلة فكان المصالح و المصالح تركا ما صالحا عنه كائنا ما كان.

و الحق أن قاعدة الضرر نفي مقدمة على أصالة اللزوم في كل ما تعارضا فيه فحيثما يحصل الضرر يثبت الخيار إنما الكلام في الذي يقدم على الضرر في المال محتملا أو مظنونا فهل يثبت له الخيار. إذا انكشف الضرر أم إقدامه عليه يرفع خياره؟ الظاهر الثاني فإن مسيس الحاجة إلى بعض العقاقير و اليسير من الأشياء لا إشكال في جواز ابتياعها و إن ظن فيها الضرر و ليس ذلك من أكل المال بالباطل، و كثير ما يقدم الإنسان على شراء ما يعلم بعدم مساواته للثمن المدفوع بإزائه و مع ذلك فسقوط الخيار محل إشكال لأن الإقدام على الضرر لا ينفيه و الفرض دوران الخيار مداره وجودا و عدما. نعم إذا استظهر بذلك إسقاط المشتري لخياره مثل التصرف المسقط فله وجه يخرج على القواعد.

الفائدة السابعة و العشرون: (الغبن):

المغبون و غيره ممن له الخيار سواء كان البائع أم المشتري سقوط خيار الغبن مع التأخير إذا كان عالما بالخيار غير جاهل به و لا ناس له مختارا كاملا و أخره عمدا سقط خياره في المشهور، و كذلك الشفيع في الأقوى و الباعث على سقوطه أن التأخير فيه إمارة الرضا بالمبيع أو بالثمن أن تحقق في أحدهما المغبونية، أو العيب مع علم المغبون، لأن الصبر مع عدم الرضا على الضرر من دون موجب له مع التمكن من الفسخ لا يرتكبه العاقل المختار، و هذا هو الدليل على فورية الخيار متى ثبت لأحد المتعاقدين فخرج بالعالم الجاهل سواء كان الجهل بالموضوع أو الحكم أو الفورية و ترك الفحص عن الحكم غير مناف لمعذوريته. نعم ربما يستشكل بالنسبة إلى الجهل بالفورية من حيث عدم المبادرة لدفع ضرره لكون الجهل عذرا مطلقا و مثله خيار التأخير و إن حكم البعض بعدم المعذورية فيه، و يقبل قول مدعي الجهل مطلقا إلا أن تقوم إمارة على كذبه كأن يكون من العلماء أو العارفين، و لا يخفى عليه مثل هذا الحكم في غير الجهل بالفورية لإمكان خفائه، و لذلك حكم الفاضل بعدم قبول قول العارف إن ادعى الجهل بحق الشفعة أو فوريتها ما لم يكن قريب عهد بالإسلام أو في مكان لا تعرف فيه الأحكام فيكون هذا الظهور في حقه موافقا للأصل، لاحتمال انقطاع الأصل بما انقطع به في الجاهل المقصر فلا وقع لدغدغة شيخنا في كلامه (و الناسي بحكم الجاهل) و يقبل قوله فيه لأنه لا يعلم إلا من قبله و الشاك في أن له الخيار أم لا لتعذر الفحص عليه، يفسخ و يفحص لعدم توقف الفسخ على الفحص و رفع الشك و يحتمل القول بمعذوريته و خرج بالمختار المكره على عدم إظهاره أو المبادرة إليه و لو ادعى كتمانه للإكراه سمع قوله إن تحقق أنه مصدود و بالكامل غيره من صبي أو مجنون إذا عدم الولي الذي اشترى لهما قبل تحقق الغبن أو بعده قبل العلم و لم يعلم أيضا ما ناب منابه من الحاكم و غيره فلو صحى المجنون أو بائع الصبي لهما الفسخ و لوليهما إذا علم كل ذلك لا شبهة فيه لكن مع هذا فقد اختلف العلماء في فورية هذا الخيار و تراخيه فجنح القائل بالأول إلى أنه القدر المتيقن بعدم خروج الخيار عن الأصل و لاندفاع الضرر بالزمن الأول، و زعم مدعى الثاني بأنه لا رافع لحكم الخيار بعد ثبوته فيستصحب و لم يذكر أحد بأن من مسقطات الخيار طول الزمان فسقوطه يحتاج إلى الدليل.

ص: 102

و اعترض شيخنا دليل الفورية بأن القدر المتيقن لا يزاحم الاستصحاب و لا يرد عليه، و اعترض المحقق الثاني (رحمه الله) الموجه للقدر المتيقن (بأن العموم في إفراد العقود يستتبع عموم الأزمنة، و إلا لم ينفع بعمومه) انتهى، و معناه أن الحكم المخالف للأصل إذا ثبت في زمن عمل به دون الزمن الذي بعده فيبقى العام على عمومه فيه و يلحقه حكم العام و توضيح ما رام بيانه. بأن الزمان هل هو ظرف للفرد الخارج من العموم أو أنه مكثر لأفراد العام؟ فالفرد في الزمن السابق غيره في اللاحق ثمّ العموم الزماني أما من دليل الحكمة القاضي باستمراره في جميع الأزمنة، و أما لغويا فإن كان الأولان و تحقق خروج فرد من أفراد العام فلا يفرق خروجه بين أن يكون دائما أو في وقت إذ ليس خروجه دائما زيادة تخصيص في العام حتى يقتصر على المتيقن منه بل الفرد الخارج بالنسبة إلى الأزمنة كالعام بالنسبة إليها، و دليل الحكمة فيهما سواء فإذا قال الشارع: (اجتنب الخمر إلا الجامد منه بالأصل) لا يقال بحرمة اجتنابه في الزمن الأول فقط، بل لو ذاب و شك في اندراجه في حكم الخمر أو بالجامد منه يلحقه حكم الجامد إذ بعد فرض خروج الفرد عن العام، و الحكم عليه بغير حكم العام لا موجب لرفع حكمه من جهة استمرار الزمان بل حكمه على الدوام لأن العموم الزماني تابع للعموم الإفرادي، نعم إذا قامت قرينة لفظية على أن موضوع الحكم إرادة الفعل في كل يوم من الزمان أو جزء منه.

و ورد مخصص بخروج فرد عن حكمه العام و شك بخروجه عن كلي الأيام أم لأن فيخص الخارج بالقدر المتيقن منه، و لا إشكال في الرجوع إلى حكم العام في الزمن المشكوك لأن دفعه في الزمن المتيقن لا يقضي برفعه عن الزمن المتأخر المشكوك رفعه فيه، فلو قال المولى لعبده: (أزل في كل يوم قمامة البيت) ثمّ قال: (اذهب لكذا و لا تزل القمامة) فلو شك العبد في الثاني بوجوب الإزالة و عدمه لزمه حكم العام لأن كل يوم ملحوظ لمولاه في الأمر و موضوع للحكم فمتى زال اقتصر على الفرد المتيقن فيه الزوال و لا ينفع استصحاب عدم الوجوب في الزمن الخاص بل يلزم الرجوع لحكم العام بل لو ثبت الحكم بدليل لبي في الأزمنة، و خرج من الحكم فرد في بعضها أيضا و شك في لحوق الحكم له لزم الرجوع فيه إلى أصل آخر، و لا ينفع الاستصحاب لقصر موضوعه على ذلك الزمن كما لو فرضنا أن الزمان ظرف و الاستصحاب غير حجة لا يمكن الرجوع إلى العموم لعدم كون الزمن موضوعا له و الحكم معلقا عليه. ثمّ ذكر (رحمه الله) أن الفرق بين الصورتين من جهة ظرفية الزمان و عدمها لا من جهة الفرق بين العموم الإطلاقي الناشئ من دليل الحكمة و العموم اللغوي فحيثما ثبتت ظرفية الزمان سواء كان العموم إطلاقيا أم لغويا، فالحكم مما ذكرنا من بقاء حكم الفحص فيما كان الزمان ظرفا، و للرجوع للعام حيث كان مكثر الأفراد العام ثمّ أفسد مقالة المحقق الثاني (رحمه الله) بأن آية:" أَوْفُوا*" مطلقة لا عامة فلا تنافي الاستصحاب بأنه إذا كان الملحوظ في العموم الحكمي تكثر أفراد العام لا الظرفية في الزمان لا معنى بعد للاستصحاب إلا أن يدعى بأن كل عموم اطلاقي بالنسبة إلى الزمان لا يكون إلا على الوجه الأول و عليه فلا معنى للقول بأن الاستصحاب يخصص العموم في ما كان الزمان فيه لمحض الظرفية كما توهم في الأصول بل العموم لا يشمله بعد خروجه و إن فقد الاستصحاب كما أن الاستصحاب لا يجري في الصورة الثانية و إن فقد العموم فليس شي ء منهما ممنوعا بالآخر بل كل جار في مورده و ما نحن فيه من قبيل الأول فإذا خرج العقد الغبني من عموم وجوب الوفاء، فلا فرق بين استمرار خروجه

ص: 103

و انقطاعه و لا قدر متيقن للفرد الخارج و يكون مهملا بالنسبة إلى الزمان و لا يرجع في الزمن الثاني إلى العموم بل يتمسك فيه بأصالة اللزوم، ثمّ ذكر أن التمسك للقبول بالتراخي، بالاستصحاب كما وقع لسيد الرياض حسن أن بني على المسامحة في تشخيص موضوع المستصحب الذي لم يشخص بالأدلة اللفظية مع الشك في بقاء الحكم و عدمه، و أما على ما هو التحقيق من اعتبار جميع القيود الموضوع في زمان الشك فلا مجرى للاستصحاب هنا لأن مورد الحكم في الخيار لمن لا يتمكن من رفع ضرره فيتداركه بالفسخ فانسحابه إلى الآن الذي لم يتدارك به المغبون ضرره مع إمكان الفسخ في الزمن السابق موضوع آخر، و قياسه على الأول محرم- عندنا- فلا يجري الاستصحاب إلا في موضوع تشخص بالدليل اللفظي، أو كان الشك في رافع الحكم، ورد ما في" الرياض": (بأن المدرك لهذا الخيار إن كان الاجماع أو قاعدة الضرر فيجري الاستصحاب مع المسامحة في الموضوع بلا تفاوت و إن بنينا على المداقة فيه لا يجري سواء فيهما) انتهى. موضحا.

أقول ثبوت خيار الغبن بالإجماع المحكي المعتضد بالشهرة المحققة فقط لا آية التراضي، و لا التي قبلها، و لا حديث الضرر لما فيها من المنع و لا نص عليه بخصوصه سوى قوله" عليه السلام": (

غير المسترسل سحت

)، على احتمال فلم يبق إلا الإجماع، و المحقق من ورود الإجماع، و الشهرة أن موضوعه تمليك المالك المال بما يزيد عن قيمته، و يسمون الأول غابنا، و الثاني مغبونا سواء ثبت خدع في المعاملة أم لا فحينئذ حيثما يتحقق الغبن بهذا المعنى يلحقه اسم الخيار لعدم جواز تحقق الموضوع و نفي الحكم فمن ترك الخيار متراخيا فيه إن لم يلحقه حكم المغبون فلا خيار له لارتفاع موضوع الحكم، و إن لحقه و صدق عليه المغبونية فعدم ثبوت الخيار له كوسج طويل اللحية، و لذا حكمنا بأنه إذا قامت قرينة من المتراخي على الرضا بالمبيع سقط الخيار. و الحاصل الغبن بمعناه باعث على تزلزل العقد- حيث وجد- و لم يثبت أن التراخي فيه مسقط للخيار على حد غيره من المسقطات فهو الأقوى إلا أن يكون فاحشا لا يتسامح فيه على إشكال و حينئذ فيسقط هذا البحث من أصله، و لا يجنح إلى نفي الضرر أو الاستصحاب أو آية:" أَوْفُوا*" أو أصالة اللزوم. فإنه تطويل بلا فائدة، فمن قال بالفورية قطع برضاء المغبون بالعقد مع التراخي و هو من المسقطات لخياره، و من قال بعدمها لم يتجه عنده أن التراخي موجب للرضاء المسقط فلعل ذلك لأمر آخر فإن الدواعي لا تنحصر و هو الأوفق.

و بالجملة لزوم العقد بعد الحكم بتزلزله يحتاج إلى دليل عليه- و عليك بمراجعة الفضولي فإن فيه ما يتعلق بالمقام في مسألة الشك في لحوق الإجازة- و عدمها و الله العالم.

الفائدة الثامنة و العشرون: (أخذ الأجرة على الواجب)

اشتهر بينهم جواز أخذ الأجرة على طي المسافة، و إن وجب الحج على الأجير، و كذا للبيع و الشراء بل الظاهر أنه مجمع عليه، و كذا قالوا للوصي أن يأخذ الأجر على عمله، و إن وجب عليه العمل من مال الطفل و غيره، و جوزوا أيضا الاستنابة عن الميت و الحي الذي يمتنع في حقه الحج بعد وجوبه عليهما، و كذا أجازوا أخذ الأجرة على ما فات الميت من صلاة أو صوم أو غيرهما من العبادات القابلة للنيابة كصلاة الطواف و غيرها من أفعال الحج و غيره، بل رخصوا في بعض أفعال الحج الواجبة مما هو مشروط بالقربة أن يستنيب بالإجارة الحي فيها غيره في عامة إذا أعجله المسير. و في العام القابل، لكنهم اختلفوا في جواز أخذ الأجرة على القضاء الواجب مطلقا أو غير ما وجب عينا كما في

ص: 104

" الشرائع"" المختلف"، و في الإيضاح اختيار جواز أخذ الأجرة على الواجبات التوصلية مطلقا دون التعبدية، و أطلق غير واحد من المتقدمين و المتأخرين، جواز أخذ الأجرة على مطلق الواجبات و ظاهرهم أن صفة الوجوب تنافي المعارض، و نقل على ذلك الإجماع المحقق الثاني، و طعن فيه شيخنا بمكاسبه بوجود اعترافه مع اعتراف في غير المقام بضبطه، و استثنى الدفن من الواجبات التوصلية كل من أجاز أخذ الأجرة عليها و كذا الأجرة على إرضاع اللبن و إن وجب على المرضعة، و الذي ترجح في النظر القاصر إن الواجب منه ما هو مقدمي غيري، و من ما هو نفسي أصلي، و هما؛ إما مشروط بنية القربة عيني تعييني، و إما غير مشروط بها، و هما أيضا إما كفائي أو عيني، و إما تخييري أو تعييني، و التخيير إما عقلي أو شرعي، ثمّ الوجوب قد يتعلق بالمؤجر فقط أو به و بالأجير أو بالأجير خاصة، ثمّ الواجب قد يكون المقصود من وجوبه إيجاده في الخارج بأي نحو اتفق، و قد يراعى فيه خصوصية المؤجر فلا يجزى عن وجوده من غيره، ثمّ منه ما هو قابل للمعاوضة بمعنى وصول نفع بإيجاده إلى الغير و لو لجهة سقوط الواجب عن المستأجر المشترك وجوبه بينه و بين الأجير، و منه ما لا يصل نفعه للغير، أما الوجوب إذا كان مختصا بالمستأجر فقط فقد ذكروا أن الواجبات القابلة للنيابة يجوز أن يستأجر على أدائها من لم يتعلق به الوجوب، و يكون الأجير بمنزلة المستأجر فكأنه هو لدخوله في كل ما قضى بجواز الاستنابة و الاستئجار في كل عمل محلل قابل للمعاوضة و إن وجب على الشخص فعله، و ينتقل التكليف بأداء الواجب من المستأجر إلى الأجير فيتعلق الخطاب به و تبرأ ذمة المستأجر بمجرد الإجارة مع ظن التأدية في الأجير و من ذلك الإجارة على العبادات عن الميت، و إجارة الحي غيره للحج حيث يقطع بعدم إمكانه منه لمرض و غيره، و إجارة الولي غيره على تجهيز الميت. لو قلنا بوجوبه عليه دون غيره- كما هو مذهب السيد، و في حكم الإجارة الجعالة، و التبرع فالممتثل في الحقيقة هو المستأجر، و الأجير بدل عنه و الثواب له دونه بناء عليه أن كل واجب خوطب به شخص خاصا يجوز الاستنابة فيه و استئجار الغير عليه كسائر المباحات إلا ما دل الدليل على لزوم المباشرة فيه، و ما شك فيه أيضا يشمله عموم الجواز و يظهر، ذلك من فحوى كلمات شيخنا في مكاسبه في حصره النزاع في الإجارة على الواجبات بما وجب على الأجير فعله دون المستأجر، و يمكن الخدش فيه بأن المباشرة في فعل المأمور به مما يقضي به الأمر، و إلا عاد لغوا فاعتبر أوامر الموالي للعبيد و السقوط مع عدم المباشرة إما لارتفاع الموضوع أو لحصول الغرض مع عدم الامتثال، و إما أن الاستنابة بالجعل أو مجانا من الامتثال للأمر بحيث يكون المستنيب ممتثلا فغير واضح الدليل، نعم إذا فهم ذلك من حال الآمر بالقول أو القرينة القطعية فهو خارج عن محل الفرض. و عمومات التوكيل و أدلة الإجارة و الجعالة لا تشخص موضوعا و لا تعارض ما دل على وجوب مباشرة العمل الذي توجه الأمر به إلى المكلف الخاص و حينئذ العمل المحلل الذي ينتفع الغير به تجوز المعاوضة عليه إلا ما وجبة المباشرة فيه، و المفروض أن وجوب المباشرة مما يقضي به الأمر مطلقا فلا يجوز استنابة من وجب عليه فعل من الأفعال غيره بإجارة أو غيرها إلا بالإذن من الآمر وجب على الأجير فكل فعل ما استأجر عليه أم لا فصفة الوجوب تمنع من الاستئجار على ما وجب مطلقا. نعم من ينكر أصالة المباشرة في الأوامر له أن يقول بصحة الاستئجار و الاستنابة على ما وجب على المستأجر دون الأجير مما يصل نفعه إليه فتنحصر صحة الإجارة في الواجب الذي لا يلزم المستأجر المباشرة فيه، و ليس بواجب على الأجير فعله و أما ما وجب فعله على المستأجر فلا يكون موضوعا لعقد الإجارة و إن سقط بفعل الغير

ص: 105

لكون العامل بعد فساد عقد الإجارة متبرعا فلا احترام لعمله إلا أن يكون جاهلا بوجوب مباشرة ما استأجر عليه على المستأجر فيجزى فيه قاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) إن عممناها لمثل الإجارة و إلا استحق، أجرة المثل، لاحترام عمله و غروره من قبل المستأجر فالنزاع في حرمة الأجرة على الواجب. نعم و إن كان على المستأجر دون الأجير- كما قررنا- و أما إذا اشترك الواجب بأقسامه بين الأجير و المستأجر أو اختص بالأجير وحده فهل يجوز استئجار من وجب عليه الفعل الذي استأجر عليه أم لا مما يعود نفعه إلى الغير؟ فيه كلام لأصحابنا، و ملخص ما استفدناه من مشايخنا و اعتمدناه من أسلافنا هو عدم جواز أخذ الأجرة على ما وجب على المكلف فعله مطلقا، و عمدة ما ركنوا إليه في المنع أن العمل متى كان مملوكا للغير منفعة أو عينا فلا يجوز تمليكه لآخر فيقع العقد لغوا لأنه تحصيل، حاصل فإن الشخص متى كان مقهورا على العمل و ليس براجع إلى طيب نفسه فقهره أخرى عليه لا يفيد فائدة، و لا يصل إلى القاهر منفعة لأن المنفعة التي تصل إليه بفعل هذا العمل لو كان له منفعة تصل إلى الغير بفعله هي واصلة على كل حال فلا تصح المعاوضة على منفعة تحصل بالمعاوضة و يتركها فإن تحصيل مثل هذه المنفعة، و بذل العوض عليها سفه فالعمل الواجب على كل مكلف يصل نفعه إلى الغير بفعله بمجرد الإلزام به صارت تلك المنفعة محرز وجودها و لا بد من وصولها إلى الغير، فالمعاملة عليها معاملة سفهية بل أكل مال بالباطل لو جهل المستأجر ذلك، و علم به الأجير بناء عليه لو استأجر شخص شخصا على عمل له منفعة محللة قابلة للمعاوضة و العمل مباح لكن في ضمنه عمل واجب على الأجير، و المنفعة مشتركة بين المباح و الواجب تبعضت الصفقة و قسطت الإجارة و رجع المستاجر بما يخص ذلك الواجب منها على الأجير سواء علم بذلك في مبدأ الإجارة أم تجدد علمه بعدها، و وجب على الأجير دفع ما يخصها لو لم يعلم المستأجر أو أستمر جهله، و أفتى بعض من عاصرناه ممن يرى عدم جواز الأجرة على الواجب بعدم التقسيط، و ان الإجارة، تكون على المباح و العوض يكون بدل المنفعة المباحة، و وجهه غير ظاهر و هذه العلة تسري في الواجبات مطلقا و ان كانت كفائية أو توصيله و إما الواجب التخييري عقليا كان التخيير أم شرعيا و تعبديا كان الواجب أم توصليا فلا تجري هذه العلة فيه إذا فرض أن في بعض أفراده منفعة تصل إلى الغير قابلة للمعاوضة لعدم مقهورية الأجير على أحد فردي الواجب أو افراده فلو ألزم بعقد الإجارة على الفرد المشتمل على تلك المنفعة. فلا بأس به لعدم جريان تلك العلة فيه، و لا بد من ابداء مانع آخر لمن عمم المنع، و كذا الاجارة على مقدمات الواجب التي لم تنحصر بل و مع الانحصار بمقدمة عن سوء اختيار المكلف بأن كان هو السبب في انحصارها بالمقدمة المأجور عليها. نعم لو انحصرت- و لو عن سوء الاختيار- قبل الاستئجار كأن ترك المكلف المسير إلى الحج الواجب عليه في ذلك العام في سائر الطرق حتى انحصر بطريق واحد لا بد له من سلوكه ففي جواز استئجاره على طي تلك المسافة مع مقهوريته شرعا على سلوك الطريق المخصوص اشكال، و إن كان في سلوكه نفع للغير قابلة للمعاوضة لجريان علة المنع المذكورة فيه لكن العلماء أطلقوا الجواز إما لبنائهم على اختصاص المنع بالواجب الأصلي دون التبعي أو لبنائهم على عدم وجوب المقدمة لو عمموا العنوان، لكن العلة المذكورة تجري في المقدمة المحصورة و إن كانت غير واجبة إذ لزوم الاتيان بها يكفي في عدم صحة الإجارة، فلا فرق بين القول بوجوب المقدمة و عدمها.

ص: 106

و الحاصل أن كل عمل يقهر الشخص على فعله و لا بد من حصوله منه سواء كان القاهر المالك الحقيقي أم غيره لا تصح فيه الإجارة، و لا إعطاء الجعالة لخلو العوض عن المعوض و لا يجري ذلك بما يتخير فيه المكلف لقابلية أحد أفراد الواجب الذي يعود منه نفع للغير للمعاوضة، و هذا المطلب يجري في التعبديات و التوصليات، لكن في التعبدي لا يمكن من حيث منافاة ذلك للإخلاص كما ذكروا فلا يكون العمل المقرون بنية القربة موضوعا لعقد الإجارة و وجهه عدم اشتراك العبد مع المعبود في اداء الفعل الذي أراده المعبود إلا على جهة النيابة، فيخرج عن مفروض البحث و إن سقط عن النائب فعله لمحض الامتنان و التفضل و إلا فمقتضى الدليل عدم السقوط و بقائه في الذمة، و عليه فلا تجوز النيابة فيما يشك في جوازها فيه من العبادات لأصالة المباشرة، و عدم اقتضاء أدلة النيابة للسقوط في غير المتيقن حتى في المندوبات و لا كذلك التوصلي التخييري أو الكفائي فيمكن أخذ الأجرة فيهما، و يكون العامل هو الباذل للأجرة و يسقط عن المباشر بفعله للعمل المستأجر عليه من حيث عدم إرادته بعد وجوده. نعم لو كان الواجب من حقوق المخلوق و إن استفيد ذلك من أدلة وجوبه لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن بذل ماله على حقه أكل للمال بالباطل بالنسبة للمبذول له، و لا يبعد أن من ذلك وجوب تجهيز الميت فإنه يستحقه على الحي فيكون بمنزلة الدين الذي يجب دفعه إليه فلا يحسن أخذ الأجرة عليه كالمستأجر لعمل فإنه لا يجوز أخذ الأجرة من آخر عليه، و لا يحتسب له إن وجب عليه فإنهم ذكروا أن المستأجر على حمل غيره يملك الحركة فإن طاف، به مع وجوبه عليهما لا يحتسب للحامل لأن حركته مملوكة للمستأجر بخلاف ما لو استأجره لأن يحمله في الطواف فإنه يستحق الحمل لا يستحق الإطافة فيكون كالاستئجار لحمل متاع فيه لكن خيرة المحقق (رحمه الله) أنه يحتسب لهما مطلقا و ظاهر القواعد ذلك الدروس لكنه استثنى صورة استئجاره لحمله في غير طوافه و فرق في المختلف بين الاستئجار للطواف به فنفى الاحتساب لهما، و بين أن لحمله في الطواف و في" الإيضاح" أن الاستئجار للحمل مطلقا و ضم نية احتسابه للحامل كضم نية التبرد إلى الوضوء و كأنه يستظهر الصحة، و على كل حال فالواجب المخير إذا كان على الأجير خاصة لا إشكال في جواز استئجار الغير له على بعض أفراده إذا كان للمستأجر منفعة في الفرد المخصوص، و أما الاستئجار على إيجاده مطلقا فمشكل و أن تعلق في مجرد وجوده غرض للمستأجر إذ الإيجاد المطلق مقهور عليه الأجير، و من ذلك أجرة القاضي على القضاء حيث لا يجب على المستأجر ذلك فإنه مخير بين أفراده من حيث الزمان و المكان فيصح استئجاره ممن يجب عليه على إيقاعه في زمان مخصوص أو مكان كذلك و هذا نظر من سوغ أخذ الأجرة على القضاء لكن هذه العلة تجري فيما لو تعين القضاء على الأجير أيضا و أظنهم لا يلتزمونه فيه.

و أما إذا كان الواجب توصليا كفائيا فالحقه شيخنا (رحمه الله) في مكاسبه بالتخييري الكفائي، و استظهر جواز أخذ الأجرة عليه فيسقط عن المستاجر الوجوب لكن ينبغي التأمل في إن هذه الفائدة العائدة إلى المستأجر هل تحصل فيسقط عنه الأمر بمجرد عقد الإجارة أو بحصول الفعل في الخارج؟ فإن كان بمجرد العقد و إن لم يحصل الفعل المعلوم حصوله لدى المستأجر فنعم الفائدة، و إن كان السقوط منوطا بحصول الفعل و معلوميته و لا يكفي نفس الاستئجار في سقوط التكليف بل التكليف بحاله حتى يعلم المستأجر بصدور ما كلف به من الأجير، و لا يكفي إيجابه على الاجير بعقد الإجارة في فراغ ذمة المستأجر منه و إن احتمل أو ظن وقوعه من الأجير فحينئذ لا فائدة في الإجارة لأن الواجب قبلها كهو بعدها،

ص: 107

و الظاهر أنهم لا يقولون بسقوط التكليف عن المستأجر بمجرد العقد ما لم يعلم بصدور الفعل من الأجير. نعم للمستأجر أن يجير الأجير على أداء العمل إذا صح عقد الإجارة كما لو استأجره على غسل الساتر الواجب عليه تطهيره مقدمة و لم يجب على الأجير ذلك فإن له جبره على الفعل فيكون من باب الاستنابة الخارجة عن محل البحث و لا تجري البدلية و الاستنابة في كفائي الواجب جزما لأن موضوع عقد الإجارة إيقاع ما وجب على الأجير فلا تفيد الإجارة إلا جواز جبر المستأجر الأجير على إيقاع ما وجب عليه لتفرغ ذمة المستأجر، و هذه السلطنة إذا كانت تكفي في صحة عقد الإجارة فلا مانع منها، و إن كانت لا تكفي من جهة مقهورية الشارع للأجير في إيقاع العمل أشكل الأمر.

و الحاصل إن كانت البدلية و الاستنابة تتصور في الواجب الكفائي صحت الإجارة و خرج ذلك عن مفروض المسألة فيأتي الأجير بالعمل بدلا عن غيره و لا يحصل له امتثال الأمر الذي توجه إليه في خصوص ما استأجر عليه، فإن سقط عنه لدليل و إلا بقي في ذمته و حينئذ مرجع جواز الإجارة على الواجب الكفائي إلى جواز الاستنابة فيه و عدمها فإن أجزنا الاستنابة فيه جرى حتى في التعبديات- و إن لم نجز ذلك- و حصرنا جواز الاستنابة فيما لم يجب على الأجير فعله أشكل جواز الإجارة على الواجب الكفائي التوصلي لعدم حصول الفائدة في العقد المزبور إلا جبر الأجير على العمل، و هو أيضا محل كلام- فتأمل جيدا- و الذي ينساق إليه النظر هو عدم جواز الاستجارة على الواجبات مطلقا إلا على طريق النيابة فيما يصلح فيه ذلك مما لا يجب على الأجير فعله فيلزم بعقد الإجارة، و أما المقدمات فيجوز الاستئجار على غير المقدمة المحصورة، و أما لو استأجر من لا يجب عليه الفعل غيره على واجب كفائي بينه و بين غيره أن كان توصليا و فيه نفع يعود إلى المستأجر فلا مانع من الإجارة و بفعله يسقط عن الغير لا بمجرد الإجارة فما لم ينكشف للغير فعله لا يسقط التكليف به عمن وجب عليه نعم لو استأجر من ينوب عن الميت فيما فاته من العبادة برأت ذمة المستأجر و لا يلزم الولي إلا القضاء و لا المستأجر إذا كان وصيا شيئا آخر بل بمجرد وقوع العقد لا تكليف عليهما، و لا يجب عليهما تحصيل العلم أو الظن بقيام الأجير بالعمل. نعم لو ظهر لهما فواته فيمكن أن ينتقل فرض قضاء ما فات الميت إلى الولي قضاء للأصل و العمومات السليمة عن المعارض، و يمكن أن يقال أنه بمجرد الاستئجار سقط الوجوب عن الولي فلا يعود. بقي الإشكال في الإجارة على الصناعات التي تجب كفاية مع أن الطريقة من عهد صاحب الشريعة (ص) إلى يومنا على جواز الاستئجار عليها و هو كذلك لأنها من المقدمات لحفظ النظام و يجوز الإجارة على أدائها و إن كان الوجوب مطلقا كما في طي المسافة للحج على من وجب عليه خصوصا إذا كانت المقدمة غير محصورة و كان الواجب توصليا كفائيا إلا أن يكون حقا لمخلوق فيجب إيصاله إليه، و من تجهيز الميت فلا يجوز الإجارة عليه لأن الأجير مقهور على الفعل من جهة المخلوق فإن من عليه الخمس أو الزكاة أو غيرها من الحقوق لا يجوز له استئجاره على إخراجه أو إيصاله لأهله مع التمكن، و لا فرق بين الكفائية و العينية في حقوق الناس، لكن ينبغي التدبر في بعض الواجبات أنها من حقوق الخالق أو المخلوق و بملاحظة ما حررنا تقدر على تخريج ما أجازوا أخذ الأجرة عليه من الواجبات مثل أخذ المرضعة الأجرة على إرضاع اللبن لو قيل بوجوبه عليها، و مثل أخذ الوصي الأجرة من مال الطفل الموصى عليه الشامل بإطلاقه بصورة تعيين العمل عليه و مثل بذل المال للمضطر فإن له الرجوع بقيمة

ص: 108

المبذول لا أجرة البذل و مثل أخذ الطبيب الأجرة على حضوره عند المريض إذا تعين عليه العلاج و غير ذلك مما ذكروا جواز الاستئجار عليه من الواجبات الغير قابلة للنيابة، و أما القابلة لها بأي نوع من أنواع الواجب يجوز استئجار الغير و استنابته بجعالة أو تبرعا عليه و هو خارج عن هذه المسألة و الله العالم.

بسم الله الرحمن الرحيم

و به نستعين

و صلى الله على محمد و آله الطاهرين

يقول الخاطئ المذنب المقصر و العبد الآثم القادم إلى رمسه، و الجاني على نفسه العباس بن الحسن بن العلامة الأكبر جعفر كاشف الغطاء النخعي سألني من لا بد لي من إجابته أن ارسم بعض الفوائد الفقهية عند تدريسي فأجبته مستعينا بتسديد الحجة عليه و على آبائه أفضل التحية و السلام.

فوائد الرضاع

الفائدة التاسعة و العشرون في النسب:

لا ريب في تحريم كل قريب إلى الإنسان إلا بنات العم أو الخال على بني عمومتها أو بني أخوالها فالآباء و الأمهات و البنات و البنون و الأخوة و الأخوات علوا و نزولا حرام بالضرورة من الدين و أما الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات فان كانوا له أو لآبائه و أمهاته فكذلك و إلا فلا فعمة العمة و خالة الخالة لا تسري إليهما الحرمة.

الفائدة الثلاثون: تحريم النكاح بالنسب الشرعي

تحريم النكاح بالنسب الشرعي لا ريب فيه من نكاح أو ملك يمين أو تحليل أو شبهة وطئ، و لا ينافيه عروض التحريم حيضا و نفاسا أو صياما أو إحراما فانه ينشر الحرمة أيضا بالضرورة، و وطئ المجنون و النائم و السكران و المميز على الظاهر و يدخل بوطء الشبهة حكما و لو اختصت الشبهة بأحدهما اختص الولد به و انتفى عن غيره من غير أشكال فلا تلحق العالم سائر الأحكام إلا النكاح فتعم الحرمة على الأظهر.

الفائدة الواحدة و الثلاثون في النسب الزنائي:

النسب الزنائى في النكاح يلحق النسب الشرعي في الحرمة فتحرم بنت المزني بها و أمها عليه و على أصوله و فروعه، و الظاهر أنه لا خلاف فيه و حكى الإجماع عليه الشيخ في الخلاف و الفاضل في التذكرة و ثاني المحققين و الهندي في شرح القواعد و غيرهم، و لا ينافي ذلك عدم ثبوت أحكام النسب شرعا مطلقا كالتوارث و إباحة النظر و النفقة على الولد و الانعتاق و ارتفاع القصاص و عدم تحريم حليلة الابن لو زنى بها الأب، و الجمع بين الأختين و غير ذلك لأنه خارج بدليله، و بعض العلماء نفي التحريم لقصر دليله على الإجماع- و هو محكى- ه لصحمو غير ثابت، و لكن الاكتفاء بالنسبة العرفية أو اللغوية يقتضي ترتب عموم أحكام النسب، و قد علمت الخارج منها و لا يبعد أن نظر الفقهاء في ترتب أحكام النسب إلى النسب العرفي و اللغوي، و لا أظن أنهم يقولون بالحقيقة الشرعية في مثل لفظ الأم و البنت و غيرهما، و لا ريب في صدق النسب مع الزنا فتترتب عليه جميع الأحكام، و يحتاج الخارج إلى الدليل القاطع لكن نسبة التزام ذلك إلى العلماء مشكل، فيدور

ص: 109

الأمر بين إدخاله موضوعا في النسب و عدم ترتب بعض أثار النسب للدليل و بين إلحاقه حكما في خصوص النكاح و إنكار حصول النسب بالزنا و هو الأوفق.

الفائدة الثانية و الثلاثون ما يثبت به النسب:

يثبت النسب لمن أمكن في حقه أن يجمع بين أقصى الحمل و الولادة لستة أشهر، فلو تعاقب اثنان على وطئ امرأة و ولدت بعد مضي أقصى الحمل أو دون ستة أشهر من نكاحهما، لا يلحق الولد بهما شرعا في نكاح الشبهة، و ان تبعض بان ولدت لدون ستة أشهر من نكاح أحدهما و أكثر من نكاح الأخر لحق الولد الثاني، و كذا إن ولدت لدون أقصى الحمل من أحدهما و اكثر منه للآخر، و أما لو أمكن النكاح في حقهما بان غشياها فولدت بين الحدين بان أجهضت لدون أقصى الحمل من واحد و فوق الستة أشهر من أخر فقيل بالقرعة و نسب للطوسي و قيل لمن تعقب فراشه و نسب للأكثر و هو الأظهر للأخبار الناصة عليه التي لا تعارض بالأخبار الظاهرة في القرعة مع ضعفها و ضعف العموم في شرعية القرعة بأنها لكل أمر مجهول.

الفائدة الثالثة و الثلاثون في لحمة الرضاع كالنسب:

الرضاع لحمة كلحمة النسب مفاده أن العلاقات و القرب الحاصل بالنسب يحصل بالرضاع فيكون كأنه هو و النسب الإناثية تسع الأمهات و الجدات و البنات و بنات الأولاد و الأخوات و بنات الأخوة و بنات الأخت و العمات و الخالات، و هذه النسب تحصل بالرضاع كحصولها في الولادة، فإذا أرضعت الامرأة ولدا أو بنتا صارت المرضعة أما و زوجها أبا و الراضع معه أخا أو أختا و أم المرضعة جدة و أختها خالة و أخوها خالا و أخو الزوج عما و أخته عمة و بنات من رضع معه بنات أخ أو أخت و تتشعب الحرمة فتحرم على الرضيع مثلا أمه التي أرضعته و أمها من الرضاعة و النسب و أن علت و تحرم على الزوج الرضيعة و بنتها نسبا و رضاعا- و أن نزلت- و كذلك تحرم أخت الرضيع عليه رضاعا و نسبا و أن تسافلت و خالته و عمته بالنسب أو الرضاع و هكذا بالنسبة إلى الذكور نعم لو ثبتت الأخوة في الرضاع خاصة دون الولادة فله صورتان أحدهما أن ترضع مع ابنها النسبي اثنين فهما بالنسبة إلى الأم و الأب إلى أخر النسب حكمها واضح و كذلك بالنسبة إلى من رضعا معه و بناته و أخواته و عماته و خالاته و أما بالنسبة إليهما فالظاهر الحرمة أيضا مع اتحاد الفحل كأن أرضعت ثلاثة أحدهما ابنها ولادة و معه ولد و بنت كل واحد من واحد فالظاهر حرمة الولد على البنت و نشر الحرمة مطلقا لكل من رضع من ذلك اللبن متقدما أو متأخرا أم مقارنا فيحرم على الأب بنت الرضيع فنازلا و بنت أخيه و على الرضيع الأم الرضاعية و غيرها إلى أخر السبعة مما يتعلق بها و بالأب من الأقرباء المحرمة و الأخوة بعضهم على بعض مطلقا و بناتهم كذلك و أما أمهاتهم و جداتهم و خالاتهم و عماتهم ففيه تفصيل سيجي ء ذكره و أما إذا كانوا أخوة من طرف الأم فقط كأن أرضعت جماعة كل واحد من لبن فحل فلا يؤثر حرمة في المشهور مطلقا لاختلاف الفحل و سيجي ء في طي الفوائد تفصيله.

الفائدة الرابعة و الثلاثون في الرضاع المحرم:

لا ريب في حصول التحريم بواسطة الارضاع في الجملة للأقارب النسبية و الرضاعية للمرتضع أو لمن ارتضع منه و تفصيله: إن الراضعة تكون أما للرضيع و آبائها النسبيان و الرضاعيان أجداده و صاحب اللبن يكون أبا له و آبائه النسبيان و الرضاعيان أيضا أجداده

ص: 110

فيحصل للأجداد ثمان شعب فحينئذ يحرم على الرضيع أمه النسبية و أمه الرضاعية و أم أبيه نسبة و رضاعا و أم أمه كذلك و هكذا سواء خلا عن الواسطة أو كان الرضاع بواسطة أو وسائط، و لا فرق في الواسطة بين النسبية و الرضاعية فيحرم عليه كذلك من رضعت أحد أجداده و أن على و هكذا. و الملخص أن الأمهات النسبية للأم الرضاعية و الأمهات الرضاعية لها أو لأحد أجدادها الحرمة سواء، و لو كان الرضاع بواسطة أو وسائط و مثله لأمهات الرضاعية للأب الرضاعي أو لأبيه أو لجده و كذلك الأمهات الرضاعية للأب النسبي أو أحد آبائه أو أجداده، و مثله القول في البنت و الابن النسبيين و الرضاعيين فبناته هي التي رضعت من دره و بنات أولاده التي رضعت من لبنهم بواسطة أو بلا واسطة، و مطلق البنت الرضاعية على بنت الابن و البنت و هكذا و إن نزلن و الأخوات؛ الرضاعية هن بنات أبويه أو أحدهما، و الأبوان اعم من يكونا نسبيين أو رضاعيين و هكذا بنت الأخ و الأخت و العمات أخوات الأب الرضاعي و الخالات أخوات الأم الرضاعية فتخرج من جميع من ذكرنا الشعب النسبية و يبقى فيها الرضاعية فتحرم هذه القرابات السبع على الرجل و نظائرهن على الامرأة.

الفائدة الخامسة و الثلاثون في اللبن المحرم:

اشارة

يشترط في اللبن المحرم أن يكون عن نكاح محلل شرعا و منه نكاح الشبهة، و تردد فيه البعض، و الأصل يساعده و الدليل معاضده، و الاحتياط يقضي بنشر الحرمة في نكاح الشبهة لإلحاقها بالنكاح الصحيح حكما و لميل الأكثر إلى ذلك نعم لا ريب في شمول النكاح للمتعة و ملك اليمين. و التحليل كما أنه لا شبهة بخروج النكاح عن الزنا فلا ينشر حرمة و أن ألحقه البعض في صحيح النكاح فيكفي فيه الشذوذ و المشهور في المحرم من اللبن هو ما كان بعد انفصال الولد فلا يحرم حالة الحمل و لا ما در من غير نكاح و الثاني مشهور و الأول مختلف فيه و الدليل يساعد القول بعدم الحرمة فيهما فلا يحرم إلا بعد الانفصال و لو كان سقطا بشرط ولوج الروح فيه، و تمام خلقته، و لو دار اللبن بين اثنين كما في نكاح الشبهة و بعض أفراد الحامل لحقت الحرمة من لحق به الولد في الأولى و أقوى السببين في الثانية و يستصحب لبن الفحل حتى يقطع بانقطاعه أو تبدله بفحل أخر كما لو تزوجت بعد طلاقها و وضعها فحملت من الثاني و ولدت و هي ترضع الأول فزاد بالولادة اللبن كما أنه لا فرق بين طول الزمان و قصره في اللبن المحرم و حينئذ يلزم أن يكون اللبن عن نكاح مع الولادة فلو لم يكن عن نكاح لا يحرم، و كذا لو كان من نكاح و لا ولادة أو عن نكاح و ولادة زنائية فكذلك لا يجري فيه حكم الرضاع، كل ذلك اقتصارا على المتيقن فيه و نفي ما عداه بالأصل، و خلاف من خالف لا يفيد، إلا الاحتياط الذي لا يلزم مع أن الالتزام به هنا خلاف الاحتياط لدخوله في تحريم الحلال بلا حجة قاطعة فتأمل و يعتبر حياة المرضعة مطلقا و أن ماتت قبل إكمال الرضاع المحرم فأكمله بعد الموت فإنه لا يحرم. و زعم بعض التحريم للاستصحاب و لم يلتفت إلى تغير الموضوع في الموت.

تنبيه: في الرضاع المحرم:

لا أشكال في أن مسمى الرضاع لا يحرم و أن صدق الاسم سواء حصل المسمى برضعة أو أكثر مما لا يعتبر فلو أرضعت ألف رضعة و فصل بينهما قبل العشرة برضاع أخرى لا ينشر حرمة إجماعا و المخالف فيه منقرض أو من غيرنا و الشارع جعل للمحرم منه حدودا إنبات اللحم و شد العظم أو رضاع يوم و ليلة أو عشر رضعات أو خمسة عشر على الخلاف إنما الأشكال في أن الأثر الزماني و التقديري كاشفان عن إنبات اللحم و شد

ص: 111

العظم أو كل واحد منهما يكفي في التحريم و ان لم تحصل تلك الفائدة، فالكل كوزني الكر، ظاهر الجمع بين الأخبار بأن المناط هو الإنبات و الاشتداد، و ان نشر الحرمة تدور مدارهما و عليه يتفرع بأنه لو حصل العلم دون اليوم و الليلة و دون العشر رضعات بهما جاءت الحرمة و أن لم يحصل فلا حرمة و أن تحقق أحد التقديرين فهما طريقان للوصول إلى الإنبات و الاشتداد لا أن كل واحد منهما علة مستقلة يدور الحكم مدارها وجودا و عدما و عليه فلو شك في الإنبات و الاشتداد مع رضاع اليوم و الليلة، و العدد يقتضي عدم الحكم بالحرمة لأصالة عدمها مع عدم تحقق موضوعها. و ظاهر كثير من الفقهاء بأن كل واحد من هذه الأمور سبب تام في نشر الحرمة و ان وقع في الأخبار حصول الإنبات و الاشتداد برضاع يوم و ليلة أو العدد المخصوص، سلمنا أنها طرق و لكنها مجعولة فيلزم أن يكون العمل عليها في مقام الشك فتقل الفائدة بين القول بأنها طرق أو أن كل واحد منهما سبب تام يدور الحكم مداره، فلو قطع بعدم الإنبات و الاشتداد مع حصول أحدهما يحكم بنشر الحرمة لأن الحكم يدور مدارهما وجودا و عدما، و ربما جعل بعضهم المناط هو العدد، و الأثر و الزمان يعتبران من حيث الكشف عنه لا أن كل منهما علة تامة في الحكم. و يظهر من جماعة الاكتفاء بأحد الأثرين، و ترقى بعض فاكتفى بالتحريم برضعة واحدة و الأخبار، مضطربة و الأقوال متشعبة و علاج الأخبار بالتخصيص و التقييد لا يكاد يتم، و إرجاع بعضها إلى بعض مشكل غاية الأشكال، فالأوفق المصير إلى ما عليه الأكثر من الاكتفاء في نشر الحرمة بأي واحد من الثلاثة حصل و تشخيص موضوع الإنبات و الاشتداد يرجع فيه إلى أهل الخبرة، و يكفي فيه العدل الواحد- و أن أفاد ظنا- و لا يكفي فيه الظن و أن تعدد غير العدل ما لم يحصل القطع من خبرهم و لا يكفي الأثر الشأني التقديري بل المدار على الأثر الفعلي لأنه المتيقن في مخالفة الأصل، و لا يلزم تحقق العدد في رضاع اليوم و الليلة بل يحرم و أن نقص، نعم يلزم أن الطفل كلما احتاج الرضاع، رضع حتى يرتوي لنفسه و لا فرق بين قصر الليل و طوله، و في الملفق البالغ مقدار اليوم و الليلة أشكال و الأقوى عدم نشر الحرمة معه كما أن الأقوى اعتبار الخمسة عشر في التحريم و الأوفق الجمع بين الأثر و الزمان و التقدير في مقام الاشتباه بمعنى أن لو شك في العدد يفحص عن اليوم و الليلة فلو شك فيها اعتبر الأثر و يكفي في التحريم العلم الإجمالي بتحقق أحدها الغير المعين و لا يجري معه الأصل و لا يلزم الفحص و ان أمكن و تتحقق الحرمة أن تعقب العلم الإجمالي في مقام الشك، فلو شك في حصول كل واحد منها و نفاه بالأصل و رتب أثار الحلية بأن تزوج المشكوك في رضاعها مثلا ثمّ تجدد له العلم الإجمالي بوقوع النكاح المحرم فارق الزوجة و لا ينفع فيه استصحاب صحة عقد النكاح لانقطاعه به كما بين في الأصول و حيث كان المعتبر في العدد إكمال الرضعات و عدم الفصل بينها برضاع أخرى و عدم نقص أحدها عن ارتواء الطفل فيعلم أنه مع الفصل أو النقص لا يلحقه حكم التحريم لكن لو أرضعته خمسة ثمّ نقصت السادسة مثلا من دون فصل ثمّ أرضعته خمسة أخرى كاملات نشر الحرمة على القول بالعشر، و كذا لو صنعت على القول الأخر لأن هذا النقص لا ينافي الاتصال إذا اتحد الفحل و مع الاختلاف لا حرمة و أن اتحدت المرضعة فلو ارضعته تسعا من لبن فحل و واحدة من لبن أخر فلا حرمة و أن اتصلا إلا إذا تحقق الأثران في أحدهما. فالظاهر الحرمة فيمن تحققت ذلك منه على ما أشرنا.

ص: 112

تنبيه: في حولي الرضاع:

الرضاع المحرم و هو ما إذا وقع في حولي الطفل و لو بعد الفطام أو بعد انقضاء حولي المرضعة لولدها فالحولان يعتبران فيه فقط فلا عبرة برضاعة بعد مضي حوليه في الحرمة، و تعتبر الحرمة و النشر في قول الأكثر و أن مضى لطفلها النسبي حولان و المعتبر لذلك فيها دليله قاصر و أن كان ذلك صريح موقوف ابن أبي بكير لرجوعه إلى اجتهاده لا إلى صريح قول الامام و لا إلى الإرضاع بعد فطام، و لو لا مصير مشهور الأصحاب إليه لكان في النفس منه شي ء باعتبار الشك في الحرمة بعد مضي حولي طفلها و هو يكفي في عدم نشر الحرمة و لا وقع لأصالة بقاء الحرمة السابقة على المناكحة لجريانه في كل ما شك فيه مما لا يلتزمونه و لانقطاعه لو كان بالتبدل، و يعتبر الارضاع من الخلف بمصه منه دون ما سواه من الإيجار بحلقه أو سعوطه به أو حقنه أو أكله جبنا و أن تحقق فيه الأثران من الإنبات و الشد فإن القدر المتيقن أنهما يحرمان على وجه مخصوص أو مطلقا كالعلتين الباقيتين باعتبار ما أصلناه من الاكتفاء بنفي الحرمة بمجرد الشك فيها المستند إلى الموضوع أو إلى تعميم الحكم إذ نشر الحرمة في الرضاع، طارئة مشترطة قطعا بشروط عديدة فمع الشك في شرط منها لا يبقى للحرمة أثر، و لو لا ذلك لحكمنا بالحرمة بمجرد تحقق الرضاعية و لا يزعمه أحد، و احتمال التعميم مع خروج الخارج بدليل احتمال واه، بل إثبات الحرمة و نشرها يحتاج إلى الدليل بعد الحكم بجواز العقد و النكاح على مطلق النساء إلا ما استثني في الكتاب و النص القطعيين من المحرمات فيلزم في كل امرأة يحرم عقدها أو نكاحها أن تدخلها في المستثنى بدليل قاطع و ألا بقيت على إصالة جواز العقد و حلية النكاح و لا ينافي ذلك أصالة الحرمة في النكاح لانقطاعه و زواله بالقاعدة المستنبطة من جواز العقد و النكاح بأسبابه في حق كل امرأة و تحقيقه في غير المقام فتلخص أن المعتبر في التحريم كمال الرضعة و امتصاصها من الثدي، و ان يكون المرتضع في الحولين و أن لا يفصل بين الرضاعات برضاع غير المرضعة إلا أن يتحقق الأثران حتى بالمأكول و المشروب إلا في الزمانية خاصة و أن يتحد الفحل و أن تعددت المرضعة من زوجاته و ان تتحد المرضعة مع اختلاف الفحل، و يتحد فحلها- على تفصيل يأتي-، و أن لا يكون عن زنا، و لا يكفي المص مع عدم تحقق اللبن و وجوده فإذا أكملت الشرائط بأسرها جرى على المرتضع حكم الولد و صار الفحل أبا و الراضعة أما و آبائهم أجدادا و الراضع معه و غيره من أولاد الفحل أخوة و أبنائها أبناء أخوة و أخو الفحل و المرضعة عما و خالا فتحرم هذه كلها كما كانت تحرم نسبا.

الفائدة السادسة و الثلاثون أمور مهمة في الرضاع:

اشارة

تشتمل على أمور:

أولها: أن المرتضع لو أكمل الرضاع المحرم من زوجات فحل واحد بأن رضع من كل زوجه قدرا بملاحظة الباقي يؤثر الإنبات و الاشتداد أو رضع من كل واحدة عددا يتم بلحوق باقي الزوجات العدد المحرم أو رضع بعض اليوم و الليلة من كل واحدة حتى أكمل يومه و ليلته برضاع الجميع فهل ينشر حرمة أم لا ظاهر اشتراطهم اتحاد الفحل فقط يقتضي أن يكون الفحل أبوه فتحرم عليه جميع أقاربه

ص: 113

النسبية و الرضاعية من بناته و بنات بناته و أمهاته و أخواته- أن كان المرتضع ذكرا- و الفحل و أبوه و أخوه و أولاده- أن كان أنثى- لكن بالنسبة إلى تحريم الأم و متعلقاتها إشكال لتعدد المرضعة من زوجات الفحل و لا يمكن جعل الجميع أمهاته فيقتضي أن تتبعض الحرمة في الأمومة فلا تحرم عليه أمهات الزوجات و لا أخواتها فيختص التحريم بطرف الأب فقط و يكون المرتضع بلا أم و لا خالة و لا جدة من طرف الأم من الرضاع بل يجوز له أخذ جميع من رضع منها بعد مفارقة أبوه لها أن لم نقل بأن زوجة الأب من الرضاعة كزوجة الأب النسبي، و كذلك أم الأخ و ظاهر اشتراط نشر الحرمة باتحاد المرضعة يوجب عدمها و أن اتحد الفحل- و هو الأقوى- فيقتضي إمعان النظر فيها، و الظاهر المفهوم من النصوص أن توالي الرضعات المحرمة لا يكفي فيها عدم اتحاد المرضعة فالأجود عدم الحرمة مضافا إلى.

الأصل الثاني: ان الحرمة تتبعض فيما لو تعدد الفحل و اتحدت المرضعة، فلو رضعت ولدا من فحل و رضعت بنتا من أخر حل الولد على البنت و لا عبرة بالأخوة الرضاعية من طرف الأم كما يعتبر إذا كانت من طرف الأب- و هو المشهور- و خالف فيه بعض لأخبار مضطربة لا تصلح للحجية.

الثالث: لا حرمة من طرف الفحل إذا تعدد بأن رضع المرتضع نصف المدة من لبن واحد و نصفها من لبن الأخر لو أمكن كما لو فارقها الفحل حين الولادة فتزوجت و حملت و مكثت ترضع الطفل الأول إلى حين ولادة الثاني، و رضعت طفلا قبل الولادة خمس رضعات و أكملت بعد ولادة الثاني الخمس الباقية بلا فاصل و تيقن بتجدد اللبن للثاني فالظاهر أن هذا الرضاع لا ينشر حرمة بالنسبة إلى الفحلين، و أما بالنسبة إلى الأم فوجهان من كون الأمومة لا تحصل إلا برضاع تام من فحل واحد فلا حرمة و من صدق الرضاع فتحرم دون حواشيها فتأمل.

الرابع: يجوز استرضاع الذمية مع عدم المرضعة المسلمة، و الظاهر جواز ذلك اختيارا- و لو ولدت منه متعة- فالظاهر أنها أحق برضاع ولدها فلا يجب أن يطلب له مرضعة بعد طلبها للحضانة، و في تحريم أقاربها نسبا أو رضاعا على الرضيع و أقاربه نسبا أو رضاعا في استرضاعها لغير ولدها حتى من كان منهم حربيا إشكال، و التحريم لا يخلو من قوة و لو ملك المرتضع الحربي من أحد أصولها و مثلها الأمة المسترضعة و في حريتها لو ملكها المرتضع و يكون سبيلها سبيل أمة بجميع أنواع النقل من بيع أو هبة أو أرث وجهان. و الحاصل أن الذمية و الأمة و الكافرة غير الكتابية إذا استرضعن فهل يجري عليهن حكم المسترضعة من المسلمين بالنسبة إلى أصولها و فروعها النسبية و الرضاعية مطلقا أو يفصل بين النسبية و الرضاعية أو لا مطلقا إذا كان المرتضع مسلما سواء كان اللبن لفحل مسلم أو مطلقا يلزم تدقيق النظر في جزئيات المقام و تطبيقها على الأصول الشرعية.

تنبيه: الأخ الرضاع

الأخ الرضاعي النسبي يحرم على المرتضعة و أن تعدد الفحل و كذلك العكس و عدم الحرمة المذكورة هي في الأخوين الراضعين الذين كل واحد منهما من فحل، و أما هما بالنسبة إلى الأخ النسبي فلا ريب بالحرمة إجماعا فإن اعتبار اتحاد الفحل أمر مخالف لإطلاق الكتاب و الأدلة المثبتة له مختصة بالولدين الرضاعيين و أن ظهر من بعض عدم الحرمة مطلقا مستدلا بصحيحة صفوان عن أبي الحسن" عليه السلام" و فيها قلت: (

فأرضعت أمي

ص: 114

جارية بمنى قال: هي أختك من الرضاعة قلت: فتحل لأخ لي من أمي لم ترضعه أمي بلبني قال: الفحل واحد؟ قلت: نعم هو أخي لأبي و أمي، قال اللبن للفحل صار أبوك أبوها و أمك أمها

) فإن استفصال الامام" عليه السلام" عن اتحاد الفحل مع تصريح السائل يكون الأخ ولد المرضعة نسبا يقضي بتغاير حكمه حكم صورة تعدد الفحل، و لكنها موهومة الدلالة و معارضة بأخبار مصرحة بالمطلوب، فالأظهر ما عليه الأكثر.

الفائدة السابعة و الثلاثون: أمور مهمة في الرضاع

اشارة

يظهر من الفاضل في القواعد أن ما قضي باعتبار اتحاد الفحل يقتضي عدم تحريم أم المرضعة و أختها و بنات أخيها من الرضاع على المرتضع لاختلاف الفحل فإن الرضاع الحاصل بين المرضعة و المرتضع بلبن فحل. و الحاصل بينها و بين أمها الرضاعية أو أختها أو أخيها بلبن فحل أخر فلا نشر لشرطية اتحاد الفحل في الرضاع، و زاد المحقق على فروضه فحكم بعدم تحريم عمة المرضعة و خالها و خالتها من الرضاع على المرتضع و نسب التحريم إلى القيل ورد التمسك بعموم الكتاب و السنة بتخصيص عموماتها بما دل على اشتراط اتحاد الفحل و فيه أن ما دل على اعتبار اتحاد الفحل إنما هو في مورد خاص و هو عدم تحقق الأخوة الرضاعية بين أجنبيين مع اختلاف صاحب اللبن كما تقدم و قاعدة خصوص المورد لا يخصص الوارد لا تجري في مثل المقام لأنه يوجب تخصيص العمومات بلا مخصص مضافا إلى التصريح بتحريم أخت المرضعة من الرضاع على المرتضع في صحيحة الحلبي و إلى الإيماء به في موثقة عمار الساباطي من التعليل فإنه علل حرمة أخت المرضعة بأنهما رضعتا من امرأة واحدة بلبن فحل واحد إلا أن توهن بدلالتها على اتحاد المرضعة التي لا يعتبر بالإجماع، و الظاهر أنه لا يضر في الاستدلال بالتعليل فحينئذ الأقوى ما عليه الأشهر.

تنبيه: الارتباط الحاصل الموجب لتحريم الحلال و حلية المحرم بين بني آدم على قسمين:

الأول: النسب.

و الثاني: المصاهرة و الله سبحانه و تعالى لطفا منه مرحمة في عباده لحكم خفية ألحق الرضاع بالنسب و ورد من حفظة الأحكام [عليهم السلام]: [

أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أو من القرابة

] و معناه: أن كل عنوان قد حمل عليه الشارع التحريم من جهة العلاقة النسبية فهو بعينه يحرم من جهة العلاقة الرضاعية فكأنه ساوى بين المني و اللبن في أن كل واحد منهما يورث علاقة يلحقها حكم التحريم، فلذا صارت المرضعة و الفحل أبوين للمرتضع كما أن الزوجة و الزوج أبوين للمتولد منهما و كما أن فروع المتولد النسبي لهما أحفاد و أصولهما له أجداد و جداتا و فروعهما له أخوة و أولاد أخوة و من في حاشيتهما عمومة و خئولة فكذلك في الرضاع بشرائطه حرفا بحرف و الشارع قد حصر العنوانات التي تحرم في النسب فلا بد من أن تلاحظ تلك العنوانات أيضا في الرضاع؛ لأنه أحال الحرمة الرضاعية إليها، و أما العنوان المستلزم لأحد هذه النسب التي حرمها الله تعالى فهو أن دخل بأحد هذه المحرمات بحيث أطلق عليه أحدها حرم لجهة اندراجه فيما حرمه لا من جهة استلزامه لما حرمه مثلا أم الأخ للأبوين لم تحرم من جهة أنها أم أخ إذ ليس لحرمة أم الأخ نص في محرمات الكتاب و إنما حرمت من جهة إطلاق الأم عليها و كذلك أم السبط المستلزمة لكونها بنتا و أختا لأخ للأبوين المستلزم لكونها أختا فمن حيث كونهما أم سبط أو

ص: 115

أخت أخ لا يقال لحرمتها إذ أم السبط و أخت الأخ لم تحرم حتى يشملها أحد المحرمات المنصوصة إذ لا نسب بين المذكورات من حيث هذا العنوان و بين المحرم عليه و لا ريب أن المستفاد من قوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ] أن جهة التحريم أمومة الأم للشخص و أما كونها أم أخيه أو بنت جدته أو أنها أخت خاليه فلم يكن ليشملها العموم و لم نستفد من دليل أن ذلك من أسباب التحريم النسبية و حينئذ فإذا أرضعت امرأة أخاك لا ينبغي أن يقال أنها تحرم عليك لأن حرمة أم الأخ من جهة أنها أم أخ لم يحكم بها الشرع في النسب فكيف يكون في الرضاع إذ لا نسب بينك و بينها من جهة كونها أم أخيك بل النسب بينها و بين نسبيك من حيث الأخوة و النسب بين شخص و بين نسبيه لا يقتضي التحريم و لم يثبت كونه سببا للحرمة فظهر فساد ما يتخيل من عموم المنزلة بدعوى أن الموصول في الحديث يعم النسبية و ما يستلزمها فكما أن الراضعة لبنتك محرمة عليك لأنها بالرضاع دخلت تحت العنوان النسبي فثبت به بنوتها لك فكذلك من أرضعت بنت بنتك حيث حصل برضاعها أنها أمها و أم بنت البنت بنت- و هي محرمة نسبا- فتحرم رضاعا لما ذكرناه من (أن الحديث حرم من جهة الرضاع ما حرم من جهة النسب) و أم ولد البنت ليس لها عنوان في الشريعة غايته أن النسب بينها و بين نسب الشخص و ما كان كذلك لا جهة فيه للتحريم مع أنك لو عممت الموصول في الحديث لكل عنوان ذكر في لسان الشارع بخصوصه و لما يستلزم ذلك العنوان من العناوين التي لا حصر لها يلزم التكرار لأن البنتية مثلا تلازم عناوين عديدة فتتكرر مشمولات العام و هو عزيز في العمومات بل لا يكاد يوجد.

و الحاصل أن المستفاد من الحديث بعد التدبر فيه أن ما يحرم من النسب يحرم نظيره من الرضاع، و المستلزم ليس نظيرا له إلا بضم مقدمة أخرى و هي (أن اللوازم عين الملزومات) بدلالة لحن الخطاب فإذا صارت عينها حرم النظير فتكون كأنها هي، و هو ممنوع في الخطابات بعد اختصاص الحكم بعنوان مبين فيها يدور الحكم مداره فلا يصلح أن يكون العنوان الآخر نظيرا له من حيث الاستلزام فظهر مما ذكرنا أن الضابط في حصول الحرمة بالرضاع ملاحظة الرابطة النسبية التي علق عليها التحريم فإن حصل في الرضاع نظيرها تثبت الحرمة و هي أعم من أن تكون بين المحرم و المحرم عليه كما في المحرمات السبع النسبية و بين المحرم عليه و هو المحرم لأجل المصاهرة، فالحرمة هنا أيضا لوحظ فيها الرابطة النسبية و هي أمومة الزوجة فحرمتها لم تتعلق في الكتاب و السنة على علاقة المصاهرة التي بينها و بين الزوج و إنما علقت على الرابطة النسبية التي بينها و بين أم الزوج- و هي الأمومة- فهي حرام على الزوج لجهة أنها أم زوجته فيحرم بالرضاع مثلها، و كذلك أختها جمعا، و هكذا ألحق بالزوجة مثل المزني بها و الموطوءة بشبهة و الغلام الموطوء و نحو ذلك فخيال عدم شمول الحديث لمثل ما حرم بالمصاهرة بزعم أن الحديث قضى بأن الحرام في الرضاع هو نظير ما حرم بالنسب، و لا ريب أن المحرمات بالمصاهرة غير المحرمات بالنسب فلا يشملها الحديث مردود بما مر بأنه ليس المراد من النسب في الحديث خصوص النسب الحاصل بين المحرم و المحرم عليه ليختص بالمحرمات السبع النسبية بل المراد أن كل ما يحرم على شخص من جهة نسب حاصل بينهما أو من جهة نسب حاصل بين أحدهما و زوجه الأخر و من في حكمه محرم عليه فيثبت نظيره في الرضاع و بتقرير أخر أن كل رابطة نسبية ثبت من جهتها تحريم شخص على أخر فالرابطة الرضاعية مثلها و جعل المصاهرة قسيما للنسب في بعض العبائر فيه مسامحة

ص: 116

فالتحريم في آيتي [أُمَّهٰاتُكُمْ وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ] علق على الأمومة النسبية فالموضوع في كل من الحكمين معنون بعنوان الأمومة لكنه في الأول بين المحرم و المحرم عليه و في الأخر بين المحرم و زوج المحرم عليه- فليفهم-.

الفائدة الثامنة و الثلاثون مسائل في الرضاع:

اشارة

بعد ما عرفت العنوان المحرم في الرضاع و الضابط لذلك لا بأس بذكر مسائل ذكرها العلماء في كتب متفرقة و تطبيقها على العنوان المزبور و ذكر ما خرج عنه منها ليتضح الحال في أحكام الرضاع و كيفيته و الخلاف في بعض أفراده و الجهة التي ظهر الخلاف منها:

المسألة الأولى: أنه لا ريب في تحريم المرتضع على المرضعة

كتابا و سنة و إجماعا لأن الشارع جعلها أمه.

المسألة الثانية: أن أصول المرتضع من أبيه أو جده لأبيه أو لأمه لا تحرم على المرضعة من جهة نفس إرضاعها إياه

أما على أبيه فظاهر إذ غايته أن المرتضعة صارت أم ولده و أم الولد حلال على أبيه و أما على أجداده للأب فلأنها و أن كانت أما لولد ابنه لكن حرمة أم ولد الابن على الجد ليس عنوانها كونها أم ولد ابنه بل لكونها زوجة ابنه و بالرضاع لا تثبت زوجية المرضعة لابنه من حيث أنها أرضعت ابن ابنه، و أما أجداده لأمه فكذلك إذ المرضعة أرضعت ولد بنته فصارت أم ولد البنت و أم ولد البنت إنما تحرم إذا كانت بنتا نسبا أو رضاعا و هذه ليست بابنه نسبية و لا رضاعية بل أجنبية عنها و قد مر أن رضاع الابن لا يورث بنوة المرتضعة لأب المرتضع فإن غاية دلالة الحديث أنه يحرم ما صدق عليه العنوان المحرم بعلاقة الرضاع و هو مفقود في المسألة و حيث لا حرمة لأصول المرتضع نسبا لا تحرم أصوله الرضاعية بطريق أولى.

المسألة الثالثة: لا ريب في حرمة فروع المرتضع نسبا على المرضعة

لأنهم أحفادها و أما فروعه الرضاعية فتحرم في المشهور و قد عرفت فتوى الفاضل المحقق (رحمه الله) في الشرائع و القواعد من عدم تحريم فروع المرتضع الرضاعية على المرضعة و عرفت ضعفه و لا بد أن يلتزما بعدم الحرمة في المثال حيث حكما بأن مرضعة المرضعة لا تحرم على، المرتضع و لا شبهه أن المرتضع من الفروع الرضاعية للمرتضعة من المرضعة.

المسألة الرابعة: حواشي المرتضع أعني أخوته لا يحرمون على المرتضعة

من جهة ارتضاع أخيهم منها إذ غاية الأمر أن المرتضعة صارت أما رضاعية لأخيهم و لا دليل على تحريم أم الأخ الرضاعية و إما حرمتها في النسب فلأنها أما أم أو زوجة أب، و لم يحصل بالرضاع أحد الأمرين و أما أخوته من الرضاع حيث رضعوا أمه النسبية فهم بعدم التحريم أحق مضافا إلى أن أمومة الأخ غير ملازمة للأمومة لتفارقهما في زوجة الأب و توهم الحرمة بعض بخيال أن الأم النسبية للأخ من الأبوين يلزمه أن تكون أما لكليهما فالأم الرضاعية للأخ منهما كذلك و قد تقدم ما يوهن هذا الأمر من أنه لا يثبت برضاع أحد الأخوين للأبوين أمومة الثاني الذي لم يرضع و أن ثبت في النسب من حيث الملازمة.

المسألة الخامسة: يحرم المرتضع على أصول المرضعة من النساء

أي أمها وجدتها و كذلك المرتضعة تحرم على أصول المرضعة من الذكور كأبيها و أجدادها لأن المرتضع

ص: 117

مطلقا من أحفادهم و لا فرق في الأصول بين كونهم من النسب أو الرضاع و كذلك حواشي الأصول نسبا أو رضاعا كالعمومة و الخئولة بلا أشكال في ذلك.

المسألة السادسة: لا تحرم أصول المرتضع مطلقا على أصول المرضعة؛

إذ هم إذا لم يحرموا عليها كما تقدم فكيف يحرمون على أصولها؟.

المسألة السابعة: يحرم فروع المرتضع على أصول المرضعة

لأنهم صاروا أجدادا.

المسألة الثامنة: لا يحرم حواشي المرتضع و فروعهم على أصول المرضعة و حواشيهم،

لأن حواشي المرتضع مثل أخوته إذا لم يحرموا على المرتضعة كما مر في المسألة الرابعة فعدم حرمتهم و حرمة فروعهم على أصول المرتضعة و حواشيهم بطريق أولى.

المسألة التاسعة: لا ريب في حرمة المرتضع على فروع المرضعة نسبا كابنها و بنتها فنازلا

سواء كان الفحل واحدا أم لا و سواء رضع من لبن أحد الفحلين أم منها لثبوت الأخوة من طرف الأم بينه و بينهم من جهة الرضاع و في الحرمة و عدم اشتراط اتحاد الفحل فيها مضافا إلى الشهرة المحققة بل و الإجماع و نص معتبر موثق بأحمد بن الحسن بن فضال و أما فروع المرتضعة من الرضاع و هم أولادها منه فإن كانوا لفحل واحد حرم بعضهم على بعض و أن تعدد الفحل فلا حرمة كما تقدم خلافا للطبرسي (قدس سره) و قد حررنا ضعف دليله بالصحيح و ما في حكمه الناص على عدم الحرمة.

المسألة العاشرة: مما خالف الضابط الذي ذكرناه في صور المسألة أن المعظم بل و عليه الفتوى حكموا بحرمة أصول المرتضع من أبويه و أجداده على فروع المرضعة من النسب

مع أن القاعدة لا تقتضي ذلك من جهة أن فروع المرضعة لا تزيد على أن تكون أخوة لولد أصول المرتضع و نفس الاخوة لا توجب تحريما إلا من حيث كونه ولدا أو كونه ولدا لأحد الزوجين و لذلك نسب لجماعة و منهم الطبرسي عدم الحرمة هنا إلا أن الأكثر عليها و الأخبار مصرحة بها و عليه لو أرضعت الجدة للأم ولدا بلبن جده أو غيره حرمت أم ولد ذلك الولد على أبيه لان أمه من أولاد المرضعة و لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن. هذا كله في فروع المرضعة نسبا و أما فروعها رضاعا فأما أن يختلف الفحل أو لا فان أختلف بأن كان ولدها الرضاعي ارتضع بلبن فحل غير فحل ولد أب المرتضع فلا ريب بعدم الحرمة لأن الأخوة تكون من طرف الأم و قد عرفت عدم التحريم فيها إلا على قول الطبرسي فان كون ولد المرضعة بمنزلة ولد أبي المرتضع فرع الأخوة الرضاعية للمرتضع المفقودة مع تعدد الفحل و أما إذا لم يختلف الفحل فقد يقال أو قيل بحدوث الأخوة بين ذلك الولد و بين المرتضع و هي منشأ التحريم لصيرورة هذا الولد المرتضع من أولاد الفحل رضاعا و حينئذ فإن قلنا بأن الوالد و البنت في الأخبار الناصة على التحريم المراد بهما النسبيين- و لو انصرافا- اختصت الحرمة بالولد النسبي فقط و أن استظهرنا العموم عمت و الظاهر عموم التحريم للنسبي و الرضاعي و أن كانت النصوص ظاهرة في النسبي إذ بعد ما ثبت التحريم في الولد النسبي للمرضعة ثبت في الرضاعي أيضا للحديث في (

أن ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع

) و خيال أن تحريم فروع المرضعة على أبي المرتضع إنما هو لأجل كونها بمنزلة فروع أبي المرتضع لا من جهة انه ولدها حتى يحرم ولدها الرضاعي و كونها بمنزلة ولد أبي المرتضع لا يتأتى في ولدها الرضاعي بل هو مخصوص بولدها النسبي موهون قطعا بأن ذلك دعوى لا دليل عليها مع أنه و أن سلمنا أن الحرمة لكونهم بمنزلة ولد أبي المرتضع فلا نسلم

ص: 118

الاختصاص فالوجه الحرمة ثمّ أن النصوص و إطلاق كلام الأصحاب و أن كان المصرح فيها هو تحريم أولاد المرضعة على أبي المرتضع و لم تذكر الأم فيها لكن الظاهر عدم الفرق بين الأب و الأم في الحرمة فتحرم أولاد المرضعة أيضا على أم المرتضع؛ إذ كونهم بمنزلة ولد أبيه يستلزم كونهم بمنزلة ولد أمه بلا فرق- بقي الكلام في تحريم أصول المرتضع على فروع الفحل و سيجي ء ذكره-.

المسألة الحادية عشر: أولاد المرضعة الصلبيين و الرضاعيين في المرتبة الأولى بعد نشر الحرمة من الرضاع بينهم

و بين نفس المرتضع أخوال أو أعمام لفروع المرتضع نسبا و رضاعا فيحرمون عليهم و أما أولاد أولاد المرضعة و أن نزلوا لا يحرمون على فروع المرتضع مطلقا لأنهم أولاد خئولة لهم أو عمومه.

المسألة الثانية عشر: أخو المرتضع و أخته نسبا أو رضاعا لا يحرمون على ابن المرتضعة و بنتها رضاعا

إذ غايته أن ابن المرتضعة صار أخا لأخيهم أو ولدا لأم أخيهم و لم يتعلق التحريم شرعا بأحد العنوانين و هكذا أبناء المرضعة النسبية لا يحرمون على أخوة المرتضع الرضاعية لعين ما ذكر إنما الخلاف في تحريم حواشي المرتضع النسبية أعني أخوته و أخواته لأب و أم أو لأب على فروع المرضعة النسبية أعني أبنائها و بناتها فقيل بالتحريم و قيل بعدمه و نسب الثاني إلى الشهرة و دليله ما مر من عدم تعلق التحريم بأحد العنوانين الجاريين في المقام و استدل من قال بالحرمة بان أولاد المرضعة صاروا بمنزلة أبناء أبوي المرتضع فأبوه أبوهم و أمه أمهم فهم أخوة لأولادهما و الأخوة محرمة. و رده جماعة بأن ذلك مبني على ثبوت الملازمة بين كونهم بمنزلة أولاد الأبوين و بين كونهم أخوة لأولادهما و هو ممنوع فإن أقصاه ملازمة عنواني البنوة للأبوين مع الأخوة للأخوين- و هو مسلم- إذا حدثت بالرضاع نفس البنوة للأبوين كما إذا ارتضع طفل بلبنهما فإن صيرورتهما أبوان و هو ابن لهما مستلزم لأخوته لأولادهما و أما إذا حدثت الأبوة من شي ء أخر غير ما ذكرنا و حكم الشارع بأن الطفل المرتضع صار بمنزلة ابنهما في الأحكام الشرعية فلا يلزم من ذلك ثبوت الأخوة و أجراء أحكامها الشرعية لما ذكرناه من الاختصاص بتلك الصورة و توضيح الرد أنه إذا ارتضع ولد من امرأة ذات أولاد صار أولادها أخوة لذلك الولد من غير شبهة، لكن مجرد الأخوة الثابتة لا تحرم هؤلاء الأولاد على أبوي المرتضع فيقال أنهما حراما لكونهم أخوة ابنهما و لا على أخوة المرتضع فيقال أنهم حرموا لكونهم أخوة أخيهم و ليس العنوان الحاصل من هذا الرضاع إلا كون أولاد المرضعة أخوة أخيهم لكن حيث قام القاطع على كون أولاد المرضعة بمنزلة أولاد أبوي المرتضع في جميع الأحكام الشرعية التي من جملتها تحريمهم عليهما حكم به و هو لا يستلزم أنهم بهذا قد صاروا بمنزلة الأخوة لأولادهما حتى يحرمون على الأخوة كذا ليس من الأحكام الشرعية لأولاد الأبوين تحريم بعضهم على بعض لتعلق التحريم في الآية على الأخ و الأخت لا على أولاد الأبوين أو أحدهما فظهر بهذا وجه عدم التحريم لكن خالف في ذلك جماعة و مال إليه في الكفاية مستدلا (بأن كونهم بمنزلة الولد يقتضي أن يثبت لهم جميع الأحكام الثابتة للولد من حيث الولادة) و من جملة أحكامهم تحريم أولاد الأب عليه و فيه أن تحريم أولاد الأب على الولد لو كان من حيث الولدية للأب لتم ما ذكر لكنه من حيث الأخوة للأولاد و لم يثبت هنا و الإنصاف أن الأخوة التي نيطت بها الحرمة في الآية و الرواية لا يفهم منها أحد إلا كون الشخصين ابنا واحد فكونهما ولدين لأمه و أبيه عين كونهما أخوين له لا أنه عنوان أخر ملازم له.

ص: 119

و الحاصل إذا ثبت أبوة الرجل لشخص و أمومة المرأة له ثبت أخوة أولادهما له فيحرمون عليه من هذه الجهة المتحدة في الوجود مع الأبنية فالأوفق القول بالتحريم و هو الأقوى و أن كان القول بعدمها جار على أصول المذهب.

المسألة الثالثة عشر: يحرم المرتضع على من في حاشية المرضعة

و في حاشية رضاعها و هم إخوتها و أخواتها بلا أشكال مع اتحاد الفحل من غير شبهة و فروعهم كذلك في حكمهم.

المسألة الرابعة عشر: يجوز لآباء المرتضع- و أن علوا- التزويج في أخوات المرضعة

و يجوز لأخوة المرضعة تزويج أمهات المرتضع لأن المرضعة في الأول ليست بحكم الزوجة جزما حتى لا يصح العقد عليها جمعا إذ الزوجية لا تثبت بالرضاع و لا يتخيل في الثاني بأن أم المرتضع صارت أما لولد أخت أخوة المرضعة و أم ولد الأخت محرمة لثبوت الاختية لأن عنوان الحرمة تعلق بالأخت لا بأم ولدها. نعم في النسب لا نمنع التلازم لكن لا يتعدى فيه إلى الرضاع.

المسألة الخامسة عشر: لا يجوز لأولاد المرتضع التزويج بأخوات المرضعة و إخوتها من النسب و الرضاع

لتحقق الخؤولة بينهم.

المسألة السادسة عشر: يجوز لأخوة المرتضع، التزويج بأخوات المرضعة

و يجوز لأخوة المرتضع أن ينكحوا نفس المرضعة و حواشيها من جهة أنه لم يحدث بينهم عنوان يتعلق التحريم به في النسب.

المسألة السابعة عشر: تحرم المرتضعة على الفحل

بلا ريب لأنها بنته.

المسألة الثامنة عشر: أمهات المرتضع. و إن علون لا تحرم على الفحل

و هو أبوه من الرضاعة، إما نفس المرضعة، فواضح، و أما أمهاتها أي جدات المرتضع فهو و أن حدث بالرضاع صدق اسم الجدات عليها لولده فإن جدات الولد يحرمن لأنهن جدات لنفس الأب أو أمهات أزواجه و لم يحصل الأمران هنا.

و خالف الحلي فحكم بتحريم جدة المرتضع على الفحل، و منه يظهر عدم حرمة فروع تلك الأصول على أب المرتضع مثل عمة المرتضع و خالته فالفرع لا يزيد على أصله.

المسألة التاسعة عشر: لا يجوز إجماعا لأب المرتضع أن ينكح فروع الرضيع

لكونهم بمنزلة الأحفاد، و أن كانوا من الرضاع.

المسألة العشرون: أخوات المرتضع لا تحرم على الفحل في المشهور

و كونهن أخوات ولده من الرضاعة لم يتعلق به عنوان محرم و أنما تعلق التحريم بالبنت أو الربيبة- أعني بنت الزوجة- الذي لا ينفك أحدهما عن الأخوة لولده في النسب و نسب التحريم هنا إلى غير واحد و منهم الشيخ في الخلاف و الحلي فحكموا بتحريم أخت المرتضع على صاحب اللبن و لعل له وجه.

المسألة الحادية و العشرون: يحرم المرتضع على أصول صاحب اللبن من آباؤه و أمهاته

لأنهم جدوده.

المسألة الثانية و العشرون: يجوز لآباء المرتضع و هم أصوله مطلقا التزويج بأصول الفحل

و هم آبائه كذلك العكس، و لا يحرم أحد منهم على أحد و قيل أن أمهات الفحل بمنزلة جدات المرتضع فتحرم على أبيه و على بعض أجداده، و كذا أمهات المرتضع بالنسبة إلى آباء الفحل و في القول ضعف.

ص: 120

المسألة الثالثة و العشرون: إن فروع المرتضع- أي أبنائه حرام على آباء الفحل

أي صاحب اللبن- لأنهم جدوده و هم أحفاده بلا شبهة في الحرمة.

المسألة الرابعة و العشرون: يجوز لأخوة المرتضع التزويج في أصول الفحل

لأنهم إذ لم يحرموا على نفس الفحل فكيف يحرمون على آبائه؟ و خلاف الحلي السابق يجري هنا.

المسألة الخامسة و العشرون: المرتضع حرام على أبناء صاحب اللبن نسبا و رضاعا

لثبوت الأخوة بين الجميع، و إن نزلوا لكونهم أما أخوة أو أولاد أخوة من غير فرق بين أن يكونوا من المرضعة أم من غيرها فمن كان عنده أربعون أمرأه بنكاح- و لو متعة- أو ملك يمين أو تحليل و رضع من كل واحدة منها أنثى و ذكر، و كان عند كل واحدة منها ابن و بنت و اللبن واحد حرم ذكورهم على إناثهم بلا ريب.

المسألة السادسة و العشرون: اشتهر بينهم لرواية عيسى بن جعفر على خلاف القاعدة القول (بعدم جواز تزويج آباء المرتضع و عدم حليتهم على أبناء الفحل

أي فروعه مطلقا و لو رضاعا- و إن نزلوا- لأن فروع صاحب اللبن و أن سبق منا أنه لا دليل على تحريم أخوة الولد من حيث أنهم أخوة له.

و الظاهر عدم الفرق بين الأم و الأب هنا للإجماع المركب و أن اختصت الحرمة في الرواية بالثاني.

و الحاصل أن ولد صاحب اللبن نسبا و رضاعا يحرم على آباء المرتضع و إن كانوا عن رضاع لأن المناط كونهم قد صاروا أخوة و الأخوة نسبا و رضاعا حرام.

المسألة السابعة و العشرون: لا يصلح لأبناء المرتضع- و إن نزلوا- أن يتزوجوا بأبناء صاحب اللبن في المرتبة الأولى

لجهة العموم فأنهم أعمام ولد المرتضع من غير فرق بين كونهم نسبا أو رضاعا، و أما أبناء أبناء صاحب اللبن أعني المرتبة الثانية- و إن نزلوا- لا يحرمون على فروع المرتضع بالبداهة لا نسبا و لا رضاعا.

المسألة الثامنة و العشرون: لا يحرم أخوة المرتضع و أخواته الذين يعبر عنهم بحاشية نسبه على أبناء الفحل

لأنهم لم يزيدوا إن صاروا بالرضاع أخوة لأخ أولئك و أخوة الأخ لم توجب التحريم فقد يتزوج أخ الرجل لأبيه أخته لأمه و لو قيد بالأخ بالأبوين أيضا لا يوجب تحريما لأن المحرم أخوة الأخ للأبوين من جهة الأخوة و لم يحصل بالرضاع ذلك فإن ما حصل بالرضاع غير موجب للتحريم، و ما يحرم لم يحصل بالرضاع إلا إن صيرورة أولاد الفحل بمنزلة أولاد أبي المرتضع يستلزم أن يكونوا أخوة لأخوة المرتضع بحكم الصحيحة فيحرمون قطعا. المسألة التاسعة و العشرون: لا يجوز للمرتضع تزويج أخت الفحل للعمومة و لو رضاعا و كذا بالنسبة إلى المرتضعة.

المسألة الثلاثون: آباء المرتضع مطلقا لا يحرمون على أخوة الفحل

أي صاحب اللبن و لو رضاعا لعدم حدوث عنوان محرم بينهم.

المسألة الإحدى و الثلاثون: الوجه تحريم فروع المرتضع و لو رضاعا

- و إن نزلوا- على أخوة الفحل و لو رضاعا لجهة العمومة لأبيهم و يحل جميع فروع تلك الحواشي و لا يحرم اخوة المرتضع على اخوة الفحل لأن أخوة المرتضع لا تحرم على نفس الفحل كما مر فكيف تحرم على حواشيه؟ لكن الحلي حيث حرم أخت المرتضع على صاحب اللبن يلزمه تحريمها على أخوته.

ص: 121

تنبيه: كل رضاع يبطل النكاح يبطله مطلقا بلا أشكال- و أن تأخر عنه- و المعتبرة به مستفيضة و مما يتفرع على ذلك أن المرتضعة لبعض نساء الآباء أي الأصول- و إن علوا- أو الأولاد- و إن نزلوا- أو الأخوة بلبنهم أو الأخوات تحرم على من أنتسب إليهم بالبنوة و الأبوة و الأخوة و كذا لو ارتضعت من زوجته الكبيرة بلبنه و لو كانت بحياله صغيرة و ارتضعت عند أحد المذكورين حرمت بلا شبهة و لو تزوج الصغيرة التي رضعت من زوجته الكبيرة و لو من لبن غيره حرمت الكبيرة مؤبدا، فإن دخل بها حرمت الصغيرة أيضا مؤبدا، و إن لم يدخل بالكبيرة حرمت الصغيرة جمعا بمعنى جواز العقد عليها ثانيا بعد أن انفسخ نكاحها، و وجه بطلان النكاحين عدم جواز الحكم بصحتهما و لا بصحة نكاح أحدهما لأنه ترجيح بلا مرجح و لو أرضعت إحدى زوجتيه الكبيرتين زوجته الصغيرة ثمّ أرضعتها الأخرى حرمن كلهن و قال الشيخ: (تحرم الصغيرة و إحدى الكبيرتين التي رضعتها أولا لانفساخ عقد الصغيرة بالرضاع الأول فالثانية لم ترضع زوجته لكي تحرم و إنما أرضعت أجنبية و لم يجتمع الرضاع و الزوجية في زمن واحد و كونها كانت زوجة لا عبرة به و لا بأس بالعمل بهذا القول لورود النص به و جريانه على القواعد).

و ملخصه أن البنتية و الزوجية في رضاع الثانية لم يجتمعا زمن الرضاع و يسقط مهر الصغيرة إذا كان الرضاع بسبب حصل منها و الأقوى عدم السقوط لثبوته بالعقد و عدم سقوطه بالرضاع من غير قصد و إن كان الرضاع مستندا إلى فعل الكبرى بأن تولت إرضاع

الصغيرة فيغرم الزوج المسمي أن كان للصغيرة مهرا و قيل يغرم نصفه كالطلاق قبل الدخول و يضعفه قصر ذلك على الطلاق فلا يلحق به غيره و لا يبعد عدم رجوع الغارم على المرضعة في الرضاع الواجب لو وجب عليها إرضاع الصغيرة و في رجوعه في غير الواجب أشكال لنفي الضرر.

الفائدة التاسعة و الثلاثون (مسائل خلافية في الرضاع):

تشتمل على مسائل اختلف فيها:

منها: أن ترضع المرأة بلبن فحلها التي هي في نكاحه حين إرضاع أختها لأبويها أو أخاها كذلك، فقيل، تحرم المرضعة على زوجها لأن زوجها يكون أبا لأخيها و أختها و زوجته قد كانت أختا لأحدهما فيحصل برضاعها أن تكون أخت ولد الفحل و أخت الولد محرمة لأنها تكون بمنزلة ولده، و قد سلف فيما تقدم في المسألة العشرين من عدم حرمة من في حاشية نسب المرتضع الذي هم الأخ و الأخت على الفحل في وجه و إن المشهور عليه إلا الحلي كما مر فراجع.

و منها: أن ترضع المرأة ولد أخيها أو أختها لبن فحل هي في نكاحه فصارت المرأة عمت الولد من النسب و أمه من الرضاع أو أمه و خالته كذلك و صار الفحل أبا رضاعيا لولد أخ المرأة في الغرض الأول فكما أن الأب النسبي لولد الأخ محرم عليها لأنه أخوها فكذا الرضاعي و لكونها عمة لولد الفحل من الرضاع لأن ابن أخيها عاد أخا لابن الفحل فهي عمته، و كذا ابن الأخت فهي خالته و لا يخفي فساد التوهمين لأن عمة الولد تحرم من جهة تحقق علاقة الاختية بالرضاع و كذا الأب النسبي لولد الأخ فإنه لا يحرم إلا لأجل عنوان الأخوة و قد عرفت أن عنوان الأخوة لا يتحقق بالرضاع كما غبر. نعم يصدق على هذه المرضعة أنها أم لولده و خالة له، و الجمع بين الأختين المحرم أن يجمع بين امرأتين

ص: 122

يصدق على أحدهما أنها أم ولده و على الأخرى أنها خالة ولده لا أن يكون له امرأة واحدة يصدق عليها أنها أم ولده و خالة ولده.

و منها: أن ترضع الزوجة ولد ولدها أو ترضع أحد زوجاته ولد ولد الأخرى من الفحل و هي بنكاحه فقيل هنا بتحريم المرضعة و تحريم ضرتها على الزوج حيث أنها صارت جدة ولده و جدة الولد محرمة على الأب لأنها لا تخلو من أن تكون أما أو أم الزوجة و هما محرمتان.

و الحق أن أصول المرتضع لا تحرم على الفحل كما مر و لو قيل بصيرورة المرضعة بنت الزوج لو رضعت ابن بنته لأن أم ولد البنت من النسب حرام لأنها بنت فكذا من الرضاع ففيه ما قد مر في ثانية المسائل.

و منها: أن ترضع الزوجة عمها أو عمتها و خالها أو خالتها فتكون بالإرضاع أما لأحدهما و أم عم الزوجة أو أم خالها حرام على الزوج لأنها جدة الزوجة لأمها أو لأبيها أو لأن الزوج بالإرضاع يكون أبا لهم و الزوجة تحرم على أبيهم نسبا فتحرم رضاعا.

و منها: ما لو رضعت عمها أو عمتها أو خالها أو خالتها أو هم بتقرير أن الزوج يكون أبا لهم في الرضاع و أبو الخالة و العمة جدا لولدها من النسب، و كذا من الرضاع، و جوابه أن الحرمة متفرعة على ثبوت الجدية و هي لا تحصل بالرضاع.

و منها: أن ترضع ولد عمها أو ولد خالها فيكون الزوج أبا لأحدهما و أبو ولد العم عم و هو حرام و كذا أبو ولد الخال و رده واضح.

و منها: أن ترضع أخو الزوج أو أخته فتحرم من جهة أمومتها، و رده مر من أن الأمومة لا تثبت بالرضاع للزوج و أم أخيه ليس لها عنوان.

و منها: أن ترضع ابن ابن الزوج فتكون أم ولد ولده و أم ابن الابن محرمة لأنها إما زوجت ابن أو بنت، و فيه أن الزوجية المزبورة المعلق عليها التحريم لم تثبت بالرضاع و نظائر هذه الأمثلة كثيرة يعرف ردها المتدبر في أن الرضاع فرع النسب و لا يزيد الفرع على أصله فالعلاقة الحاصلة بالنسب إذا حصل مثلها في الرضاع حرم و في أغلب هذه الصور لم يحصل بالرضاع سوى أن المرضعة أم لعمومة الزوج أو خئولته، و أم العم النسبية أو الخالة لا توجب التحريم من جهة العمومة أو الخؤولة بل من حيث العلاقة الجدية فلا جرم أن يكون في الرضاع كذلك، و كون العلاقة الجدية مستلزمة لذلك في النسب لا يوجب أن الرضاع مثله و أنه يثبت به جميع الاستلزامات، و بعبارة أخرى يثبت بالرضاع أنى أبو المرتضع و لا يثبت أنى عم ابن أخيه النسبي، و لا خال ابن أخته كذلك.

و هكذا القول فيما لو انضمت القرابة إلى المصاهرة فإن القرابة قد تكون رضاعية و المصاهرة حقيقية و قد يكونا معا رضاعية و قد تكون المصاهرة رضاعية حينئذ الأم الرضاعية للزوجة الحقيقية محرمة على الزوج و الزوجة الحقيقية تحرم الابن الرضاعي بخلاف أم الزوجة الرضاعية هي مرضعة ولد الزوج فإن أمها لا تحرم على الزوج إذ الزوجية لم تثبت مشابهها في الرضاع فلم يثبت زوجة رضاعية و عليك بتمييز الصور و ترتيب أحكامها.

ص: 123

الفوائد الإرثية

اشارة

لجناب الشيخ عباس بن الشيخ حسن النجفي كاشف الغطاء (قدس الله سره).

(الفوائد الإرثية) بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

و به نستعين

الفائدة الأربعون (في ضبط طريقة أهل السنة في الإرث):

في بيان طريقة أهل السنة و الجماعة في الإرث و اختلافهم مع الإمامية، فنقول الورثة عندهم على ضربين:

القسم الأول الرجال: و يورثون منهم جماعة و يحرمون آخرين ممن تورثهم الإمامية، فالذي يرث منهم عندهم عشره لا غير الأب و أبوه- و إن علا- و الابن و ابنه- و إن نزل- و الأخ مطلقا و ابن الأخ للأبوين أو للأب مع فقده و العم و ابنه للأبوين أو للأب و الزوج و المعتق و بيت المال فلا يرث ابن البنت- و لو أنفرد- ما دام لبيت المال وجود و لا أب الأم و لا ابن الأخت و ابن الأخ من الأم و الخال و ابن الخالة و العم من الأم.

القسم الثاني النساء: و الوارث عندهم منهن سبعة الأم و البنت و بنت الابن- و أن سفلت- و الجدة، و الأخت، و الزوجة، و المعتقة و لا يرث غيرهن ممن تورثه الإمامية من النساء فلا ترث بنت البنت و لا بنت الأخ و لا بنت أخت و بنت عم و عمه و خالة على النحو السابق ثمّ يقسمون الجميع إلى أصحاب فروض و عصبات فمن كان له سهم في كتاب الله فهو من أصحاب الفروض و من لم يكن له سهم فهو من العصبات و من كان له سهم في حاله و لم يكن له سهم في أخرى فهو ذو الحالتين، و الرجال كلهم من العصبات عندهم إلا الأب و الجد؛ فإن لهما حالتان و إلا الأخ من الأم و الزوج فإنهما من أهل الفروض دائما.

و أما النساء فثلاثة منهن عندهم ذوات فرض دائما الأم، و الزوجة، و الأخت من الأم و واحدة عصبة دائما و هي المعتقة و البواقي ذات فرض مرة و عصبات أخرى فالبنت عصبة- إن كان لها أخ- و ذات فرض أن لم يكن و كذا بنت الابن و الجدة عصبة مع الجد أو الأخ و ذات فرض منفردة و الأخت من الأب عصبة مع البنت أو الأخ و ذات فرض بدونهما.

و قالوا إن هؤلاء النساء لسن بعصبه بل يعصبن بغيرهن فالابن يعصب البنت و ابن البنت بنت الابن و الجد أو الأخ الجدة و البنت و الأخ يعصب الأخت فالعصبات عندهم أقسام ثلاثة: العصبات بأنفسهم؛ و هو الذكور من العصبات مطلقا و العصبة، بواسطة عصبة، و مطلقون عليه العصبة بغيره.

و هم أربعة من النساء: البنت، و بنت الابن، و الأخت من الأبوين، و الأخت من الأب، و العصبة بواسطة غير عصبة: و يسمونه العصبة مع غيره و هي اثنتان منهن الأخت من الأبوين و الأخت من الأب و أما طريق توريثهم فذو الفرض يأخذ فرضه الأقرب مقدم على الأبعد و هو مقدم على جميع العصبات فإن ساوى فرضه التركة أو نقصت التركة عن فرضه أخذ الجميع و أن زادت على فرضه دفعوا الزائد للعصبة الأقرب مقدم على الأبعد ذكرا كان العاصب أم أنثى و لا يعطونه ذا فرض أخر و أن لم يكن عصبة نقلوا الزائد إلى

ص: 124

بيت المال فإن لم يكن بيت مال يردونه إلى ذوى الفروض على نسبة فروضهم ما عدا الزوجين، و إذا لم يكن ذا فرض يدفعون التركة إلى العصبات الأقرب فالأقرب فيبدءون بالابن إذا انفرد و يحرمون من هو أبعد منه أو هو و البنت ثمّ ابن الابن أو هو و أخته ثمّ أبوه، أو هو و الجد و الأخوة مع الأخوات أو بدونها ثمّ الأخ من الأبوين ثمّ الأخ من الأب كلاهما مع الأخت العصبة أو بدونها. ثمّ ابن الأخ من الأبوين ثمّ ابن الأخ من الأب ثمّ العم من الأبوين، ثمّ العم من الأب، ثمّ ابن العم من الأبوين، ثمّ العم من الأب، ثمّ ابن العم من الأبوين، ثمّ من الأب- و إن سفل- ثمّ عم الأب من الأبوين، ثمّ من الأب، و هكذا ثمّ المعتق أو المعتقة، ثمّ بيت المال؛ فإن لم يكن فأولو الأرحام الذين هم ليسوا بأهل فرض و لا عصوبة.

هذا طريق التوريث المعروف فيما بينهم و أن اختلفوا في بعض جزئياته، و خلاصته أن ما كان عصبة بنفسه يرث المال إذ انفرد و يرث الزائد لو أجتمع مع ذي فرض، و هذا القسم الأول و هو كل ذكر تدلى إلى الميت بلا واسطة أو بواسطة الذكور فلو خلف بنتا و معها ابن ابن أو خالا، أو عما أو ابن عم كان للبنت النصف و الباقي للأدنى من الباقين و هذا هو العصبة بنفسه و أما العصبة بغيره مطلقا كالبنات و بنات الابن و الأخوات مطلقا فإنهن لا يرثن بالتعصب إلا باجتماعهن مع الذكور في درجاتهن أو غير درجاتهن فلو خلف بنتين و بنت ابن لم ترث بنت الابن شيئا إلا إذا كان معها أخا أو ابن ابن أو ابن أخ مثلا و هكذا.

و ظهر بما ذكر انهم يخالفون الإمامية في مسائل عديدة:

منها: إعطاء الميراث للعصبة و أصحاب الفروض و حرمان غيرهم من الأقربين ذكورا و إناثا من التركة مطلقا و يسمى بالتعصيب، و الأمامية لا يحرموا أحدا من الأقرباء بل يورثون الجميع- و أن حجب بعضهم بعضا- بلحاظ الأقربية.

و منها: دفع الزائد إلى أهل الفروض على نسبة سهامهم، و منها العول إذا انقضت الفريضة فأنهم لا يخصوا النقص بوارث دون أخر و الأمامية تدخل النقص على وراث مخصوصين لا مطلقا و كلها باطلة بالإجماع و الضرورة من الدين و لقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون إلى آخره فانه ورث الأقرب مطلقا و أن لم يكن عصبة. نعم ربما يقال بإجمال معنى الأقرب لأنه أن أريد به ما كان أقل واسطة يلزم أن لا يورث أولاد الابن مع الأب لأنه أقل واسطة و كذا أولاد الأخوة مع الجد و ابن ابن الأخ مع العم، و إن كان المراد بالأقرب الأقرب العرفي يلزم أن لا يورث المتقرب بالأب فقط مع التقرب بالأبوين، و لا تورث الطبقة الثالثة من أولاد الأخ مع العم، و لا الثالثة أيضا من أولاد العم معه، و لا يمكن أن يراد به الأقرب شرعا لفقد الحقيقية الشرعية، و الظاهر أن المراد بالأقرب أحد الأمرين الأولين و حينئذ يقال: بأن العام خص بعدم حجب بعض الأبعدين للأقرب، أو أنه لما ثبت بدليله أن الأولاد يقومون مقام آباؤهم و الأب كمن ذكرنا أما أقرب، و إما مساو و ولده بمنزلته فيحصل القرب بهذه الواسطة، أو يقال أن أولاد كل صنف يرثون آباؤهم لا الميت و أن أنتقل منه إليهم؛ و احتج المخالفون بحجج استحسانية لا ترجع إلى محصل كمقالتهم بأنه لو شرع توريث ذوي الفروض أكثر من فروضهم و جاز إعطاء الجميع عند الانحصار و عدم القصر على الفرض لكانوا كغيرهم و لبطلت فائدة القصر مع أن الله فرض و قصر فدل على عدم جواز التعدي عنه إلى غير ذلك مما يرد بأدنى تأمل، فإن الفائدة لا تنحصر بعدم جواز الزيادة بل

ص: 125

تظهر في عدم جواز النقص مهما أمكن، و أما مسألة العول فمع أن جماعة منهم قال به هم محججون بما ذكره الأصحاب مما لا مزيد عليه.

الفائدة الواحدة و الأربعون (في العول):

يلزم من يقول بالعول أن يكون المخرج ستة إلى عشرة شفعا وترا كأختين و زوج يعطى الزوج نصف ثلاثة و الأختان ثلثان أربعة فيحصل سبعة، و تقسم الستة سبع حصص هذا إذا لم يكن ربع أو ثمن في الفريضة فإن كان فيها ربع لزم أن يكون المخرج اثنا عشر و الزائد عليه وترا إلى سبعة عشر كأبوين و زوج و بنتين يعطى الأبوان أربعة سدساهما و البنتان ثمانية ثلثاهما و الزوج ثلاثة ربع لا اثني عشر فيحصل خمسه عشر تقسم الاثنى عشر إليها فيعال بتلك الثلاثة على الاثنى عشر و أن كان ثمنا في الفريضة فالمخرج أربعة و عشرين إلى سبعة و عشرين كابنتين و أبوين و زوجة فإن للزوجة ثلاثة من أربعة و عشرين ثمنها تزيد على الفريضة فحصل بها العول فترتفع الأربعة و العشرين إلى سبعة و عشرين حصة و المخرج هي و هو ظاهر و أما عندنا فقد ضبط بعض أصحابنا بأن النقص لا يدخل إلا على ذي الفريضتين ممن يرث مما عدا الزوج و الزوجة و لا يحصل إلا بمزاحمتهما و الظاهر أن كلالة الأم يدخل عليها النقص بالمزاحمة المزبورة مع أنها ذات فريضة واحدة و هي الثلث إلا أن تجعل بحسب الاعتبار ذات فريضتين.

الفائدة الثانية و الأربعون (في التعصيب):

يلزم من يقول بالتعصيب أن الابن الصلبي في بعض الفروض أضعف سببا من ابن العم كميت خلف ابنا و ثمان بنات فإن للابن جزءين من عشرة فلو خلف ابن عم ثمان بنات أخذ ابن العم ثلث العشرة و هو ثلاثة، و ثلث عشرة أجزاء الواحد و هكذا، و إن الأخت عصبة مع الأخ دون الأب مع أن الأب أولى بالتعصيب، و كذا التزامهم اشتراط توريث وارث بوجود وارث أخر كمن خلف بنتين و بنت ابن عم و عم فأنهم يعطون العم، الثلث فإن كان مع البنت ذكرا في درجتها ورثت مع من في درجتها أو دونها الثلث و أحرم العم، و يلزم من يقول بالعول تفضيل النساء على الرجال في بعض الفروض كما لو خلفت المرأة زوجا و أبوين و ابنا فللزوج الربع و للأبوين السدسان و الباقي للولد، أو خلفت زوجا و أختين لأم و أخا لأب فإن للزوج النصف و لكلالة الام الثلث و الباقي للأخ من الأب فإن اثنان و نصف من ستة للولد في الأول و واحد للأخ في الثاني، فلو جعل عوض الابن بنتا و عوض الأخ أختا في المثالين كان للبنت ثلاثة و جزء واحد من ستة و اثنان للأخت في الثاني فيزيدا على الابن و الأخ فأفهم و لاحظ الفروض.

الفائدة الثالثة و الأربعون (في توارث الزوج و الزوجة):

الزوج و الزوجة يتوارثان من غير إشكال قبل الدخول و بعده و الخلاف وقع في مسائل.

المسألة الأولى: في استقرار المهر بمجرد العقد قبل الدخول و عدم تنصيفه بالموت فيهما معا.

المسألة الثانية: في حرمان الزوجة من بعض ما تركه الزوج و عدمه.

المسألة الثالثة: في نكاح المريض في عقدها في المرض و موته قبل الدخول و البرء أو موتها قبلهما و موته بعدها بذلك المرض فهل ترثه و يرثها أم لا؟، أما الأولى: فالأشهر الاستقرار و المدعي للشهرة جماعة من المتقدمين و المتأخرين بل ربما يدعى أن عليه الفتوى في زماننا و خالف فيه مطلقا غير واحد من أفاضل أصحابنا فجعلوا الموت قبل

ص: 126

الدخول كالطلاق قبله من غير فرق بين الزوج و الزوجة و فصل آخرون فخصوا التنصيف بموت الزوجة و ركن الفريقان في ذلك إلى عدة أخبار تفي بالمقصود بل صريحة فيه و حملها الباقون على محامل أوقعها في النفس، إعراض معظم الأصحاب عنها على وجه لا يحصل الظن من النصوص المزبورة التي يبعد خفاء حالها على نقدتها بالحكم بعدم الاستقرار، و عدم الفرق بين الموت و الطلاق فلا جرم من طرحها أو تأويلها؛ إذ لا ريب في أنها تملك المهر بالعقد و التنصيف لم يثبت في غير الطلاق و كون الموت مثله فلا لأن الأخبار به متعارضة فلا أقل من تساقطها فيرجع إلى حكم أية [وَ آتُوا النِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ] مضافا إلى ترجيح أخبار الاستقرار و إن الموت كالدخول بالإجماع المحكى و الشهرة المحققة في الموتين فلا بعد بالحكم به، و أن مال إليه أو قواه عدة من أصحابنا و الرياض من متأخري المتأخرين قواه تبعا لهم. نعم الكليني (رحمه الله): لم يورد غير نصوص التنصيف و المقنع جزم به في خصوص الزوج و الشيخ في التهذيب جزم به و في النهاية مال إليه في الزوجة، فالمسألة محل إشكال، و علاج هذا الأشكال بالصلح أو الإبراء أو غير ذلك أوفق مع التمكن منه و مع عدمه حيث يورث الاضرار بالوارث الصغير يلزم الحكم بالاستقرار و أجراء الأرث عليه و لو أختلف المجتهدان يعمل بقول الأفضل و أن قلد أحد الطرفين المفضول و مع التساوي و الترافع ينفذ حكم من ترافعا عنده و أن اختلفا في التقليد و أن كان الحاكم مفضولا و رضيا بالترافع عنده و حكم نفذ حكمه و ليس للفاضل نقضه في وجه قوي.

و أما الثانية فلا شبهة في أن علاقة الزوجية توجب الأرث في كل ما ترك الزوج و أن الكتاب على ذلك فمنع الزوجة عن بعض المتروك يحتاج إلى قاطع يقضي به فيخص به عموم الكتاب و السنة القاضية بالإرث على الإطلاق، و قد أشتهر و صرحت السنة بأن الزوجة لا ترث من رقبة الأرض في الدور و المساكن و البساتين و الطواحين و غيرها شيئا بل ينحصر إرثها بجميع ما اشتملت عليه الأرض من الأخشاب و الشجر و الأجر و غيرها- ثابتا كان ذلك فيها أو غير ثابت- و أن كان طين الأحجار منها لكنه انفصل عنها و كذا مياهها الجارية فيها سواء خرجت منها أم أتتها من غيرها بشراء و نحوه و كأن عدم إرثها من رقبة الأرض فقط مما لا كلام فيه- و لم يخالف به إلا شاذ من أصحابنا- قيل أنه مسبوق بالإجماع و ملحوق به أما ملحوقيته به فالظاهر أنها محققه، و أما مسبوقيته فلم نتحققها لإطلاق عبائر السابقين بإرث الزوجة من جميع ما ترك الزوج من دون استثناء لكن على كل حال فالظاهر أن الحكم لا خلاف فيه و أنها لا ترث من رقبة الأرض مطلقا عينا و لا قيمة و ترث من الآلات مطلقا و الأصل فيه" صحيحة مؤمن الطاق" المروية في" الفقيه" عن أبي عبد الله" عليه السلام" قال: (

سمعته يقول لا يرثن النساء من العقار شيئا، و لهن قيمة البناء و الشجر و النخل

) و عنى بالنساء- الزوجة- و بالبناء الدور و ليس في السند إلا محمد بن موسى المتوكل ممن قيل أو يقال فيه شي ء، و هو و أن لم يحك عن الشيخ و النجاشي توثيقه إلا أنه كان من مشايخ الصدوق و وثقه الفاضل و ابن داود و لا يقصر حاله عن إبراهيم بن هاشم المقبول روايته و يكفي في الرواية أن عمل الأكثر عليها نعم ظاهر أكثر من أفتى بحرمانها من رقبة الأرض عدم التفرقة بين كونها ذات ولد أم لا. و فصل آخرون و اقتصروا في الحرمان على غير ذات الولد من الزوج، و أما هي فترث من جميع التركة بلا استثناء، و ظاهرهم كونها حين القسمة غير ذات ولد فلا عبرة أن ولدت و مات ولدها قبل فوت الزوج أو قبل القسمة بعده و أن كان الأخير مشكل على الاستثناء، و إلى

ص: 127

عدم حرمان ذات الولد ذهب جمع من أفاضل أصحابنا، و الظاهر أن مستندهم في ذلك الجمع بين" صحيحة بن يعفور" الناصة على أرث الزوجة مطلقا من المتروك مطلقا و بين الصحاح التي نصت على حرمانها مطلقا و بين مقطوعة ابن اذنيه المفصلة ورد هذا الجمع الموجب للتفصيل غير واحد بأنه لا شاهد له لأن المقطوعة لا تصلح للتخصيص و الصحيحة لم يعمل بها الأكثر و حملوها على التقية فالأوفق بمذاق الفقاهة هو الحرمان مطلقا، أو عدمه مطلقا، و حيث أن الثاني كما ترى يخالف قول المعظم من نقدة الأخبار فالمتعين هو الأول و عليه فهل لها قيمة الآلات الثابتة أو هي بالخيار بين أخذ القيمة أو العين أو لها أخذ العين حيث لا ضرر و معه ليس لها ذلك؟ و على فرض منعها من العين مطلقا، أو مع عدم الضرر فهل لها إبقاء حقها و أخذ منافعه بأجرة مثله أم ليس لها ذلك أوجه و احتمالات و أقوال أقواهما حرمانها مع الولد و غيره من الأرض عينا و قيمة. إما عينا فلما مر و إما قيمة فلأن التوريث من القيمة ليس أمر وراء التوريث من العين، و إنما هو مرتب عليه فيكفي في عدمه الإجماع على عدم الأرث من العين فلم يثبت هنا أمران وقع الإجماع على أحدهما فيبقى الأخر بحاله بل يذهب أحدهما بذهاب الأخر، فإن حكم التوريث حكم وضعي مرتب على الموت بجعل الشارع، و حكم تبعية القيمة للعين حكم مرتب على مالكية العين سواء كانت بالتوريث أم غيره. ثابت قبل الموت المورث كما أنه يقوى أيضا إعطاؤها حقها من قيمة الآلات و الأبنية وفاقا للمشهور و دفعا للضرر و لو لا ذلك لكان القول بأخذها العين متجها و ليس لها أيضا إبقاء حقها و أخذ منافعه- لو اختارته- كل ذلك لوجوب العمل بما لم تعرض الأصحاب عن العمل به من الأخبار.

و اعلم أنه لا فرق في الدور بين ما يسكنه الزوج منها و غيره، ثمّ المرجع بين الآلات المثبتة و غيرها إلى العرف فما حكمت بأنه من الآلات حكم به و إلا تأخذ حقها من عينه فمثل أواني الصباغ المعدة لحانوته و المسبك، و الحمام من القدور، و الحبال، و بعض الأخشاب التي لا تنفك عنها، و ليس للعين قوام بلا وجودها و أن كانت مفصولة يحتمل إجراء حكم الآلات عليها، و يحتمل العدم اقتصارا فيما خالف الأصل على الثابت من التوابع و الآلات لا مطلقا و مثله حجر الطاحونة و الشاذروان الذي في الحياض، و ما انفصل من الآلات بعد الموت بانهدام و غيره، و الاحتياط مطلوب في الجميع و لا يدخل في الشجر الزرع و لا ثمار الشجر و النخل لو كان يانعا عند الموت بل تأخذ حقها من عينه و أن حصل عليها الضرر قبل بلوغه و ليس لها إبقاؤه بلا أجرة إلى حين البلوغ و أما المياه التي في المصانع و القنوات و الثلوج المدخرة لبعض المنافع في الأراضي قبل موت المورث فلا يدخل بالآلات المثبتة قطعا فتأخذ إرثها و أما ما يخرج بعد موت المورث فلا حق لها فيه لأنه من توابع الأرض الذي لا يملكه الميت قبل خروجه منها، و هل إعطاء الورثة للقيمة على سبيل الرخصة أم لا؟ بل يلزمهم إعطاؤها و يلزمها القبول وجهان و تظهر الفائدة فيما لو سمح لها الوارث بالغير فامتنعت و أرادت القيمة، فذهب جماعة إلى وجوب إعطاء القيمة عليهم و استقرب آخرون العدم فلو امتنعوا من دفع القيمة لهم ذلك، و الظاهر من الأخبار أن حقها هو القيمة فلو لم ترض بالبدل لها ذلك لأن المستفاد من اللام الظاهرة في الاختصاص و التمليك في بعضها مثل لهن و للمرأة و لأنه المفهوم من الحصر بالاستثناء و الاستدراك ب (لكن) في قوله [ع] [

إلا أن يقوم

] و القيمة (

إلا قيمة فلان

) و (

لكن يقوم

) و لأن حمل المجمل على المبين لو منع من الظهور قاعدة ذكرها الأصوليون و ركن المخالف إلى أن الباعث و العلة في الحكم هو عدم تضرر الورثة فلو حصل منهم الرضا أو

ص: 128

كان في القيمة ضررا عليهم فلا يستفاد حكمه من النصوص و بان ورود أخبار الحرمان في مقام تعين العين فلا تفيد سوى إباحة القيمة فهي كالأمر الوارد مع توهم الحظر و بأن ذلك يوجب العمل بعمومات الأرث بالنسبة إلى الأبنية و الآلات من دون تخصيص أو تقييد لها فيكون الرخصة في التقويم حكما أخرا ثابتا غير مناف للأول كالأذن للمالك للنصاب في الغلات بجواز شرائه قدر الزكاة منها و إعطاء القيمة فإنه لا ينافي تعلق حق الفقراء بالعين، و لا يوجب تخصيص ما قضى به فكأن الشارع ورثها من العين و لكنه جوز الابتياع القهري و إعطاء القيمة لها لحكمة.

و نوقش في الجميع بخلو أكثر الأخبار عن التعليل بالضرر و أن تخلف العلة في النادر لا يورث خللا في التعليل القاضي بالوجوب لابتناء الحكم على الغالب مثل تعليل مشروعية العدة من جهة عدم اختلاط الأنساب المفقود ذلك في بعض النساء قطعا. و بأن ورود الأخبار مع عدم القرينة يلزم أن تكون في مقام بيان الحكم. بل الظاهر ورودها في مقام توهم المنع عن القيمة أيضا و بأن التخصيص للعمومات أكثر من عدمه مع أنه لا مفر منه في مثل قوله [ع]: [

لا يرثن من العقار

] الشامل عرفا للأبنية على أن الرخصة لو سلمنا أنها لا توجب التخصيص و لكنها توجب ابتياع القهري- و هو خلاف الأصل- و لو لم نقل به فأي معنى لعدم ارتكاب التخصيص في العمومات إذ لا مخصص و لا مخصص، فيكون حكم الزوجة حكم باقي الورثة لا حكم الديان لو تعلق حقه بالعين و الوارث أراد دفع القيمة لكنك قد عرفت بأن الزوجة لا خيار لها و أن حقها أنتقل إلى القيمة فلا يمكن جبرها على أخذ العين التي لا تعلق لها به من قبيل تعلق حق الشريك في العبد الذي أعتق أحد الشريكين حصته فيه و كان موسرا فإنه ليس له إلا القيمة.

و أما طريق التقويم هو أن تقوم الأرض فارغة ثمّ يفرض اشتغالها بما يريد تقويمه من الشجر و البناء إلى أن يفني و يدفع للمرأة حقها من قيمة ما عدا الأرض من ذلك أو تقوم الأرض على تقدير فراغها مما فيها من الشجر و غيره ثمّ تقوم هي مع ما فيها بقيمة واحدة و يطرح القيمة الآلي من المجموع و تعطى الزوجة نصيبها من الباقي و الأول أوفق لإمكان أن تزيد قيمة الأرض باعتبار شغلها فتأخذ أكثر من حقها. فظهر مما ذكرنا من كون الزوجة لا حق لها في العين أنه بمجرد الموت يتعلق حقها بذمة الورثة بالقيمة لتعلقها بذممهم و لا تعلق لها بالتركة أصلا و بالمرة لوجوب الإعطاء لها الذي لا بد من تعلقه بمكلف و ليس سوى الوارث و الأصل عدم وجوبه من مال معين أو من متروكات الميت و القول قول الورثة في مقدار القيمة لا قولها على الظاهر و لو لم يملك المورث سوى آلات أرض موقوفة أو مغروسة في ملك الغير فلها القيمة أيضا و كذا لو لم يملك الوارث سوى الآلات و الأرض المشغولة بها و تعذر البيع تأخذ حقها منها و ليس ذلك من باب الأرث بل من باب الاستيفاء.

و اعلم أنا لو حكمنا بالتفصيل بين أم الولد و غيرها في الحرمان و عدمه و قصرنا الأول على الثانية و الثاني على الأولى و اجتمعتا فقيل؛ أن ذات الولد تعطي الثمن من الأبنية و الأشجار و الأرض بأسره و تمامه و أن ضرتها ترجع عليها بنصف ثمن قيمة الآلات لا على الورثة كذا قيل و الظاهر أن رجوع غير ذات الولد على ذات الولد دون الورثة عادم للدليل فالأحرى أن تأخذ ذات الولد الثمن من جميع المتروكات، و تأخذ الثانية حقها و هو القيمة من الورثة جميعا، و منهم ذات الولد إذ الثابت بالآية و الرواية للزوجة الثمن فيقتضى أن يتعدد بتعدد الزوجات لكن حيث قام القاطع على اشتراك الزوجات في الربع أو الثمن

ص: 129

علمنا به غير أن شموله لمثل ما نحن فيه ممنوع فيبقى على أصل المقتضي فلا يكون به شركه و حينئذ لذات الولد ثمن غير الأبنية و الأشجار، و للأخرى قيمتها و ترجع فيها على الورثة مطلقا لعدم الدليل على الاختصاص، و لتبادر تعلق القيمة على من يجوزه المقوم و يختص به، و الفرض أن الذي حازه جميع الورثة فترجع عليهم لا خصوص ذات الولد فليفهم.

الثالثة قد استثني أكثر الأصحاب من عموم التوارث بين الزوجين صورة ما لو عقد المريض على امرأة و لم يدخل بها، ثمّ مات في مرضه بأنها لا ترث و ظاهر جماعة التردد في الحكم لا الجزم بعدمه و الأصل فيه الأخبار المصرحة بتوقف الأرث على الدخول و التصرف المدعى بالدخول بأن المراد منه أن تدخل عليه و تضاجعه و تخدمه خروج عن ظاهر معناه على أن الأصحاب لم يحتملوا هذا في النصوص- و هم أدرى بها من المحتمل- و حيث أن هذه الأخبار ناصة على الحكم و معمول بها يلزم تقديمها على عمومات أرث الزوجة و لا وجه للتعارض و أن قال به في الكفاية. نعم ربما يدعى أن بين هذه الأخبار و بين بعض ما أوجب أرث الزوجة على الإطلاق عموم من وجه فيحصل التعارض في الموجبة الجزئية لكن المرجح موجود على فرضه و لا يضر وقوع بطلان العقد في بعضها لأن المراد ببطلان العقد فيها طرو المزيل عليه فيكون في حكم المتزلزل المشروط لزومه بالدخول أو البرء أو في حكم اللازم الطارئ عليه الفسخ لا البطلان و عدم صحة العقد حقيقة و إلا لما جاز وطؤها له، و هو خلاف المصرح فيه بالنصوص. و أما لو ماتت هي في مرضه فهل له المطالبة بإرثها حين المرض أو ينتظر برأه أو موته؟ و على فرض الموت هل يرثها أم لا؟ وجهان و لا يخلو أرثه لها من قوة على التقديرين لأصالة اللزوم في عقد النكاح الصحيح فتترتب عليه أحكامه و لا ينفسخ إلا بالموت المنصوص عليه و لو سلم التزلزل فإنما هو باعتبار موت الزوج في مرضه قبل الزوجة لا مطلقا و هو منفي فيما نحن فيه بل تحققه مستحيل لعدم موت الزوج الكاشف عن بطلانه قبل الزوجة فيلزم، و تترتب عليه فائدته.

و جزم شيخنا في الجواهر: بعدم الأرث؛ لأن المعلوم من قاعدة العقود كفاية البطلان من أحد الطرفين في فسادها و هو كذلك أن استفيدت تلك القاعدة من الأخبار بحيث يلزم العمل عليها. نعم لا إشكال في أنه يرثها إذا تزوجها مريضة فماتت بذلك المرض قبل الدخول لعدم المانع و بطلان القياس كما أن الظاهر في لفظة (في) الأخبار هو السببية فلو صادفه قتل أو غيره غير المرض الذي هو فيه فمات به ورثته قضاء للعلية، و يحتمل إرادة الزمانية من (في) فلا ترثه و المتجه الأول، و في الثاني قوة لأن الجار حقيقة في الظرفية و لو مات في مرض أخر بعد برئه من الأول قبل الدخول فالوجه صحة النكاح و الإرث، و المطلق من الأخبار يقدر فيه القيد أخذا بالمتيقن إلا أن يدعى قيام القرينة بورود المقيد لبيان ذكر الفرد لا دوران الحكم يدور مداره، و في اشتراط كون المرض مهلكا أو لا أو حصل مرض بالآخر أو زاد أو اشتركا في الهلاك أو تمحض الموت بالآخر أو بالزيادة وجهان و عدم الأرث لا يخلو من قوة.

الفائدة الرابعة و الأربعون (في إرث الدية):

الدية في حكم مال الميت يقضى بها ديونه مطلقا للخالق و المخلوق، و ينفذ منها وصاياه مطلقا سواء كانت في قتل العمد أو الخطأ نعم ليس للوارث منع مساويه من القصاص و جبره على أخذ الدية و كذا الديان، و يرثها في العمد و الخطأ كل من يرث غيرها من أمواله

ص: 130

بلا شبهة في ذلك، و الأخبار مصرحة به، و استثني من ذلك الأخوة و الأخوة للأم في أخبار صحيحة معمول بها و ألحق غير واحد بهما سائر من يتقرب بالأم و الوجه الاقتصار على موضع النص، و في منع الزوجين، منها رواية ضعيفة بالسكوني- لم يعمل بها الأكثر- و لو قتل أحد مورثه و قتله وارثهما ورث الاثنين، لكون القتل بحق، و يحرم الصبي و المجنون من الإرث لو قتلا و ألحقهما بعض بالقاتل خطأ، و النائم كالعامد صرح به" القواعد"، و الضارب ضربا يحصل به الموت إن أثبته مشروعا ورث و إلا لا يرث.

الفائدة الخامسة و الأربعين (في مفهوم الحجب):

مفهوم الحجب لا يختص بمواضع معينة لثبوته في حق كل وارث لولاه لورث الأخر لكنهم خصوه في الإرث بمواضع:

منها: حجب الولد- و إن نزل- فإنه يحجب الأبوين عما زاد عن السدسين أو أحدهما عما زاد عن السدس إلا في البنت الواحدة العارية عن الأخوة الحاجبة للأم مطلقا أو أكثر من الواحدة مع أحدهما. ففيه خلاف للاسكافي لرواية، و المشهور أن الزائد من الفريضة يرد على الجميع لا خصوص البنت أو البنتين.

و منها: حجبه للزوج و الزوجة من النصف إلى الربع و منه إلى الثمن في الزوجة.

و منها: حجب الأخوة فأنهم يحجبون الأم عما زاد عن السدس بالفرض و الرد في القول إذا كان للميت أخوة فلو مات ولد له أخوة أخذت أمه السدس، و ورث أبوه الباقي على المشهور لكن بشرط أن لا تكون الأخوة أقل من ذكرين أو ذكر و انثيين، و أن لا يكونوا أرقاء و لا كفرة و لا قتلة على قول مشهور في الأخير، و لولاه لكان الأحرى الحجب لإطلاق الأخوة في الآية و الرواية عليها، و كونها لا عموم فيها لأنه جمع منكر في سياق الإثبات فهو مطلق، و شموله للقتلة غير معلوم لا يجدي لقول الصادق" عليه السلام" في رواية ابن بكير: (

إلا مع الولد و الأخوة

) فعبر بالجمع المعرف المفيد للعموم على أن الإطلاق كاف و تعلق الحكم بالماهية المطلقة و إن كان لا يفيد لحوقه للمطلق في جميع أوقات وجوده لكن لمكان (إذا) في الصحيحة و الموثقة الظاهرة في العموم يثبت المطلوب، و دعوى دخول القتلة في الأرقاء و الكفرة حكما لا دليل عليه و أن توافقا في بعض الأحكام كخيال عدم صدق الأخوة شرعا على القتلة، و يشترط أيضا حياة الأب، و نقل الاتفاق عليه و لم ينقل الخلاف إلا عن بعض الأصحاب و ظاهر الصدوق، و يقضي به ظاهرا الآية و صريح الرواية، و إنكار ظهور الآية التي هي الأصل في هذا الحكم؛ بأن غاية ما يستفاد منها هو الحكم في صورة وجوده و أما كونه شرطا فليس غير مسلم لأنها و أن لم تكن نصا في حياة الأب لكن الحكم في صورة وجوده فيبقى غيره على إطلاق ما دل على أن لها الثلث على أن لفظة إلفاء في الجملة الشرطية أما رابطة الجزاء بالشرط على أن يكون مجموع جملتي الشرط و الجزاء جزاء للشرط المحذوف الذي يدل عليه الأول، و هو قوله تعالى: [فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ] و أما عاطفة فعلى الأول يحتمل اشتراطها بانتفاء الولد فقط أو مع أن يرثه أبواه فلا يثبت إلا طلاق و على الثاني تكون معطوفة على الشرطية المذكورة فحينئذ يحتمل أن يكون التقدير فإن كان له أخوة و ورثه أبواه فتكون مخصوصة أيضا، و يحتمل عدم تقدير المعطوف فتكون مطلقه و هو أظهر من التقدير.

ص: 131

و على كل حال فلا ينكر ظهورها في الاشتراط بضميمة الأخبار الناصة عليه، قيل و لا فائدة مهمة في هذا النزاع لأن الأم مع وجود الأب لها السدس بالاتفاق و مع فقده تحوز جميع المال فرضا وردا.

أقول تظهر الفائدة فيما لو نقلت فرضها بأحد النواقل أو نذرته لأحد أو لجماعة فهل يستحق المنتقل إليه سدس المال أو ثلثه؟ و هي فائدة جسيمة و هل تحجب الاخوة الرد عما زاد عن السدس لو خلف الميت أبوان و بنت بنت و أخوة؟ فيختصر الرد بالأب الظاهر العدم، و عليه الاتفاق و سننبه عليه، و يشترط رابعا أن يكونوا لأب و أم فلا تحجب كلالة الأم بلا مخالف عدا المخالف.

و خامسا انفصالهم فلا يحجب الحمل و إن كان متمما للعدد مطلقا في المشهور و تردد فيه" المحقق" و جعل" الشهيد" عدم حجيته قولا، و لعله لأصالة عدم اشتراط الانفصال و عموم أدلة الحجب و الأول موقوف على ثبوت المقتضي و الشك فيه و العموم ممنوع فيقتصر في الحجب على القدر اليقيني، و منه يعلم اشتراط حياتهم عند موته و عدم قيام أولاد الأخوة مقام آبائهم، نعم يحجب الغائب إذ لم يقض بموته، فلو بان موته قيل يرجع بالزائد، و لو حكم الحاكم بموته في مقام التأجيل كان بحكم الميت في عدم الحجب و أن تبين الخلاف ففي الرجوع بالزائد أشكال، و في مقام الاشتباه في تقدم الموت و عدمه مطلقا حتى في الغرقى لا يحكم بالحجب لأن المتيقن فيه حيث أنه على خلاف الأصل هو العلم بحياتهم فيكفي الشك في عدم الحجب، و توقف في الدروس في الغرقى من جهة أن فرض موت كل منهما يستدعى كون الأخر حيا و الأظهر ما قلنا.

الفائدة السادسة و الأربعون (في الدين المستوعب التركة):

لو كان على الميت دين يستوعب التركة، قيل أن التركة لا تنتقل إلى الوارث بل تبقى على حكم مال الميت و عليه غير واحد من أفاضل أصحابنا، و قال آخرون بالانتقال إلى الوارث و أتفق الفريقان على عدم جواز القسمة قبل وفاء الدين و إن كان الدين بذمة الوارث و ظاهر الآية و صريح بعض الأخبار عدم الانتقال و أن كانت نصوصه المستدل بها تقضي بعدمه و لو لم يستوعب الدين- و هو خلاف المشهور- لكن ذلك لا يوهن الاستدلال بها، و لا يتوجه على ظاهر الآية حيث أن المقيد فيها بالتأخر هو تملك الورثة سهامهم من مجموع ما ترك، و لا ريب في توقفه على عدم الدين و أن لم يستوعب لكن يمكن دعوى ظهور الآيات في تأخر قسمة الأرث عن الوصية و الدين لدفع توهم مزاحمته لهما فتقسط التركة على الثلاث فمساق الآية مساق ما ورد من أنه يبدأ في الكفن، ثمّ الدين، ثمّ الوصية، ثمّ الأرث، و ليست في مقام حكم تملك الورثة حتى يفيد بأنه بعد الوصية و الدين، و كيف كان فقد جنح كل من الفريقين إلى أدلة يمكن الذب عنها كانعتاق بعض أقارب الوارث عليه، كما لو قيل بالانتقال اليه و لا تقوله الأكثر، و كالتفكيك بين النماء و الأصل في جواز تصرف الوارث به دونه، و جنح من قال بالانتقال إلى إطلاق آية الأرث و سببية الهلاك للانتقال في قوله تعالى: [إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ] و بان الميت لو مات عن ولدين و مات أحدهما بعده و له ولد لم يرث الولد و لم يشارك عمه لو أبرأ الديان بعد موته ذمة الميت أو تبرع بوفاء دينه الأجنبي أو الوارث من ماله، و بأن يمين الوارث لا يمكن إذا لمورثه دين عند أحد، و عند الوارث شاهد واحدا و لا يمين لإثبات مال الغير و بأنه لو لم ينتقل للزمه أحد محاذير باطله بالعقل و النقل أما خروج التركة عن الملك أو بقاء المتروك بلا مالك أو كون الميت مالكا له و انتقاله لغير الورثة إلى غير، ذلك مما استدل به المتخاصمان و رد كل دليل

ص: 132

الأخر بما لا فائدة في ذكره، و الأوفق في النظر الالتزام بالانتقال إلى الوارث مع التحجير عليه إلى وفاء الدين إن أمكن أو بيعه له و إعطاء الدين، إذ لا ريب في تحقق الوراثة الفعلية شرعا و عرفا لجميع التركة بعد إيفاء الدين من الخارج أو إبراء الديان أو تبرع الأجنبي، و ليس معنى الوراثة إلا انتقال المال من المورث إلى الوارث فلو خرج المال بموت المورث عن الملكية لم يتحقق إذ الوراثة هو الانتقال بلا واسطة، و لذا لو باع الوصى شيئا من الموصى به إلى الوارث لا يسمى وراثه، و مع ذلك فالمسألة مشكلة و تظهر الفائدة في النماء فإنه ليس للديان فيه حق لو قيل بالانتقال إلى الوارث، و في مستثنيات الدين لو ملك الوارث منها شيئا من تركة أبيه بعد موته فلا يتعلق بها حق للديان، و في أخذ الوارث التركة و أداء الدين من غيرها و غير ذلك فقط أن عمدة أدلة الانتقال هو محذور لزوم بقاء الملك بلا مالك و امتناعه و هذا الامتناع المذكور و لا ريب في كونه غير عقلي و كونه شرعيا لا يثبت إلا بدليل شرعي و ليس على الاستحالة المطلقة نص و لا إجماع، و حمل الآية على الملك المستقر بعد الوصية و الدين فلا ينافي الملك المتزلزل إنما يصح بعد ثبوت الناقل للمال المتروك على وجه التزلزل و هو غير ثابت، و ظهور اللازم في الملك المستقر لا يفيد لانتفاء ما يدل على المتزلزل، فلا مانع من بقاء المال على حكم مال الميت و لا محذور فيه. و منه يظهر عدم جواز التصرف فيما قابل الدين من التركة و وجوب عزله حتى يقضي و عليه جماعة و هو الأوفق بالاعتبار، و قيل بعدم جواز التصرف في جميع المال، و أن وفى بالدين بعضه. و قيل بالعكس و التزام الوارث بالدين لكن لو عزل من المال ما قابل الدين فتلف بآفة سماوية لا يمنع ذلك من ضمان الوارث له، و لا يكون سبيله سبيل الأمانة لوجوب التعجيل في أداء الدين و إيصاله إلى صاحبه أو وكيله و لو للحاكم الشرعي.

الفائدة السابعة و الأربعون (في كيفية الإرث):

اشارة

اتفق الأصحاب على الترتيب في الأرث فلا يرث مع الآباء و الأولاد و أن نزلوا أحدا من الأقارب نسبا بل المال لهم تعددوا أو اتحدوا فرضا وردا، كما أنه لا يرث مع الأجداد و الأخوة أحد- و أن نزل- الأخوة و علت الأجداد فهم مقدمون على الأعمام و الأخوال المقدمين على ولاء المعتق المقدم على ضامن الجريرة المقدم على الامام. و هذا مما لا ريب فيه و لا إشكال إنما الإشكال في بعض ما أختلف فيه و هو عدة أمور منها فيما يتعلق في الطبقة الأولى من الأرث و هم الآباء و الأبناء

و فيه مسائل.

المسألة الأولى: المال كله للأب مع انفراده بلا كلام،

و للأم مع انفرادها الثلث و الباقي يرد عليها عندنا خلافا لأهل السنة و الجماعة فأنهم يعصبون كما ذكرنا و لو أجتمع الأب و الأم اختصت هي بالثلث و الباقي للأب فرضا و قرابة، و لو حجبها الأخوة عن الثلث إلى نصفه كان السدس ردا على الأب و لا ترث الأخوة شيئا، و في رواية ابن عباس لهم السدس الذي حجبوها عنه، و هي متروكة، و لو أنفرد الابن فالمال له، و على البنت فعلى ما فرض الله، و مع التعدد هم سواء في المال، و البنت المفردة لها النصف فرضها و الباقي ردا، و كذا البنتان لهما الثلثان فرضا، و الباقي ردا، لكن الفضل بن شاذان و الحسن جعلا البنت و البنتين عند الانفراد كالابن في انتفاء الفرض و خصا النصف و الثلثين بحال الاجتماع و لو اجتمع الآباء و الأولاد فعلى ما فرض الله السدسان لهما و الباقي للأولاد و لا يرث أحد من الأقارب مع وجودهم على المشهور، و يظهر من الصدوق و شرذمة من

ص: 133

أصحابنا المخالفة حيث (شركوا الجدين و الجدتين مع الأبوين و البنت) و جعلوا لهم الفاضل من سهام الأبوين و البنت و شركوا الجد للأب معه و للأم معها استنادا إلى بعض المعتبرة التي بعد فرض صراحتها يكفي في عدم العمل بها أعراض الأصحاب عنها، و تحقق الاتفاق على العدم بل أستقر عليه المذهب في زماننا.

المسألة الثانية: المشهور أن أولاد الأولاد يرثون مع الأبوين نصيب آبائهم معهما و أن نزلوا

و خالف الصدوق و بعض من تبعه كالوافي في ذلك فحكم بعدم أرثهم إلا بفقد الجدين معا، و يكفي أحدهما في حجبهم مستدلا بصحيحة الحلبي عن الصادق" عليه السلام" قال: (

بنات الابنة يقمن مقام الابنة إذا لم يكن للميت بنات و لا وارث غيرهن و بنات الابن إلى آخره كذلك

و صحيحة الخراز: (

كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يحرمه إلا أن يكون وارث للميت أقرب منه

) دلت الأولى بعموم النكرة على اشتراط قيامهن مقام الابنة و الابن على انتفاء الوارث مطلقا خرج غير الأبوين و الأولاد بالإجماع، و فيه احتمال أن يكون و لا وارث غيرهن معطوفا على الابنة أي و لا وارث من الصلب غيرهن أو أن المعنى أنهن يقمن مقام الابنة لا مطلقا بل إذا لم يكن ابنة للميت غير أمها لأنها تقوم مقام أمها و أن وجدت ابنة للميت من غير أمها فهو وارد لبيان حكم أخر، و كذا ابن الابن فيها أو المراد بالوارث فيها الأعم من الطبقة الثالثة يعني أن بنت الابنة و أن كانت بنت بنت الابنة لا ترث الابنة مع وجود الأقرب أو أن المراد من (لا) لنفي الجنس لا لتأكيد النفي فيكون المعنى أنه مع فقد الابنة لا وارث للميت غيرهن فيفيد انحصار الوارث بهن و يخص بما إذا لم يكن أب و أم و زوج أو أن المعنى: أنها ترث كل المال إذا انتفى جميع من يشاركهما من الأب و الأم و الزوج، و لعل المقام يقتضي الإجمال كما نبه عليه (الحر العاملي)، و زاد في الاستدلال بقرب الأب إلى الميت من ابن الابن لأنه بمنزلة الابن، ورد بأن القرب ملحوظ حيث يكون الصنف متحدا لا مطلقا، و الأقرب من أحد الصنفين لا يمنع الأبعد، و لذا شارك الأخ الجد و أب الجد الأخ لكونها صنفان، و أن عموم تقديم الأقرب مخصص و له أيضا أن ابن الابن يساوي الجد، لأن نسبته كنسبته و الجد لا يرث مع الأبوين و أن الأبوان متساويان بالنسبة مع الولد حكما و أن الولد حجب ابنه فكذا الأب يحجب ابن ابنه. و فيهما أنه مناسب- و هو باطل عندنا- و ان التساوي في بعض الوجوه لا يلزم التساوي من كل وجه، و رده بعدم موافقة المعظم له أولى من التمحل في رده لظهور الخبرين بما يدعى. نعم رواية زرارة صريحة في المطلوب و مثلها الخبر المروي عن دعائم الإسلام، و ضعفها منجبر بعمل الأصحاب. و بأن أولاد الأولاد يقومون مقام آبائهم في عدة أخبار منها (

بنات الابنة ترثن إذا لم تكن بنات كن بنات البنات

) دلت بعموم الشرط على قيام ابن الابن و البنت مقام الابن و البنت عندهما فيشمل حال وجود الأبوين و التخصيص عار عن المخصص المتيقن، و ما قاله الصدوق (رحمه الله) من عدم توريثهما مع وجود الأبوين يستلزم عدم قيام ابن الابن مقام أبيه على أنه لو كان قيام ابن الابن أو ابن البنت مشروطا بفقد الأبوين لزم قيام غير الشرط مقام الشرط، فإن عدم الولد جزء للشرط فيكون الشرط مركبا من عدم الأبوين و الولد و جزء الشرط غيره، و القول بأن جزء الشرط يفيد فائدة الشرط من اقتضائه العدم عند العدم دون الوجود عنده فلا محذور، و لا يلزم قيام غير الشرط مقامه مدفوع بأن ذلك في حكم غير ما حكم الشارع بوجوده عند وجود شرطه، و أما ما حكم بوجوده فيلزم منه الوجود عند الوجود و ما نحن فيه كذلك، فإن الشارع حكم بالقيام عند فقد الأبوين و للإرث فيدور مداره وجودا و عدما أشبه شي ء بالعلة على أن إطلاق قيام الأولاد

ص: 134

مقام آبائهم يشمل أولاد الأولاد و لو مجازا راجحا، فقد حكم جماعة بتقدمه على الحقيقة من حيث تداوله فهب أن ولد الولد يصدق عليه نفي الولد لكن شيوع استعماله فيه يكفي و على أي حال لو لا الشهرة و شهرة العمل برواية زرارة لأمكن أن يكون لقول الصدوق وجه و الله العالم.

المسألة الثالثة: في قيام الأولاد مقام آبائهم:

المشهور قيام أولاد الأولاد مقام آبائهم فيرث ولد الولد و أن كان بنتا حظ الولد من أبيه سهمان، و ولد البنت و أن كان ذكرا نصيبها من أبيها سهما واحدا، و هكذا تعددوا أو انفردوا و خالف العماني و السيد و المصري و الحلي: فذهبوا إلى أنهم كآبائهم بالنسبة إلى الميت فلا اعتبار بتعدد الطبقات- و أن نزلت- فلو خلف الابن بنتا و البنت ذكرا كان للذكر مثل حظ الأنثيين قال في المفاتيح و لا يخلو من قوة و في الكفاية، و لا يبعد ترجيحه و قربه المقدس الأردبيلي. للمشهور عدة أخبار أصرحها رواية زرارة، و صحيحة ابن خالد، و في الأولى فإن لم يكن له ولد و كان ولد الولد ذكورا كان أو إناثا فأنهم بمنزلة الولد و ولد البنين بمنزلة البنين يرثون ميراث البنين و ولد البنات كذلك و في الثانية كان علي" عليه السلام" (

يجعل العمة بمنزلة الأب في الميراث و الخالة بمنزلة الأم فيه إلى آخره

)، و صحيحة الخراز و فيها (

كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجربه

) إذ كونهم بمنزلتهم أي في مقدار الأرث أو في جميع الأحكام لا في مطلق الأرث و لا في الحاجبية و المحجوبية لخلو التفصيل عن الفائدة و لعدم التنزيل في الثاني فيتمحض ما قلناه، و بالمعتبرة الناصة بأن أولاد الأولاد يقومون مقام آبائهم و أولاد البنات كذلك مقامهن الظاهرة في إرادة التنزيل في أصل الأرث و كيفيته و الحجب لا في أحدها و إلا لاكتفى الإمام بذكر الأولاد فقط من دون ذكر الفريقين فإنه تطويل بلا فائدة و ركن السيد و من لحقه إلى صدق اطلاق الأولاد عليهم في [يُوصِيكُمُ اللّٰهُ] و غيرها [وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ] فإن حرمة زوج الجد مما لا خلاف فيها بهذه الآية فتقضي بأن أب الأب و الأم أب حقيقة فيكون ابن الابن ولدا حقيقة للتضايف و كذا و حلائل أبنائكم و بناتكم في حرمة نكاح زوجة ولد الولد من جهة الأبنية و كذا آية [أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ] في حلية النظر لابن الولد إلى زينة جدته و زوجة جده و مثله قوله تعالى: [فَإِنْ كٰانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ] إلى آخره فإن الولد في كل هذه الصور شامل بإطلاقه لولد الولد و الأحكام المذكورة مرتبة عليه، و كذلك الأخبار المحرمة نكاح الأولاد على أولادهم و ركن إلى أصالة الحقيقة في الاستعمال أو إلى انقسام المال بين أولاد الأنثى بالتفاوت و الاستدلال بآية [يُوصِيكُمُ] إلى آخره و أجاب المعظم عن جميع ذلك بأن الاستعمال أعم و القرينة موجودة، ثمّ أن السيد الزم المشهور بأمور:

منها: زيادة نصيب البنت على ابناء الابن في بعض الفروض- و هو ممنوع- كما نطقت به بعض الأخبار و منها لزوم توريث البنت أو البنتين الجميع خلاف ما صرحت به الآية و منها أخذ الولد من أبناء البنت مثلي ما تأخذ الأنثى و لا دليل له سوى الآية.

ص: 135

و أجاب المشهور من هذه الإلزامات بإلزامه بها أيضا في أولاد الأخوة و الأخوات مع أنه يقول هناك بخلافه هنا و كلما يجيب به يكفينا في جوابه هذا، و على كل حال فالمتبع قول الأكثر، و خلاف السيد منقرض و أدلته منظور فيها و الله العالم.

المسألة الرابعة: أولاد البنت كأولاد الابن في التفاوت في نصيبهم على المشهور،

و نسب الخلاف في أولاد البنت إلى القاضي و الشيخ و غيرهما، و أنهم مثل كلالة الأم يقسمون بالسوية و أن هذه قاعدة شرعية في كل متقرب بالأنثى إلا ما خرج. قالوا: لا يكون نصيبهم نصيب آبائهم إلا إذا لم يصدق الولد على ولد الولد و حينئذ فلا تشمله الآية و لا تصلح دليلا على القسمة بما ذكروا فتخلو القسمة عن الدليل، و يحكم بالتساوي في أولاد الأنثى لعدم المرجح، و لأن أخذه نصيب أبيه فرع عدم صدق الولد عليه، و يكفي في رد هذا القول متروكيته كما في" الشرائع" و دلالة بعض المعتبرة عليه فلا ينحصر دليله بالآية، أو نقول بالصدق و نحكم بالتخصيص في الآية، و لعله الأوفق لوجود إطلاق الولد على ولد الولد بلا قرينة في كلام العرب، بل في كلام الأئمة" عليهم السلام" فما عليه المشهور هو الأجدر بالقبول.

المسألة الخامسة: في حجب النقصان للأولاد:

يثبت لأولاد الأولاد- و أن نزلوا- حجب النقصان للأبوين و الزوجين لثبوت أنهم يرثون نصيب من يتقربوا به و لولاه لما ورثوا ذلك، و تحجب العليا من الطبقات السفلى كحجب آبائهم لهم. و لا يرث معهم غير الأبوين و الزوجين مطلقا في المشهور المنصور.

المسألة السادسة: في الحبوة:

يختص أكبر الولد و الولد المنفرد أو مع البنات مطلقا بالحبوة على طريق الوجوب عند أفاضل أصحابنا، بل قيل هو المشهور، و على الندب عند جماعة من المتقدمين و المتأخرين و توقف آخرون فيه، و مستند الوجوب اللام في المعتبرة القاضية بالتمليك و الاختصاص ك (هي) في ملكية السهام للورثة بآيات الإرث و أخباره المشتملة على مجرد اللام من غير اعتضاد بشي ء أخر و لاكتفائهم في الأقارير و الوصايا و الجعائل بالقول لفلان كذا.

و احتج المنكر بالأصل و عمومه ما قضى بالإرث من آية أو خبر و باختلاف أجناس الحبوة بالنسبة إلى المعطى من التركة التي قام الإجماع مركبا و بسيطا على عدم إعطاء بعضها و الاختلاف قرينة الندب من حيث التسامح فيه فهو كالاختلاف في تقادير البئر في النزح الموجب للاستحباب. ورد باندفاع الأصل بالأخبار و بإنكار عموم أدلة الإرث بحيث يشمل المتنازع فيه، و بعد التسليم فالتخصيص قوة المخصص أمر لا ينكر و بأن غاية ما يلزم من الاختلاف تبعض الخبر في العمل و هو غير عزيز في النصوص فيأخذ بما قاله المشهور، و اتفقوا على إعطائه من التركة، و لأن من ادّعى الاستحباب أيضا يلزمه ذلك فإنه لا يندب عنده غير أشياء مخصوصة من التركة لا جميع ما تضمنته الأخبار فهي مطرحة بالنسبة إلى الزائد على القولين، ثمّ التسامح في مثل هذا الندب المعارض بحرمة التصرف بمال الغير ممنوع خصوصا إذا كان الوارث طفلا، فإن القائل بالاستحباب يرى أنها من المستحب المالي كزكاة مال الطفل، و مثله لا بد له من دليل صالح لتخصيص قاعدة الحرمة، و متى كانت هذه الصلاحية موجودة حينئذ لا فرق بين الوجوب و الندب فيها لعدم التسامح في أدلة الثاني.

و اختلف الذاهبون إلى الوجوب في استحقاق الذكر لها مجانا و يشارك الباقي في الباقي بقدر نصيبه أم لا؟ و المشهور على المجانية. و ذهب السيد في" الانتصار" و الشيخ في

ص: 136

" الخلاف" و الإسكافي إلى أنها تعطي و تحسب على الولد من ميراث أبيه، و مال إليه في" الكفاية" و ظاهر" المسالك" و نفى البأس عنه الأردبيلي، و توقف جماعة و استضعفه في" الجواهر" و استقواه في" المستند"، و استدل عليه بأن الاختصاص و التملك المفهوم من الأخبار يجامعان العوض عليه من مال الآخذ فمفادها نفس اختصاص أكبر الذكورية و هذا و أن كان خلاف الأصل إلا أن الموجب له بعض آيات الإرث فإن مما ترك و مما تركن و مما تركتم يقتضي من جهة عموم الموصول أن السدس و الربع و الثمن من كل ما تركه الميت، و عدم الاحتساب يوجب أن يكون من بعضه، و بعض النصوص مثل أن الأبوين لا ينقصان من السدس و الزوجين من الربع و الثمن، و بأن أربعة لا يدخلهم النقص الوالدان و الزوجان، و موثقة أبي بصير مصرحة بذلك و ناصة على قسمة الأولاد للذكر ضعف الأنثى بعد السدس. و الحال أن الولد بالحباء يزيد سهمه فهذه الآيات و الأخبار عامة و لا شي ء يصلح لتخصيصها سوى أخبار الحبوة و هو فرع دلالتها على عدم الاحتساب، و لا يلزمها عدمه فوجود المخصص غير معلوم. نعم إطلاق ما يفيد الملكية و الاختصاص حيث لا يكون معارضا يقضي بالملكية مجانا، و الفرض أن العمومات تفيد العدم كذا قيل. و فيه أنه لا مانع من تخصيص أدلة الحبوة للآيات و الأخبار الناصة (على أخذ السدس مثلا من متروكات الميت فإنها لا تزيد) بأن تدل على الأخذ من جميع المخالفات على طريق الإشاعة، فإذا علم من دليل اختصاص بعضها بأحد الورثة أو غيرهم يعلم عدم استحقاق صاحب السدس منها، فينحصر السدس في غيرها، و لا دليل على أخذ عوض سدسها من غيرها و ليس هو إلا كإعطاء المورث شيئا من التركة لواحد مخصوص أو كعدم السدس من الكفن الواجب دفعه من مجموع المال و عدم أخذ الوارث بدله.

و يمكن المناقشة فيه، بأن الآيات و الأخبار دلت على الاشتراك- و هو أعم من الإشاعة- و الحكم بالإشاعة من جهة عدم المرجح لا من جهة دلالة الآية و الخبر فغاية ما دلت عليه أخبار الحبوة هو أخذ تمام السدس مثلا من غيرها، سلمنا أن العمومات دلت على الإشاعة، تكون أخبار الحبوة كالمقسم لبعض التركة و هو الأقوى، لكن في النفس منه شي ء للشهرة المحصلة و لأن الاحتساب أمر خارج عن الاختصاص فالأصل عدمه، و لان الإطلاق يدل على اختصاصه بها من دون شرط فلو كان شرطا بالاحتساب من سهمه لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة، و لأن الوارث يختص بسهمه من دون عوض بأدلة الإرث، و هذه الأدلة و أن كان في بعضها ضعف لكن ذهاب المشهور مما يعاضدها فالعمل عليه. و على القول بالاحتساب تعتبر القيمة عند الموت لأنه زمن الانتقال لا عند العطاء أو الاحتساب إذ لو اعتبرت عند أحدهما لكانت الحبوة قبلهما أما باقية في حكم مال الميت أو ملكا لغير المحبو، و الكل باطل فتعين أنها ملكه و اختصاصها دون قيمتها لا يمكن و لو كان متزلزلا، لأن الملك المتزلزل أيضا يعتبر قيمته عند حصوله و يشكل فيما إذا نقصت و زادت عند الدفع من أصالة براءة الذمة من الزائد فيهما و من ثبوتها بذمته عند الموت لتعلق اختصاصها به عليه، و قد تحقق، و كونها من أقسام المعاوضة و لا تعتبر قيمة المعوض إلا عند دفع العوض ممنوع بل المعتبر حين الانتقال و إن لم يدفع العوض، و ليس الانتقال مشروطا بالاحتساب ليتحقق المشروط قبل شرطه بل هو لازم في الواقع كانتقال المبيع قبل دفع الثمن فإن دفع الثمن ليس من شروط انتقال البيع، نعم للورثة الرجوع بأعيان الحبوة لو لم يحتسب أو امتنع منه أو أتلف حقه و لو بانتقال، و هل يرجع عليه بالقيمة أو العين الأقوى الأول فلا تأخذ الورثة العين دون غيرهم لو كان مديونا، بل حكم العين حكم سائر أمواله، و لو زادت الحبوة على نصيبه دفع الزائد إلى الورثة على القول

ص: 137

بالاحتساب لأن الزائد لا عوض له فلا يسوغ له أخذه و جبره على أخذ قيمة الزائد من غير الإرث من أمواله لا دليل عليه، فلا بد من تخصيص أخبار الحبوة بغير ما يزيد على نصيبه، و اختلفوا أيضا فيما يحبى به بعد ذهاب الأكثر إلى أن الحبوة (هو السيف و المصحف و الخاتم و ثياب البدن) فزاد الإسكافي (السلاح)، و الصدوق (الكتب و الرحل و الراحلة)، و لم يذكر في" الانتصار" (الثياب) و لا في" الغنية" و غيرها من كتب المفيد (رحمه الله). و" الخلاف" لم يذكر (الخاتم) و الكافي خصص (الثياب) بما أعدت للصلاة منها، و في النصوص جمع ذكرت الأربعة، و خلو كل واحد عن بعضها لا ينفي المذكور في غيره إلا بمفهوم اللقب المفروغ من عدم حجيته، و ذكر ما زاد على الأربعة في مجموعها مما لا يقل به أحد لا يقدح في حجيتها في الأربعة لأن عدم العمل بجزء من الحديث، لا يضر في حجيته في الباقي فالعمدة الاستدلال على التخصيص بالأربعة مع أنها لم توجد في خبر مجتمع به بل كل خبر اشتمل على شي ء منها مشتمل على ضم شي ء آخر غيرها و كون الأربعة معلومة الإرادة و غيرها مشكوك فيه فيلزم الاقتصار على موضع اليقين مشكل في مشكل فلا بد في الرجوع إلى الاتفاق في الاقتصار على الأربعة و مستند هذا الاتفاق لعله خفي علينا، و لو تعددت هذه الأجناس فهل يجي ء بالجميع أم لا، قيل ما كان منها بلفظ الواحد اقتصر على الواحد دون ما كان بلفظ الجمع و حكم الفاضل بعموم الثياب و توقف في غيرها و مال في" الكفاية" إلى عموم الجميع، لأن المفرد المعرف كالجمع المعرف في إفادة العموم عند عدم العهد، و مثله المفرد المضاف و يلزم من (الكر) العموم في المفرد مطلقا عدم التعدد و لو بيننا على العموم فهل يثبت في نوع خاص منها أو كل أنواعها. الظاهر الأول فلا يدخل في الثياب ما عد للتجارة أو للادخار أو للبس الغير المتعارف مثلا على المشهور و أخذا بالمتيقن، و كذا الكلام في السيف و المصحف و الخاتم، و منه يظهر عدم دخول ما شك فيه بالكسوة المنصوصة مثل القلنسوة و الجورب، و النعال، و لباس الحرب و غيرها، بل كلما أستثني في الكفارة يستثنى هنا، و كذا كل ثوب قبل خياطته و تفصيله، و في دخول غلاف المصحف، و حلية السيف، و بعض الجواهر التي خيطت في اللباس مما يمكن نزعها منه أشكال، و الوجه في مثله العدم. و قيل الميزان هو الصدق العرفي- و فيه- نظر لأنه يصدق السيف على السيف مجردا و مزيدا و كذا غيره فهو أما مشترك أو مجاز راجح في المجموع، و على التقديرين لا يتم الميزان فالأحسن العدم في المشكوك مطلقا و لو كان بعض هذه الأجناس محرم الاستعمال شرعا فظاهر بعضهم عدم الملازمة بين الحرمة و الحرمان فيعمها الحكم خصوصا عند من يستحل ذلك لصدق الاسم و الحكم معلق عليه و هو كذلك و أن ظهر من آخرين العدم لعدم معهوديته عند الشارع، و فيه تأمل. و لو تبدل موضوع هذه الأربعة قبل الموت بالكسر أو المحيي أو كان خلق بحيث انتفى صدق الاسم عليه لم يدخل في الحبوة باعتبار ما كان عليه جزما، و الأمي و الجبان و الزمن، و مقطوع اليدين، و من لا ينتفع بالجميع، أو البعض يحبى بها و لا يضر عدم انتفاعه في الدفع له، و لو نقص بعض هذه الأمور كأن خلف جزءا من الكتاب و بعض سيف فإن لم يصدق عليه الاسم لا يحبى، و أن صدق لحقه الحكم و تدخل ثياب التجمل و ما لا يليق بحاله منها و من غيرها في الحكم قطعا، و في التوأمين يحبى أولهما خروجا للرواية و أن كان المتخلف اكبر، كما ورد بالنص من كونه أول الحمل و الثاني بعده لكنه أخذ طريقه فمنعه عن

ص: 138

الخروج، لكن ما عليه العرف هو المتبع و لو اشتبه الأكبر انتفى حكم الحبوة، و قيل بالقرعة و جريانها في غير المقامات المنصوصة محل تأمل،

و ينبغي التنبيه على أمور:

التنبيه الأول: الأنثى لا تحبى

إن الأنثى لا تحبى مطلقا للأصل و للتقييد بالذكر في بعض النصوص و أن كان عبر بلفظ الولد في بعض منها الشامل للأنثى لكنه محمول على المقيد، خلافا للإسكافي فحكم بعدمه لسقوط في الفرض و لو اتحد الولد فله بالإجماع للتفضيل القاطع للشركة في الخبرين، و لا ينافي الاتحاد التفضيل المقتضي للشركة إذ اعتبار وجود المفضل عليه اكثري لا كلي مع عدم الانحصار بما فيه التفصيل، و لو تعدد الأكبر سقطت في قول و اشتركوا فيها في أخر مشهور لوقوع لفظ الأكبر على القليل و الكثير لأنه اسم جنس، و الظاهر أنها تسقط مع التعدد و ندرة الفرض تغني عن الاطالة.

التنبيه الثاني لا حبوة للحمل:

لا ينتظر في الحبوة الحمل، و ليس حكمها حكم الأرث لعدم الحكم على الحمل غير الإرث بالذكورية التي تدور الحبوة مدارها و إفرازها له حكم غير مطابق للواقع لعدم معلومية الذكورية، و بعد التولد أن حكم بها للورثة قبله لزم أن يستصحب حتى يثبت الناقل، و أن لم يحكم بها قبل الولادة يلزم بقاء الملك بلا مالك، و ايضا استحقاقها على خلاف الأصل فيقتصر على الفرد المتيقن. و إلى ذلك ذهب غير واحد ممن عاصرناه و استجود الشهيد في الرسالة الثاني، و توقف فيه الثاني في المسالك، و لعل وجهه أن الحكم بالحبوة لا يلاحظ فيه فعليه الذكورية بل هو معلق على الذكورية الواقعية فتعتبر بالكاشف فيلزم الانتظار، و لذا يحبى الولد المشكوك في ذكوريته و يستكشف بالفحص و الاستعلام، كما لو علم أن له ولد غائب لكن شك في ذكوريته، و لزوم عزل سهم ذكرين للحمل مع عدم معلومية الذكورية فضلا عن التعدد أقوى شاهد على العزل هنا و الدليل أزال الأصل المدعى لكن قد يقال بالفرق بين الحبوة و غيرها، فإن نصوص التوريث أفادت التوريث المطلق لا جميع أنواعه التي منها الحبوة إلا أن يستظهر منها العموم و قياسه على لزوم العزل للحمل قياس مع الفارق لأن استحقاق الحمل ليس من حيث الذكورية بل من حيث كونه ولدا و هو معلوم مع بطلانه في نفسه و كون الأحكام تدور مدار الواقع أول الكلام بل تتعلق بالظاهر، نعم لو ادّعى أن تعلق الحكم بالظاهر أنما يكون بعد الانكشاف لا ما كان ظاهرا بالفعل فيكفي في الحكم بالذكورية تعلقها بها بعد ظهورها لكن على هذا يلزم أن يكون الحكم بعد الظهور لا قبله فما معنى العزل؟ قلنا يبقى الحكم عليها مراع حتى يظهر الحال و حينئذ الحكم بها للورثة مشروط بعدم الولد الذكر الظاهر ذكوريته بالفعل أو بعد تحقق الكاشف، و حيث لم يتحقق يبقى الحكم بها مراعي، و يشكل الحال في الحكم بها قبل تصوير الولد أي قبل انقضاء الأشهر الأربعة لعدم صدق الذكورية لا واقعا و لا ظاهرا.

التنبيه الثالث الحبوة للسابق ولادة أم علوقا:

لو ترك حملين من زوجتين، و علم سبق أحدهما حملا و ولدت المتأخرة قبلها فالحبوة قيل للسبق علوقا، و قيل ولادة و عدم مدخلية تقدم العلوق و تأخره و لذا ذهب الأكثر في التوأم إلى أنها للخارج أولا، و قصر هذا الحكم على التوأم لا على الحمل المتعدد له وجه فلا يفيد في المقام، و الوجه هو الرجوع في ذلك إلى العرف في السبق و اللحوق و يتبعه الحكم أو

ص: 139

إلى رأي المجتهد لو أدخلناه بالموضوع المستنبط في وجه، و لعله هو الأوجه في هذه المسألة و الله العالم.

التنبيه الرابع فساد الرأي في المحبو أو الميت:

لا يشترط عدم فساد الرأي في الميت و المحبو و أن ورد إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم لعدم عمومه، و لعدم القول به في التعصيب و العول، و قال جماعة بعدم الحباء إذا كان الولد فاسد الرأي لا مطلقا و الأصل و إطلاق النص يرده، كما إنه لا يشترط خلوه من السفه و اشتراطه جماعة و لم نعلم مأخذه و مثله اشتراط عدم جنونه، و هكذا اشتراط إيمان الأب أو إسلامه.

التنبيه الخامس عدم اشتراط الحباء مال غير الحبوة:

الظاهر عدم اشتراط الحباء بأن يكون للميت مال غير الحبوة و أن ذهب إلى الاشتراط جماعة، بل قيل أنه المشهور لنا إطلاق النصوص و فقد المقيد أحتج المشترط بلزوم الاضرار بالورثة و بإيذان لفظ الحبوة ببقاء شي ء أخر، و بالنص المشير لها بأنه من متاع البيت الظاهر في بقاء شي ء أخر، و بوجوب الاقتصار في خلاف الأصل على المتيقن و انصراف المطلق للشائع من أفراده. و رده أن الاضرار و الاجحاف لا ينافي ثبوت الحق، و لولاه لثبت في الدين المستغرق الإرث و عدم حرمان الزوجة من رقبة الأرض لو أنحصر الإرث بها و غير ذلك، و الإيذان لا يثبت حكما شرعيا و ظهور النص بحيث يقيد النصوص المطلقة مع ظهور كون من الجارة فيه بيانية لم يتضح، و وصول الشيوع بحيث يجب حمل المطلق عليه ممنوع. فالمتجه عدم الاشتراط، و لو زعم ففي بقاء أقل ما يهول كما هو مقتضي إطلاقهم أو اشتراط الكثرة فيه المزيلة للأضرار كما هو مقتضي التعليل احتمالان، و في اعتبار أن يكون نصيب كل واحد من الأولاد بقدر الحبوة قولان و لعل الأوفق على الاشتراط هو صدق كون الحبوة من متاع البيت و بعض المتروك.

التنبيه السادس أن يكون مال للميت غير الحبوة:

يشترط في الحباء خلو الميت عن دين مستغرق للتركة في الاعرف الأشهر، بل قيل عن مطلق الدين لعدم الإرث حينئذ و الحباء نوع منه على الأول و للحوق الحبوة بما يخصها عند توزيع الدين على القول الأخر فتبطل بالنسبة لكن المنع عنها الواقع في لسان الأكثر بمجرد وجود الدين المستوعب حال الوفاة عار عن الدليل إذ غايته أن البطلان مراع بعدم دفعه أثمانها أو دفع غيره للديان أو ابراءه ذمة المديون فلو وقع أحد هذه لا يمنع المحبو منها بل له منع الديان من أخذ العين مع دفع الثمن و لو لا ذلك لصح المنع منها فيما يقابل الوصية النافذة إذا لم يعين الوصية بعين غيرها و من مقابل الكفن الواجب و شبهه، و لا ريب في عدم التزامه لإطلاق النص و الفتوى بثبوتها مع عدم خلو الميت غالبا عن ما ذكر كلا أو بعضا لا أقل من الكفن، و المتجه على القول المشهور عدم مزاحمة دين أو وصية أو كفن للحبوة متى أمكن إخراجها من غيرها من أعيان التركة لاشتراك جميع الوراث حتى المحبو في ذلك، و أما الدين المستغرق فالأوفق تقديمه عليها ترجيحا لإطلاق أدلته، و كذا الوصية فيما لو أوصى بثلث ما ترك مطلقا أو مع الاستثناء فالحباء لا يزاحم الوصية و إنما يزاحم الوارث و أحتمل بعضهم العدم و أن الوصية أنما تكون في المال الذي له فيه ثلث دون غيره. و زاد آخرون بأنه ليس له الوصية بها لتعلق حق المحبو بها تعلقا شرعيا. و الظاهر أن مزاحمة غير الوارث لها متجه إذا توقف عليها كالكفن و غيره.

ص: 140

و الوصية ببعض أعيانها أو جميعها تنفذ و الثلث في الإطلاق يؤخذ منها و قد يتأمل في بعض ما ذكر و الله العالم.

التنبيه السابع في كونه أعيان الحبوة مرهونة:

لو كانت أعيان الحبوة كلا أو بعضها مرهونة أو محجر عليها قبل الموت على دين للميت قدم حق المرتهن و لا يجب فكها على الوارث، و لو فكها المحبو من ماله لا رجوع له على الورثة.

التنبيه الثامن: الحبوة عما فات الميت من عبادات

اشترط ابن حمزة في الوسيلة في تملك الحبوة أداء ما فات الميت من صلاة و صيام لأنها عوض و لا يملك المعوض بدونها و فيه ضعف.

التنبيه التاسع في اختلاف المجتهدين في الحبوة:
اشارة

لو اختلف المجتهدون في وجوب الحبوة أو في ما يحبى به من الأنواع و نحو ذلك و قلد كل من الورثة من له الصرفة في تقليده فإن عمل أحد المقلدين بموجب تقليده و لم يزاحمه الأخر و لو عن جهل أو عدم قدرة فلا شي ء على الأول و يحل له ما أخذه تقليدا لمجتهده فإن نازعه فإن عينا مجتهدا رضيا به فالحكم حكمه، و ان اختلفا في ذلك فالمزاحم لمن تصرف في الأعيان يكون مدعيا و يقدم من يختاره للمرافعة و ان كان قبل تصرف أحدهما في أعيانها رجعا إلى الأفضل، و عند التساوي ينفذ حكم من تقدم الحكم له في مطالبته، و هكذا.

و منها في ذكر ما أختلف فيه بالنسبة إلى الطبيعة الطبقة الثانية و هي الأجداد و الاخوة المحجوبة بالآباء و بالأبناء و الحاجبة للأخوال و الأعمام و فيها مسائل أيضا:

المسألة الأولى ميراث الأخوة:

الاخوة هم المسمون بالكلالة في ألسنة الفقهاء رضوان الله عليهم، المشهور شهرة عليها العمل أن المال للأخ المنفرد مطلقا أو مع الاجتماع مع الأخ للأب فقط لكن الأخ للأم بانفراده يحوز غير السدس ردا، و إذا تعددوا يحوزون ما زاد على الثلث كذلك و القسمة في أخوة الأب مطلقا بالتفاوت و في أخوة الأم كذلك بالسوية فرضا وردا و كذا من تقرب بالأب و الأم يرد عليهم غير الثلثان و ما سوى النصف بالتفاوت و مع اجتماع الكلالتين حاز كل نصيبه على ما فصل فلإخوة الأبوين الثلثان، و يمنعون الاخوة من الأب فقط عن الأرث و للإخوة من الأم الثلث مع التعدد و السدس عند الانفراد، و يقوم مقام الاخوة من الأبوين الاخوة من الأب لو فقدوا على ما فصلنا كل ذلك متفق عليه بين الفرقة المحقة.

المسألة الثانية في ميراث الزوج و الزوجة:

الزوج و الزوجة لو اجتمعوا معهم أخذ كل واحد منهم نصيبه الأعلى و هم يقتسمون الباقي فرضا وردا على ما فصل.

المسألة الثالثة في الرد:

اختلفوا في الرد في اجتماع الكلالتين فذهب المشهور إلى اختصاصه بالأخوة للأبوين أو للأب مع فقدهم و لا يرد على كلالة الأم مطلقا شي ء من الفريضة، و ذهب آخرون و منهم العماني، و الفضل إلى الرد عليهم جميعا بالنسبة فلو ترك أخ أو أخت لأم و أختين فصاعدا للأبوين يرد الفاضل و هو السدس على الجميع أخماسا و كذا إذا ترك أخوة أو أخوات لأم و أخت لأب و يرد أرباعا إذا كان أخ أو أخت للأم و أخت للأبوين و مثله في صورة اجتماع كلالة الأب فقط مع كلالة الأم فإن الرد في المشهور أيضا على كلالة الأب، و فيه خلاف من بعض أساطين الأصحاب أعظم من الخلاف السابق مثل الطوسي، و العماني، و الفضل،

ص: 141

و الإسكافي، و ابن زهرة، و الحلي، و المحقق، و الكيدري، و التحرير و ظاهر القواعد فحكموا بالرد على الجميع بالنسبة و قال المشهور أن النقص عليهم فالزيادة لهم، ورد الدليل بعدم اطراد القاعدة و تخلفها بالبنت و الابن، فان الرد عليهم جميعا مع أن العول على البنت فقط. و أجيب عنه بأن الأبوين يدخل النقص عليهما لاختلاف فريضتهما. و فيه نظر و عمدة الدليل ذهاب المعظم إليه و فحوى بعض النصوص الظاهرة فيه من دون داع إلى التصرف فيها مثل موثقة محمد بن مسلم في ابن أخت لأب و ابن أخت لأم قال لابن الأخت للأم السدس و لابن الأخت للأب الباقي فإنها بضميمة أن كل رحم بمنزلة قريبه تثبت المطلوب و هو المفهوم من رواية العبدي و الحصر المستفاد من الصحيحة، و قول أبي جعفر في صحيحة الكناسي و الله العالم.

المسألة الرابعة في حجب الجد:

الأبوين و الأولاد و أن نزلوا يحجبون الجد مطلقا عن الإرث بلا كلام فإن انفراد الجد حاز المال أجمع لأب كان أو لأم و الجدة كذلك و أن تعددوا و تساووا في الدرجة أخذ من يتقرب بالأم الثلث أنفرد أو تعدد و لمن يتقرب بالأب الثلثان مطلقا، و لا فرق في الحكم بين الذكور و الإناث فترتقي الصور لتسع هذا هو المعروف، و خالف الفضل و العماني (رحمه الله) في صورة اجتماع الجدتين فحكما بأن للجدة للأب النصف و لها للأم السدس و يرد الزائد عليهما بالنسبة تنزيلا لهما منزلة الأختين و خلافا للصدوق (رحمه الله) في صورة اجتماع الجد للأم مع الجد للأب فجعل السدس للجد للأم و الباقي للجد للأب كالأخوين و للتقي، و ابن زهرة، و الكيدري في جميع الصور إلا ثلاث و هي صور اجتماع الجدين للأم مع الجدين أو أحدهما للأب فحكموا في الباقي بأن للمتقرب بالأم السدس مع الانفراد و الثلث مع التعدد و الباقي لمن تقرب بالأب للمشهور و وجود النص في بعض الصور و قيام كل مقام من يتقرب به في الجميع كما ورد و فهم المعظم منه ذلك فإذا كان لكل نصيب من يتقرب به فلجدود الأم الثلث لأنه نصيبها و هم يتقربون بها و كذلك الثلثان لجدود الأب لأنهما نصيبه فيستحقهما المتقرب اليه في الجدودة، و لا يشكل في ذلك بالأخوة و الأخوات الخارجين بالنص، و بأن السدس أيضا نصيب الأم فيدور الأمر بين أحد النصيبين للجد و لا مرجح للثلث، و الأصل عدم رفع الزائد عن أقل النصيبين فإن النصيب الأصلي لها مع عدم الولد هو الثلث فيلزم صرف الاطلاق اليه. و فيه عدم تسليم ذلك بل هما نصيبان أصليان أحدهما الثلث مع عدم الحاجب و الآخر السدس معه فلو سلم ذلك مع عدم الأخوة فلا يسلم مع وجودهم، و كون الجد للأب بمنزلته في الإرث باعتراف الخصم فيكون الأخوة حاجبه. و فيه أن الحجب مشروط بوجود الأب لا فيما كان بمنزلته و عموم الخبر لا يثبت جميع الأحكام التي للأب لما كان بمنزلته بل غاية ما يثبت المقدار لا أقل من كون الشرط مشكوكا و هو يكفي في عدم الحكم، نعم ظاهر رواية زرارة قال (

أقرأني أو أراني أبو عبد الله" عليه السلام" صحيفة الفرائض فإذا فيها: أن الجد لا ينقص عن السدس شيئا و رأيت سهم الجد فيها مثبتا

) فإن المراد بالجد الجد الأمي إذ الجد الأبي إذا أجتمع مع الأخوة كان كأحدهم فقد ينقص سهمه عن السدس، و ضعف هذا الظاهر باحتمال وروده في طعمة الجد المندوبة أو أراد به صورة اجتماعه مع الجدة للأم فإن لكل واحد منهما السدس، و الخبر لم ينف الزيادة على السدس و أنما أثبته في بعض الأحيان على أن حمل الجد على الأمي دون الأبي لكونه

ص: 142

كأحد الأخوة أنما يصح حيث لا يكون الجد الأمي كأحد الأخوة للأم، و الظاهر أن المخالف لا يدعيه، و عسى أن يستدل للخصم أيضا بالأخبار المنزلة للأجداد منزلة الأخوة، و لا ريب أن الأخ الواحد من الأم نصيبه السدس فكذا الجد المنزل منزلته عملا بعموم المنزلة و فيه أن التنزيل المزبور مقيد بحال وجود الأخوة معه لا مطلقا، و لو سلم الإطلاق لاحتياج التقييد إلى المثبت له فعموم المنزلة ممنوع إذ التنزيل المفيد للعموم على فرض تسليمه فإنما يفيد لو لم يعلم وجه كونه بمنزلته فلو قيل هذا بمنزلة هذا في كذا أختص التنزيل به و الحال أن في جميع الأخبار المنزلة مبينة لوجه المنزلة فراجع و تدبر. و لو سلم التنزيل وجب تقييده بالأدلة المقتضية له بلا شبهة.

المسألة الخامسة في ميراث الجد:

لا إشكال في قسمة الثلثين بين جدي الأب بالتفاضل و الثلث بين جدي الأم بالسوية بلا خلاف يعرف سواء اجتمعا أو لا و سواء كان معهما زوج أو زوجة أم لا. و على ذلك المذهب.

المسألة السادسة في اجتماع الأجداد و الأخوة:

في اجتماع الأجداد و الأخوة كيفية السهام و هو صور اجتماع الجدين لأبيه مع الأخوين لأبيه و أمه أو أبيه أو أحدهما مع أحد أخويه كذلك أو اجتماع جديه لأمه أو أحدهما مع أخويه لأمه أو أبيه أو أحدهما مع أحدهما أو بالتحالف، ثمّ المجتمع أما مع الأخوة المتعددين أو المنفرد ذكرا كان المجتمع أو أنثى من الطرفين فترتقى الصور إلى مائة و أما أحكامها فخلاصته في مواضع.

أولها: اجتماع كلالة الأم مطلقا و أن كان أنثى أو تعدد مع جدتها و الحكم المشهور القسمة بالسوية بمعنى جعل الجد ذكرا كان أو أنثى كواحد من الأخوة و إطلاق الجد في صحيحة ابن سنان محمول على الجد الأبوي للإجماع.

ثانيها: إذا أجتمع الجد و الجدة أيضا من قبل الأم مع كلالة الأب فإن كانت الأخوة ممن يرث بالقرابة لا بالفرض كذكر و أنثى، أو ذكر منفرد أو متعدد مع أنثى منفردة أو متعددة فثلث الفريضة للجد و الجدة بالسوية أو لأحدهما إذا أنفرد و الثلثان للأخوة من الأب فإن انفراد الذكر كانت له، و أن تعدد قسمت بالسوية بين المتعددين من الذكور، و أن خالطهم أنثى أو إناث صار للذكر سهمان و للأنثى سهم على المشهور في أن لكل نصيب من يتقرب به و الجد من الأم أو الجدين تحوز نصيب الأم و هو الثلث، و تقسم كلالة الأب على التفاضل لأدلته من آية و رواية، و اعتذروا عما وجد في النصوص من أن مطلق الجد كواحد من الأخوة بحمله على الجد للأب، و إما إذا كانت كلالة الأب ذات فريضة كالأخت و الأختين و ما زاد فإن تعددت الأخوات أعطيت الثلثين فرضا، و أعطى الثلث للجدين أو الجد أيضا فرضا- كما مر- و أن اتحدت أعطيت نصفا و زاد من المال سدس فالأشهر أنه يرد عليها أيضا، و ذهب جماعة إلى رده على الجميع أخماسا الكلالة و الجدان أو الجد لتساويهما في درجة أولى الأرحام التي هي سبب في الرد و عدم أولوية أحدهما فيتساويان في الرد على نسبة النصيبين. و فيه منع عدم الأولوية من جهة ظاهر أخبار الرد، و لو سلم ذلك فإيجاب الرد عليهما ممنوع، و استشكل الفاضل في غير الأخت للأبوين و أما فيها فالرد عليها. و فيه عدم الفرق و أن تقربت بسببين لأنه استحسان بلا حجة.

ثالثها في أجداد الأم:

ص: 143

اجتماع جدي الأم أيضا مع الكلالتين و المشهور في التسهيم أن الثلث للمتقرب بالأم منهم فيشترك فيه الجدان أو الجد و الأخوة للأم و يقتسمون بالتسوية و الثلثان لكلالة الأب يقتسمونها بالتفاضل و لا يضر أن يكون نصيب المركب من ذي الفرض و غيره مساويا لنصيب ذي الفرض وحده للدليل و لا استبعاد، فيه بل قد يكون اقل كابنة و أخ و علته انتفاء الفريضة و الإرث بالقرابة فيمكن أن ترث الأخوة للأم من دون الجدين لها بالفرض و معهما بالقرابة، و الدليل عليه هنا الاتفاق و عموم قوله (ع): (

كل ذي رحم

) و لا تعارضه اطلاق آية [وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ] و قوله تعالى: [فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ] بدعوى أن ليس لتقييد هذا مرجح على تخصيص ذلك. قلنا المرجح قول الأكثر بل الإجماع لكن رواية ابن أذينة عن زرارة، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر يصرحان (

بأن الزوج و الأخوة من الأم لا يزيدون و لا ينقصون

) الشامل لما نحن فيه فلولا الإجماع لا شكل خروج المسألة عن عموم الحديثين، و عسى أن يكون مصب الخبرين مقصور على العول ففي الأولى، إذا أردت أن تلقي العول إلى آخره و في الثانية: و لا ينقص الزوج من النصف إلى آخره مع أنه ينقص مع الولد فما ذاك إلا للإشارة للعول فتأمل.

رابعها اجتماع أم الجد مع الكلالة: إذا اجتمع مع كلالة الأم الجد أو الجدة أو هما للأب فالثلث للأخوة من الأم على السواء أن كانوا من أكثر من واحد و الباقي للجدين أو الجد من الأب يقتسمون به بالتفاضل و أن اتحدت الكلالة كان للمتحد السدس، و الباقي للمتقرب بالأب و الظاهر عدم الخلاف في ذلك و النصوص به مصرحة.

خامسها اجتماع الأخوة للأب مع الجد:

إذا اجتمعت الأخوة للأب مع الجد أو الجدة أو هما كان الجد بمنزلة الأخ، و الجدة بمنزلة الأخت و الحكم القسمة بالتفاضل في الجميع و الأخبار بذا متظافرة، و هي و أن كانت بلفظ الجد إلا أن إلحاق الجدة كأنه لا شبهة فيه عندنا.

سادسها اجتماع الجد مع الكلالتين:

الجد و الجدة من قبل الأب إذا اجتمعا أو أحدهما مع الكلالتين فلكلالة الأم فرضها من الثلث أو السدس و يشترك في الباقي الأخوة و الجدين أو أحدهما مع أحدهما، و القسمة في الفرض الأول بالسوية، و للذكر ضعف الأنثى في الصورة الثانية، فأنا ذكرنا أن كلالة الأب مع الجدين يرثون بالقرابة و لا فرض لهم مطلقا فيكونون بمنزلة الأب و هو يرث المال مع عدم الولد، فالمال لمن هو بمنزلته، خرج الثلث أو السدس بدليله فالباقي لمن هو بمنزلته، و لا يجرى ذلك في كلالة الأم لأنها ذات فرض و المنزلة مختصة بغير ذات الفرض.

سابعها في الأجداد المختلفة:

اجتماع الأجداد الأربعة- أعني جدي الأم و جدي الأب- مع كلالة الأم خاصة فالثلثان لمن تقرب بالأب تعدد أو أنفرد و الثلث لمن تقرب بالأم من الكلالة و الأجداد فيكون كل متقرب بمنزلة قريبه.

ثامنها في اجتماع الأقسام:

إذا اجتمع الأقسام الأربعة كلالة الأم و كلالة الأب و ما أنتسب إلى الأم من الجدود أو إلى الأب فللمتقرب بالأم الثلث أو السدس بالسوية، و للمتقرب بالأب الثلثان بالتفاوت و حكم الرد في المنفرد مر عليك.

ص: 144

تاسعها اجتماع الزوج و الزوجة مع الكلالتين:

الزوج و الزوجة إذا اجتمعوا مع الكلالتين و الجدود فلهما النصيب الأعلى بلا شبهة، و الثلث للمتقرب بالأم من الجدودة و الكلالة بالسوية أو السدس أن لم يكن جد و لا جدة و لم يتعددوا و الباقي للمتقرب بالأب و مع عدمه فالجميع للأول، و مع عدمه فللثاني و الحجة عليه تظهر مما سبق.

المسألة السابعة في منع الأقرب الأبعد:

لا أشكال في منع الأقرب من الأجداد للأبعد، و المقاسم للأخوة المرتبة الدنيا منهم و أن وجد ما فوقها إجماعا فإن فقدوا كانوا آباؤهم بمنزلتهم على الأظهر فيقاسمون الأخوة مطلقا. و بالجملة أن للانسان أب و أم و هما أول درجة من درجات أصوله ثمّ لكل منهما أب و أم و هما الدرجة الثانية من درجات الأصول، و الدرجة الأولى من الأجداد و الجدات و هم أربعة حاصله من ضرب الاثنين في مثلهما كما أنهم في الدرجة الثانية ثمانية لأن لكل من الأربعة أب و أم مضروبة في اثنين فتكون ثانية و في الدرجة الثالثة ستة عشر و هكذا، و الظاهر في أن قسمتهم لو وجدوا في ثاني الدرجات و أن كان بعيدا أن ثلثي التركة للأربعة المتقربين بالأب و هم جدا أبيه و جدتاه و الثلث الباقي للأربعة من قبل أمه، ثمّ الثلثان اللذان للمتقربين لأب الميت ينقسم بين الأربعة أثلاثا ثلث للمتقرب بالأم، و الباقي للمتقرب بالأب ينقسم بينهما أثلاثا هذا لا إشكال فيه، و أما الثلث الذي حازه المتقرب بالأم إلى الأب من الأجداد من الثلثين و الثلث الذي كان لأجداد الأم من أصل التركة فقد اختلفوا في قسمتها فقيل: أن ثلث الثلثين ينقسم بين الجد و الجدة لأب الميت من قبل أمه بالتفاوت، و ثلث التركة ينقسم بين الأجداد الأربعة لأم الميت بالسوية، و قيل غير ذلك و لبعد الفرض لم ننه الكلام فيه.

المسألة الثامنة في حجب الأخ لأولاد الأخ:

أولاد الأخ يحجبهم الأخ عن الأرث مطلقا على المشهور و ابن شاذان شرك ابن الأخ من الأبوين مع الأخ للأم و ابن ابن الأخ منهما مع ابن الأخ منها و خص المتقرب بالأم بالسدس و ترك الباقي للمتقرب بالأبوين، و منع الأقرب للأبعد الذي عليه الاتفاق يرده، (و لا شك في أقربية الأخ للأم من ابن أخيها للأبوين)، و لا ينفع كثرة الأنساب مع تفاوت الدرجة.

و عسى أن يستدل للخصم أيضا بالأخبار المنزلة للأجداد منزلة الأخوة، و لا ريب أن الأخ الواحد من الأم نصيبه السدس فكذا الجد المنزل منزلته عملا بعموم المنزلة و فيه أن التنزيل المزبور مقيد بحال وجود الأخوة معه لا مطلقا، و لو سلم الإطلاق لاحتياج التقييد إلى المثبت له فعموم المنزلة ممنوع إذ التنزيل المفيد للعموم على فرض تسليمه فإنما يفيد لو لم يعلم وجه كونه بمنزلته فلو قيل هذا بمنزلة هذا في كذا أختص التنزيل به و الحال أن في جميع الأخبار المنزلة مبينة لوجه المنزلة فراجع و تدبر. و لو سلم التنزيل وجب تقييده بالأدلة المقتضية له بلا شبهة.

ص: 145

ص: 146

ص: 147

المسألة التاسعة في أولاد الأخوة:
اشارة

أولاد الأخوة- و أن نزلوا- يقومون مقام آبائهم فمن يتقرب منهم بالأب و الأم أو الأب مع فقدهم يحوز المال أن انفرد و يقسمونه عند التعدد بالسوية أن لم يكن أنثى و إلا فبالتفاوت، و من يتقرب بالأم يقتسمون المال بالسوية السدس بالفرض مع الانفراد و الثلث مع عدمه و الباقي بالرد و لو اجتمع الكلالات الثلث حرمت كلالة الأب، و حازت كلالة الأم السدس مع الانفراد و الثلث مع عدمه و القسمة بالسوية، و الباقي لكلالة الأبوين و القسمة في المتعددين بالتفاوت، و يقاسمون الأجداد و تكون بنت الأخت بمنزلة الأخت و ابن الأخ بمنزلة الأخ حسبما مر في المقاسمة مع الأجداد و منها في بيان أحكام الطبقة الثالثة و هم الأخوال و الأعمام:

الفصل الأول ميراث الأخوال و الأعمام

لا يرث العم مع واحد من الأخوة و أولادهم و لا مع الأجداد و آبائهم على الأشهر، و عن يونس أنه شرك العم مع ابن الأخ و هو متروك و يحوز العم المال كله لو أنفرد، و كذا العمة و أن تعددوا و كانوا من نوع واحد بان كانوا كلهم أخوة أب الميت للأب فقط أو للأم فقط أو لهما كذلك حازوا جميع المال أيضا و اقتسموه بالتفاوت على الأشهر حتى في المتقرب بالأم عند التعدد و بالسوية في قول بالأخير أي المتقرب بالأم. و فيه قوة لاقتضاء شركة المتعددين في شي ء تسويتهم، و أن تفرقوا سقط المتقرب بالأب مع وجود المتقرب بالأبوين فالمال ينقسم بين المتقرب بالأبوين أو بالأم فقط أو بين المتقرب بالأب خاصة و بين المتقرب بالأم- أن فقد العم- للأبوين، و اشتهر أن السدس في الفرضين للمتقرب بالأم من الأعمام أن انفرد و الثلث إذا تعدد و الباقي للمتقرب بالأب على التفصيل المتقدم إلحاقا للعمومة بالكلالة و يقتسمون الأعمام و أن تفرقوا بالتفاضل على رأي جماعة أيضا، و قيل أن الأعمام من طرف الأم أن انفردوا اقتسموا بالتفاضل لو تعددوا، و أن اجتمعوا مع غيرهم اقتسموا ثلثهم بالسوية لعين ما مر، و الظاهر أن الاجتماع و الانفراد لا فرق بينهما و أن ذهب للفرق بينهما جماعة و لا يرث مع العم أو العمة مطلقا أحد من أولادهم مع وجودهم اتفاقا إلا في عم لأب و ابن عم للأبوين فأنهم قدموه على العم بالاتفاق و النص و بهما خصصوا القاعدة. نعم يقتصر على الفرد اليقيني و هو من الانحصار بهما فلا يتعدى عنه، و أن وقع الخلاف منهم في مواضع منها: لو حصل التعدد من أحدهما مع انفراد الأخر أو منهما فذهب غير واحد و منهم الشهيدان إلى عدم تغير الحكم لاتحاد المناط و لوجود المرجح، و لأن التعدد أولى من الانفراد و لأن سبب أرث العمين فما زاد نفس العمومة و ابن العم مانع لهذا السبب، و مانع أحد السببين المتساويين مانع للآخر و لأن ابن العم أعم من المفرد و عمومه لجهة الإضافة، و نوقش في الجميع باحتمال اشتراط الوحدة في المقتضى و السبب فيكون التعدد منافيا له. نعم يمكن التمسك

ص: 148

لهذا بالرضوي الظاهر في العموم و ببعض الأخبار الظاهرة في التعدد، فالأظهر ما عليه الشهيدان.

و منها لو كان المجتمع عمة و بنت عم أو أحدهما مع ذكر فالظاهر عدم تغير الحكم السابق، و نسب للشيخ أنه جعل العمة كالعم لاتحاد السبب، و هو متروك لا مكان أن يكون للذكورية دخل.

و منها إذا تغير المورد بالهبوط، و الأوفق عدم جريان الحكم المخالف للأصل فيه.

و منها إذا أنضم معهما غيرهما من زوج أو زوجة أو خال أو خالة و الأظهر فيه عدم تبدل الحكم الأصلي أيضا، و أن ذهب بعضهم إلى مقاسمة ابن العم للخال، و آخرون إلى سقوط العم و ابن العم و رجوع المال إلى الخال، و قيل باختصاصه بابن العم فقط و لا دليل على شي ء من ذلك بحيث يركن إليه إذ حرمان ابن العم لوجود الخال إذا انفردا مما لا كلام فيه و لا مانع له هنا و مثله عدم حرمان العم لكونه بمنزلة الأب غايته أن الدليل قضى بحرمانه في مقام فلا يتعدى عنه و توريث الخال لا مانع، له و مقالة المخالف بأن حرمان العم لوجود ابن العم على إطلاقه غير مسلم بل حرمانه مقصور على صورة واحدة على أن الخال حاجب له فإن ادّعى عدم صلاحيته للحجب بزعم أن الخال لا يحجب العم فلا يحجب ما هو أولى و هو ابن العم لحجبه للعم فلا يمنع بالخال، و أيضا الخال يحجب ابن العم مع عدم من هو في درجته فيحوز المال و المفروض أنه إذا حجب ابن العم لا يحوز المال لأن الذي يحوزه هو العم فلا يتحقق الحجب فرده أن اختصاص حجب الخال لابن العم بما ذكر ممنوع، و تخصيص لعموم منع الأقرب الأبعد بلا مخصص و لا ينتج من ذلك أن ابن العم حاجب للعم و أن الخال حاجب له فيختص الإرث بالخال لمنع محجوبية العم بابن العم مع وجود الخال، و منه يظهر بطلان من زعم أن المال لابن العم فقط بدعوى تساوي العم للخال في الحجب فإذا حجب العم حجب الخال لتساويهما في الدرجة، لان التساوي في الدرجة لا يوجب التساوي في باقي الأحكام.

الفصل الثاني في أرث الأخوال و الخالات

الخال متى انفرد حاز المال كله و كذا الخالة، و لو اجتمع الخال و الخالة أو الخالات و الأخوال لأب كانوا أو لأم أولهما كان المال كله لهم، و المشهور انهم يقتسمون المال بالسوية، و قيل بالتفاوت فيما إذا كانوا لأب او للأبوين و هو متروك و لو اجتمعوا مع كون ما هو متقرب بالأب فقط فيهم فالمعروف سقوطه، لأن المتقرب بالأبوين اقرب إلى الميت فان فقدوا لم يسقط المتقرب بالأب، و المعروف في قسمتهم أن للمتقرب بالأم السدس مع الوحدة مطلقا و الثلث مع التعدد ينقسم بينهم بالسوية و الباقي تقرب بالأبوين أو الأب. و المشهور انهم يخصصونه بالسوية و ان اختلفوا بالذكورية و الانوثية، و قيل أن المتقرب بالأب من الخئولة يقتسمون بالتفاوت و مراعاة لجانب الأبوة ورد بان اصل التقرب إنما هو بالأمومة فلا عبرة بجهة القرب للام بالأب حيث يكون واسطة. و نوقش فيه فإن كان كذلك فيقتضى ان تكون القسمة بالسوية في مطلق الخئولة و لا معنى للقسمة أسداسا أو ثلاثا في صورة اجتماع المتقرب بالأبوين أو الأب مع المتقرب بالأم، ورد بخروج الصورة بالإجماع و الا فالتقرب يقتضيه و الأقرب للاعتبار القسمة بالتفاضل لقاعدة تفضيل الرجال على النساء.

ص: 149

الفصل الثالث في اجتماع الأعمام و الأخوال و انفرادهم

إذا اجتمع العم أو الأعمام و الخال أو الأخوال فلجانب الخئولة الثلث من المتروك و الثلثان لجانب العمومة في الأشهر تنزيلا للأخوال بمنزلة الأم و للأعمام بمنزلة الأب، و خالف في ذلك جمع منهم المفيد (رحمه الله) فنزلوا الخئولة و العمومة منزلة الكلالتين كلالة الأم و كلالة الأب فقالوا: أن للخئولة مع الوحدة السدس و مع التعدد الثلث و للعمومة الباقي بالقرابة مع وجود الذكر و الثلثان بالفرض مع عدمه فان اتحد اخذ النصف و ألا فالثلثان و الباقي يرد على العمومة و الخئولة أو على العمومة فقط، و لم نعثر لهم على حجة واضحة و على المشهور فثلث الأخوال يقسم بينهم بالسوية مع عدم التفرق سواء اتحدوا بالذكورية أو الأنوثية أم بالتفريق فان تفرقوا يعطى المتقرب بالأم السدس من الثلث مع الوحدة و ثلثه مع التعدد و القسمة بالسوية، و الباقي للمتقرب بالأبوين أو بالأب مع فقده و قسمته بينهم بالسوية على المشهور، و بالتفاضل في قول بعضهم و الأعمام تقسم حقها و هو الثلثان بالسوية مع عدم الاختلاف و معه بالتفاضل، و ان تفرقوا يكون تقسيم الثلثين بينهم كتقسيم جميع المال مع فقد الخئولة، و متى اجتمع الأعمام و الأخوال أي عم الأب و عمته، و خاله، و خالته، و عم الام، و عمتها، و خالها و خالتها فالثلث للمتقرب بالأم بالسوية و الثلثان للمتقرب بالأب و ثلث الثلثين لخالة الميت و خاله و ثلثاهما للعم و العمة للذكر ضعف الأنثى و المسألة مركبة من حكمين:

الحكم الأول: التقسيم بين المتقربين أثلاثا.

و الحكم الثاني: تقسيم نصيب المتقرب على نحو ما ذكر و احتمل الشهيد في الأول أن يجعل للخئولة الأربعة الثلث و قسمتهم له بالسوية و للأعمام الثلثين و طريق قسمتهما أن يكون ثلث الثلثين لعم الأم و عمتها بالسوية و ثلثاهما لعم الأب و عمته أثلاثا و احتمل (نصير الملة) أن ثلث الثلث الذي للمتقرب بالأم يعطى لخالها و خالتها سوية و ثلثاه لعمها و عمتها كذلك و سهم الأعمام ينقسم كما قاله المشهور، و احتمل بعض المتأخرين أن يقسم ثلث المتقرب بالأم بين أخوالها و أعمامها بالمناصفة، و فيه مخالفة المشهور عند الاتحاد، و وجه هذا الاحتمال أن أبا الام و أمها يقتسمون كذلك فالمتقرب بهم مثلهم، و المسألة حيث لا نص فيها محل إشكال و الأخذ بقاعدة التفاضل أو المشهور أولى بل يمكن أن يكون الأول أوفق بمذاق الفقاهة.

فائدة: قيام أولاد العم و الخال مقامهم:

يقومون أولاد العمومة و الخئولة مقام آبائهم فتنزل بنت العم منزلة العم و ابن الخالة منزلة الخالة من الثلثين، و الثلث و هكذا، و يظهر مما ذكرنا انه إذا اجتمع للوارث سببان أو اكثر من أسباب الأرث فان كان ذو السببين معه من هو اقرب حاز التركة، و ان كان ذو سبب واحد و ان كان معه من هو اقرب منه بأحد السببين كزوج هو ابن عم مع أخ ورث بالزوجية، و لا يرث بالعمومة لأنه ثبت ارث الزوج مع الأخ و كذا إذا اجتمع السببان، و لا مزاحم فان المال كله له كعم هو خال و ابن خال حتى لو كان السببان المتضادان فان التضاد لا يمنع مع الانحصار، أما لو كان معه من هو مساو فيهما فأما ان يكون أحد السببين مانعا من الأخر كأخ هو ابن عم مع أخ أو لا يكون، إما الأول فيرثان معا بالاخوة و كونه ابن عم وجوده كعدمه لا يؤثر شيئا لانه ثبت أن الأخوين يقسمان المال بينهما نصفين و لم يثبت زوال هذا الحكم بكون أحدهما ابن عم، و أما الثاني كعم هو خال مع خال فيرث ذو السببين نصيب كل سبب فللعم المفروض من

ص: 150

المال ثلثيه لكونه عما و سدسه لكونه خالا من غير شبهه، و قد مثل الأصحاب لاجتماع الأسباب أمثله يظهر حكمها مما قررنا.

فائدة:

إذا دخل الزوج أو الزوجة على الأعمام و الأخوال فله نصيبه الأعلى و للأخوال ثلث الأصل و الباقي للأعمام فان كانت الفريضة ستة فللزوج ثلثه، و للأخوال اثنان و واحد للأعمام و كل من الفريقين يقسم ماله على حسب ما قررنا أما لو دخل على أحد الفريقين و كانوا الأخوال مثلا- و هم متحدون- بان يكونوا إما جميعهم من الأبوين أو من الام أو الأب، و كذا بعض من طرف الام و بعض من طرف الأب فان كانوا أعماما أخذا للمتقرب بالأم منهم بعد نصيب الزوج أو الزوجة ثلث الأصل مع التعدد، و سدسه مع الانفراد على المشهور، و الباقي للمتقرب بالأب- و ان كانوا أخوالا- فالحكم كذلك على رأى جماعة، و قيل: ان سدس الثلث بعد حصة الزوج او الزوجة للمتقرب بالأم ان انفرد و ثلثه لو تعدد و الباقي الأعمام فللزوج أو الزوجة ايضا النصيب الأعلى و الباقي لذلك الفريق و قسمتهم على ما فصلناه، أما لو كان المدخول عليهم فريق واحد و هم متفرقون منه و من الفريضة للمتقرب بالأب من الخئولة و استوجه هذا القول جماعة لان المتقرب بالأم له حقها و هو الثلث لأنه نصيبها و يخصصونه بينهم فللمتقرب بالأم منهم سدسه أو ثلثه لا سدس الأصل، و مرجعه إلى تنزيل الخالين منزلة الأخوين المتفرقين، و قيل أن للمتقرب بالأم سدس الباقي من حصة الزوج لا سدس الثلث و خير الوجوه ما عليه المشهور و ان قوى بعض أعاظم المتأخرين إن الأخوال لهم نصيب الأم لأنهم بمنزلتها، و هو يختلف فقد يكون المال كله و قد يكون نصفه أو ثلثه أو سدسه و في المقام لها النصف مع الزوج لو انفردت فينتقل ذلك للأخوال فيأخذ المتقرب بالأم سدس النصف أو ثلثه، لأن المتقرب بها ينزل منزلة كلالتها- و هو وجيه- لو لا أن الظاهر أن ينزل المتقرب بالأم منزلة أم الام لا منزلة الكلالة، و كذا المتقرب بالأب من الأعمام و الأخوال، لانه مقتضى قاعدة (كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجربه) لان العمومة و الخئولة ليست بمنزلة الأب و الأم و إلا لحجبت الجد بل هي بمنزلة أب الأب و أم الام و هما يقسمان بالسوية كما تقدم قولك للأخوال حصة الأم ممنوع بل لها حصة أم الأم و يجر الكلام بأسره في الأعمام المتفرقين، و المسألة لخلوها من النصوص مشكلة فالأرجح فيها اتباع الأكثر.

الفائدة الثامنة و الأربعون (في أرث الزوجة):

الزوجة ترث الزوج و يرثها ما دامت في حباله و لو كانت في العدة الرجعية، لأنها زوجة أيضا و لا إشكال في ذلك كله، و لا في عدم توريث المطلقة بائنا و اليائسة و ليس في سنها من تحيض و المختلعة و المباراة. نعم المتزوجة في المرض إذا مات الزوج قبل الدخول و قبل البرء لا ترثه على الأشهر كما ان المطلقة في المرض و لو بائنا ترث الزوج لو مات في ذلك المرض إلى سنة، و قيل بثبوت التوارث في العدة مطلقا و لو رجعت المختلعة بالبذل أو رجع الباذل غيرها فانقلب الطلاق رجعيا توارثا مطلقا و ان لم يمكن الزوج الرجوع بأخذ أختها أو خامسة لانه بانقلابه رجعيا تثبت له أحكامه، و استشكل- الفاضل- فيه التفاتا إلى استصحاب أحكام البينونة، و الشك في الموضوع فعسى أن يكون الموضوع هو الطلاق الرجعي لا مطلقا، و استقوى بعض أفاضل المتأخرين دوران الإرث

ص: 151

و عدمه على استحقاق الرجوع فعلا و عدمه و مثله ما لو لم يمكنه الرجوع في الرجعي لإسقاطه حق الرجوع أو لمصالحته عليه أو غير ذلك فتدبر.

الفائدة التاسعة و الأربعون (في اشتباه البائنة بغيرها):

لو اشتبهت البائنة بغيرها، فأما أن يكون البون بالطلاق أو بغيره، و على الأول فأما أن يكون الاشتباه بما فوق الأربع أو دونها، و على الثاني كذلك و المنصوص من هذه الصور هو ما لو طلق الرابعة، واخذ أخرى بمكانها، و اشتبهت المطلقة و الحكم فيها إن تأخذ الأخيرة ربع الثمن، و يقسم الباقي بين الأربعة الباقية و كذا لو كان الأرث الربع، و الحلي على اصله فحكم بالقرعة بين الأربعة و استخراج المطلقة بها، فلا ترث و لا تعتد و هو حسن أن استضعفنا العمل بالخبر، أما لسقوط العمل بأخبار الآحاد أو لاشتراك أبي بصير الراوي عن أبى جعفر" عليه السلام" بين الثقة و غيره. نعم فيه أن الأمر يدور بين القرعة و بين الصلح القهري للحاكم، و الثاني أولى كما في مسألة التداعي لقيام تعدد الاحتمال مقام امتزاج المال كالدرهم المختلط في درهمين لشخصين، لكن تحتم ذلك على الحاكم أشكال فالتخيير بين القرعة و الصلح لا يخلو من وجه، و لو حكمنا بتعلق حكم عدم الإرث في المطلقة المعلومة دون المشتبهة أو أن العلم الإجمالي لا يمنع من جريان الأصل في كل واحدة كالأواني المشتبهة بالنجس لا وجه لعدم التوريث و على الأخير بأن بانت الزوجة بغير الطلاق، و اشتبه الأمر أو به دون الأربع، فقيل: بالتعدد في غير مورد النص مطلقا، و ان النص على عين لا يفيد التخصيص في الحكم بل يدل على التنبيه على مأخذ الحكم و إلحاقه بكل ما حصل الاشتباه فيه و لا خصوصة ظاهره في قلة المشتبه و كثرته فيه، و استشكل آخرون بالتعدد في المورد المخصوص فقصروا الحكم عليه،

ص: 152

و اما غيره من موارد الاشتباه فيرجع فيه إلى ما تقتضيه القواعد من قرعة أو صلح قهري أو غيره.

أقول و لا مانع من استصحاب الحكم السابق للمشتبهة و غيرها فيوزع الثمن أو الربع ثنائيا و ثلاثيا، بل قد يوزع أثمانا لو اشتبهت الأربعة في أربعة، و لا مانع منه سوى تساوى الحصص و ان متيقنة الزوجية تأخذ دون حقها، و لا بأس به أن حكم الدليل بمساواة المشتبهة للمتيقنة في الاستحقاق، و أما ما استدل به على مشاركة المنصوص لغيره في الحكم، فمرجعه إلى القياس و الله العالم.

الفائدة الخمسون (في العقد على الصغير):

لا ريب في حصول التوارث بين الزوجين مع صحة العقد فيدخل فيه العقد على الصغيرين ممن له ذلك كالأب و الجد، و يحكم بالزوجية و الإرث، و هو مما لا إشكال فيه و في ثبوت المهر سواء ماتا صغيرين أو أحدهما أو لا. نعم يشترط الكفاءة في الزوج، و مهر المثل في الزوجة- عند الأكثر- فلو فقد أحدهما، و كان الثاني فالأقرب أنها ترث- و لها الخيار- أن بلغت في المهر دون العقد و لا وجه لتوقف البعض فيه، و ان كان الأول فيمكن عدم التوارث بما يفسد العقد لعدم نفوذ تصرف الولي- و لو إجباريا- مع المفسدة في الظاهر، و لو قيل بصحة النكاح مع جبره و ان لها الخيار في العقد بعد البلوغ على وجه يكون كخيار العيب لكان حسنا و اتجه التوارث. و أما لو عقد على الصغيرين غير الولي سواء وجد الولي أم كان فضوليا موقوفا على الإجازة من الولي أو منهما بعد البلوغ فلو لم تحصل فسد العقد و لا توارث و كذا لو مات أحدهما قبلهما، و ان أجاز الأخر لتوقف العقد على رضائهما أما لو أجاز أحدهما بعد رشده و بلوغه و مات و كان الأخر صغيرا عزل نصيبه من الإرث حتى يتأهل للإجازة فان أجاز اخذ نصيبه و الا بطل النكاح و لم يستحق شيئا، و النص صرح باشتراط اليمين على المجيز من انه اجاز لا لرغبة في الإرث، و هذا الحكم و ان كان مخالفا للأصل إلا أن الأكثر عليه عملا بالخبر، و للتأمل فيه مجال إنما الأشكال في جريان هذا الحكم في غير محل النص كتزويج الكاملين فضولا أو أحدهما أو الفضولي و الولي كل زوج واحد أو أحدهما صغيرا أو غير ذلك، فيحتمل الاقتصار على مورد النص في الإجازة و التوريث فلا ينفع إجازة أحدهما لو مات بعدها قبل إجازة الأخر للزوم الاحتياط في النكاح أو رجحانه و لأصالة عدم استحقاق مال الغير بدون ناقل محقق فيكفي عروض الشك في الناقل، و يحتمل موافقة هذه الأحكام لقاعدة الفضولي و حينئذ يسقط طلب اليمين من المجيز، بل و لو صرح المجيز بأنه أجاز لرغبة في الميراث، لأن الإجازة تكشف عن صحة العقد، و متى صح ترتب عليه أثره على أن المجيز مصدق فيما لا يعلم إلا من قبله فلا وجه لطلب اليمين منه و لا يبعد الأخذ بقواعد الفضولي، لأن محله المنصوص هو النكاح و غيره ملحق به لخلوه عن النص الصحيح، و هي تكشف كشفا حكيما عن صحة العقد و لا يقدح فيه عروض الموت قبل تمام السبب الناقل لوقوعه من أهله في محله غايته انه مراع بالإجازة و ليست هي إلا كالخيار الذي لا دخل للموت و الحياة فيه فبعد الإجازة يتم العقد فيؤثر أثره و سقوط بعض الآثار لا يوجب سقوط جميعها، فلا وقع للقول بالبطلان من جهة اعتبار بقاء ما وقع عليه العقد قابلا لتعلق العقد حال الإجازة و إلا لننقض بالصغير لعدم قابليته حين إجازة الكبير قبل موته، و ليس هو كتلف المبيع فضولا بآفة سماوية قبل إجازة المشتري لعدم بقاء اثر يتعلق العقد فيه لو أجاز المشتري بخلافه هنا لكن حيث كان النص، و الفتوى توقف الزوجية على اليمين، لا

ص: 153

محيص عن اعتباره في غير مورد النص لو ألحقناه به، فلو نكل سقطت و مع عروض المانع ينتظر رفعه الا مع الضرر على الوارث أو المال، و في وجوب اليمين تعبدا أو لجهة التهمة فلو ارتفعت لا يمين وجهان و التعبدية ارجح و ان وقع التصريح بالتهمة في النص لان الظاهر فيها و في أمثالها في النصوص أن ذلك حكمة الحكم لا انه علة يدور الحكم مدارها، و على التعبدية فلو كان المجيز المتأخر الزوج لا يلزمه أداء نصف المهر للوارث إلا بعد التحليف فان حلف جاز للوارث مطالبته، و وجب دفعه و إلا فلا، و يرث الزوج من المهر و يقاص فيه لو امتنع الوارث من دفع ما يستحقه من التركة إليه لو كانت، و أما على عدم التعبدية في اليمين يلزم الزوج الدفع لمجرد الرضا و ليس للوارث المطالبة به، و له أن يقاص إذا لم يكن له طمع هذا ما تقتضيه القواعد و الله العالم.

الفائدة الحادية و الخمسون (في انحصار الوارث):

لو انحصر الوارث بالزوج اخذ النصف فرضا و الباقي ردا في الأشهر و بالزوجة أخذت نصيبها و لا يرد عليها في قول معروف بين أصحابنا حتى حال الغيبة و هو الأقرب و النص به واف.

الفائدة الثانية و الخمسون (في نفوذ الوصية في الثلث):

لو أوصى من لا وارث له بالثلث نفذت وصيته من دون شبهة، و ان أوصى بالزائد عليه فالقاعدة تقتضي عدم نفوذ الوصية كذلك. و يظهر من بعضهم النفوذ لرواية ضعفت بالسكوني سندا و دلالة باحتمال إرادة الثلث منها في قوله" عليه السلام": (

يوصى بماله حيث شاء

) لاحتمال أن تكون ما موصولة و له جار و مجرور فيكون إشارة إلى الثلث او قصر النفوذ على ما لو أوصى للمسلمين و المساكين لا مطلقا فيشمل غير الموجود في الرواية، أو أن الحكم مختص بحال الحضور لا مطلقا و الله العالم.

الفائدة الثالثة و الخمسون (في إرث ولد الزنا):

ولد الزنا لا يرث من أبيه الزاني و لا من أقرباء والده و لا يرثون منه على الأشهر بل المتفق عليه و النصوص بعدم الإرث منه كثيرة، و أما نفي الارث من الجانبين فبالإجماع المحقق و أصالة عدم التوريث خرج منه صحيح النسب، و بقى غيره و اختلفوا في التوارث بينه و بين أمه و أقاربها فالمشهور على العدم ايضا، و يظهر من جملة من الأصحاب الحكم بالتوارث لصدق التولد الذي يتبعه الإرث و لدلالة بعض النصوص عليه و القول به لا يخلو من قوة لعمومات الإرث، و لقوله" عليه السلام" في رواية ابن عمار (

ولد الزنا و ابن الملاعنة يرث أمه و اخوته لامه إلى آخره

) و قوله (

و ميراثه كميراث الملاعنة

) في مرسلة النهاية و رواية يونس (

ميراث ولد الزنا لقراباته من قبل أمه إلى آخره

)، و نوقش في الجميع بالضعف و عدم صراحة الدلالة و بموافقة أهل السنة فيقوى عدم الأرث لمرجوحية نصوص الإرث بالنسبة إلى نصوص عدمه: و فيه أن الرجوع إلى الترجيح هنا ساقط لان الأخبار من باب المطلق و المقيد لا من باب العموم من وجه، أو التساوي حتى يرجع إلى الترجيح، فالأظهر التوريث هذا في العمودين. و أما أولاد ولد الزنا فيرثهم و يرثونه من غير إشكال و لا موجب للعدم و الله العالم.

ص: 154

الفائدة الرابعة و الخمسون في ولاية الإمام (عليه السلام):

اشارة

لا إشكال في ثبوت الولاية في الأموال و النكاح و غيرهما في الجملة لآحاد مخصوصين، و تمام ذلك يحصل برسم أمور:

الأول: الولاية على الشي ء جواز التصرف فيه بأي أنواع التصرف و عدم جواز الرد عليه- و هي قد تكون عامة، و قد تكون خاصة- و عمومها للمالك المعبود (جل و علا) و خصوصها يختلف بحسب الخصوصيات في الموارد، و الأصل يقتضي عدم ولاية أحد على أحد للترجيح بلا مرجح و هو ممنوع عقلا في النفوس و غيرها، خرج عن هذا الأصل ولاية من ثبتت ولايته شرعا أو عقلا عموما و خصوصا، ثمّ الولي أما أن يكون مستقلا بالتصرف بحيث لا يجوز لغيره التصرف فيما له التصرف فيه أو يجوز لغير ذلك، و على الأول فهل يجوز له الأذن للغير بجواز التصرف فيما كان أمره بيده مطلقا أو في بعض دون بعض أو لا يجوز مطلقا، و على الثاني فهل يلزم الغير الاستئذان في الولي في جميع تصرفاته، أو في مقدار معين؟ أو لا يلزم بل له التصرف إلا مع نهى الولي عنه بخصوصه؟ و على فرض لزومه الاستئذان، فلو تصرف فضولا أو جهلا أو نسيانا أو تعمدا بدون، الأذن ثمّ علم الرضا من الولي بذلك أو لحقته الإجازة منه، فهل ينفذ ذلك التصرف أو يبطل من اصله؟ فلا تترتب عليه الآثار مطلقا أو تختلف التصرفات باختلاف المقامات بحسب الأدلة و يرجع في المشكوك فيه إلى الأصول العملية و الإطلاقات أو غير ذلك من العلاج في مقام الحيرة.

فنقول: الاستقلال على خلاف الأصل فان ثبت عموما أو خصوصا اختص بمن ثبت له، و لا يجوز لغيره مزاحمته فيه و لو بإذنه كما انه ليس له الأذن عموما أو خصوصا لاحتياجهما إلى الدليل، و لا يجوز للغير التصرف بعد ثبوت الولاية لغيره على ما يؤيد التصرف فيه و مع الأذن يجوز بعد ان يثبت عند المستأذن جواز أذن الولي، و يقتصر على المورد المأذون فيه مطلقا أو مقيدا، و لا يحرم على الغير التصرف نسيانا أو جهلا. نعم لا تترتب الآثار لو انكشف الخلاف، و إذا تبينت الموافقة فالأصل عدم ترتب الآثار حتى يثبت كفاية الموافقة بدليل كل ذلك مما لا إشكال فيه. إذا تبين هذا فنقول: لا إشكال في ثبوت ولاية الولي المطلق من النبي (ص) و الائمة (ع) واحدا بعد واحد مطلقا بالأدلة الأربع في كل الأمور على سبيل الاستغراق، و لا ريب في ولاية الولي من قبلهم في خصوص الموارد أو في عمومها فان من جملة الأشياء اختيارهم في الاستنابة عنهم واحدا معينا أو غير معين كأن يقرنوا المستناب بصفة متى أحرزها ناب عنهم، كما انه لا يشترط تصرفهم بشرط أبدا، بل ذلك راجع إليهم فلا يعترض عليهم لو استنابوا من لا تصلح له الولاية أو عينوا في بعض الموارد في التصرف ببعض الأشياء غيرهم حتى ممن لا يتولاهم أو يعاندهم، فكان الأصل القاضي بعدم ولاية أحد على أحد في أمر من الأمور انقلب في حقهم فصار الأصل جواز تصرفهم في النفوس و الأموال و غيرها، و ولايتهم على جميع ذلك إلا ما أخرجه الدليل أو صدر الأذن منهم في أيكال التصرف فيه للغير عموما و خصوصا فللإمام" عليه السلام" بعد النبي (ص) السلطنة المطلقة على الرعية من قبل الخالق- و قد انهينا القول في ذلك في رسالتنا في الإمامة- فلا وقع لما قد يتراءى من كلمات بعض أصحابنا (رحمهم الله) من ان وجوب طاعة الامام مختص بالأوامر الشرعية دون العرفية فلا يلزم إطاعتهم فيها كقول آخرين (بعدم سلطنتهم على الأموال و الأنفس

ص: 155

مطلقا) فانه من لغو الحديث بعد ما ثبت بالعقل و النقل خلافه المقتضي لانقلاب الأصل الأولي و حينئذ فينتج مما حررناه اشتراط تصرف الغير بإذنهم في كل أمر من حيث أن لهم السلطنة المطلقة على الرعية فيشمله كل ما قضي من عقل او نقل من عدم جواز التصرف بما يعود للغير بغير أذنه. نعم ثبت بالضرورة جواز تصرف الغير في العاديات التي لا يتعلق بها حكم شرعي بدون إذنهم بل تحققت الرخصة منهم فيه قولا أو فعلا من الغير بمرأى منهم و مسمع، و اما ما يحتاج إلى الأذن فلا يجوز و لم تعلم الرخصة فيه منهم فيبقى على الأصل الثانوي و هو و ان كان خلاف الأصل الأولى إلا أن الدليل قضى به. و منه يظهر عدم جواز الاستقلال لغيرهم في المصالح المطلوبة للشارع التي لم يعين للقيام بها شخصا معينا من الرعية مما لم يعلم ان المراد نفس وجودها في الخارج من أي شخص اتفق، و أي سبب كان و ان وجدت و لو من الهوى فان علم بذلك، و وجدت خارجا سقط الأمر بها جزما و لا يحتاج إلى الرجوع إلى الغير في إيجادها، أما مثل الحدود و التعزيرات، و حفظ مال اليتيم، و إلزام الناس بأداء الحقوق، و رد الأمانة، و نحو ذلك فيلزم فيها و في أمثالها و ان كان مشكوكا في انه هل هو من الأشياء التي يلزم فيها الرجوع إليهم أو لا الاستئذان منهم و الرجوع إليهم؟ لأنه من جزئيات منصب الإمامة فلا حاجة إلى الاستدلال عليه بأنهم أولو الأمر و الولاية، و ما دل على وجوب الرجوع في الحوادث إلى رواة الحديث و غير ذلك، بل يكفي الدليل العقلي الناقل للأصل الأولي في ذلك كله، فاتضح بما حررناه ما في مكاسب شيخنا المرتضى في قوله: (لكن لا عموم يقتضي أصالة توقف كل تصرف على الأذن) فانه لا يجتمع مع جزمه بان لهم السلطنة على التصرف في جميع الأمور الذي مقتضاها توقف التصرف على الأذن مطلقا إلا ما خرج و إلا لتبعضت سلطنتهم و هو خلاف المفروض إذ لا مشارك لهم في ذلك و شركة الغير معهم نقص في الإمامة. نعم هناك تصرفات نقطع بعدم احتياجها إلى الأذن فتقتصر على المعلوم، و ندخل المشكوك فيما يجب الاستئذان في التصرف فيه، و لا يحتاج إلى الرجوع إلى اطلاقات أدلة تلك التصرفات أن وجدت على الجواز أو المنع و لا إلى الأصول العملية بعد إحراز أن الأمر كله لهم. و ان استقلال غيرهم في بعض الأمور و عدم الرجوع إليهم مناف لمنصبهم الإلهي فتدبر.

الثاني: انه بعد أن ثبت أيضا جواز استينابهم غيرهم و جعل الولاية و السلطنة منهم لما سواهم في بعض الأشياء، و صدور الأذن منهم لنوابهم بالتصرف بحضورهم و في غيبتهم مع اقترانه بالأوصاف التي تدور النيابة على المتصف فيها وجودا و عدما، و قد ذكر الأصحاب (رحمهم الله) بملاحظة الأدلة القاطعة ثبوت الولاية في زمن الغيبة لأفراد معدودين في أمور معدودة لا مطلقا و ان كان في المولى عليه عموم أو إطلاق لبعض من جعلوا له الولاية، لكن لا بحيث يساوق ولاية الإمام أو يساويه، و هم فرق من الناس:

الفريق الأول: في ولاية الفقيه:

الفقيه الجامع للشرائط و لا ريب في تحقق ولايته في الجملة في زمن الغيبة و صدور الأذن له في التصرف في كثير من الأمور و نفوذ تصرفاته المرخص فيها، و عدم جواز الرد عليه و وجوب الرجوع إليه فيما له الولاية عليه ممن له السلطنة على التصرف و التسلط على أن يستنيب في الأمور من يشاء، و قد توهم بعض كلمات أصحابنا في أن ولايته عامة من قبل الإمام و انه بمنزلته، و قائم مقامه في جميع ماله التصرف فيه معتمدا في ذلك على النصوص الواردة في حق العلماء مثل: (

إن العلماء ورثة الأنبياء

) و (

إن

ص: 156

مجارى الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله و حرامه

) و قول الحجة" عليه السلام" (

أنهم حجتي عليكم

) و المرفوعة المشهورة و المقبولة المروية عن ابن حنظلة و غيرها و هي تقصر عن إثبات استقلالهم في التصرف و كونهم كالنبي (ص) و أوصيائه (عليهم السلام) و انهم أولى من الناس بأموالهم، بل هي مسوقة لبيان وظيفتهم في الرجوع إليهم فيما علموه من الأحكام التي يجب العمل بها، و توضيحه ان الأحكام الشرعية المرادة من العباد لا بد من إيصالها إليهم إذ لا تكليف إلا بعد البيان فتحتاج إلى مبلغ و هم بواسطة الرخصة ممن له التبليغ صاروا من المبلغين أو المترجمين لأوامر ذلك الواسطة الذي بين الله و بين خلقه، فكلما عرفوا العباد من ذلك الواسطة بلا واسطة شيئا من الأحكام، أو فهموا كلامه و تدبروه لزمهم العمل به، و ان أبهم عليهم أمره رجعوا فيه إلى من يترجمه لهم و ان خفي عليهم منه شي ء أيضا رجعوا إليه فيه، و لا تفيد تلك الأخبار إلا العمل بقولهم في الأحكام التي يرونها عن الواسطة الذي بين الله و بين عباده لأن العلماء اقرب إليه من غيرهم، و اعرف بفهم كلامهم، فهم بهذا المعنى مما يقضي بتعينهم العقل من دليل اللطف فضلا عن الشرع، فان كل سلطان إذا كلف الرعية بأوامر و تكاليف لا جرم أن يرجع في فهم محاوراته و معلومية إراداته إلى أمنائه و وزرائه ممن عنده ذلك الأقرب فالأقرب، فالأخبار مسوقة لبيان ذلك، و أين هي من كونهم لهم الاستقلال في التصرف و انهم أولى الناس بأموالهم؟ فغايته أن يخبروا عن رئيسهم بان لله تعالى في المال الفلاني الزكاة و له الخمس و يلزم صرفها في كذا، فيجب على من لم يعلم ذلك تنفيذ هذا الحكم، فلو طلب ذلك المال من المكلف لا دليل على وجوب دفعه اليه بمجرد هذه الأخبار بل لا بد له من الاستناد إلى خبر أخر يرويه عن ذلك الواسطة بوجوب ذلك عليه فيخرج عما نحن بصدده، على انه لو فرضنا العموم في ما ذكر من الأخبار لكان الخارج منها بالنسبة إلى العلماء اكثر من الداخل. فتلخص أن العمومات لا تفيد اكثر من كون العلماء لهم رتبة تبليغ أحكام الله (جل شانه) الى الناس، و تعريف حلال الله من حرامه من حيث تلقيهم ذلك من الواسطة الذي بينهم و بين الله تعالى و هو أوكلهم إليهم، و أما توقف تصرف الغير المتوقف على أذن الإمام" عليه السلام" على إذنهم ايضا فلم يثبت ذلك من النصوص و لا غيرها من الأدلة. نعم لو استنبط المجتهد ذلك من الأدلة لزم على مقلده العمل به أن لم يقطع بفساد المأخذ أن كان من أهله، و حيث أنك قد عرفت أن جل الأمور الحسبية و غيرها مما للشارع دخل فيها هي منوطة بنظر الإمام و تصويبه إلا ما قطع بعدم دخوله و ان إيجادها في الخارج بدون أذنه لا يجوز و لا يصح فحينئذ لا بد للفقيه من ملاحظة الأدلة و التمييز بين الموارد، فكل معروف قام القاطع على أن وجوده في الخارج مراد كيف ما اتفق فهو لا يحتاج في إيجاده إلى أذن الإمام" عليه السلام" و لا أذن نوابه و كل شي ء ثبت لزوم حصول الأذن فيه من العلماء فيلزم الاستئذان فيه و لا يصح بدون الأذن، لأنه شرط في جواز التصرف فيه فلا يصح مع فقد شرطه و أما غيره مما ثبت إناطته بنظر الإمام" عليه السلام" أوشك في ذلك يلزم تعطيله و عدم التصرف فيه لأنه مراد من موجد خاص، و ليس المطلوب مطلق وجوده فلو تعذر ذلك الموجد فلا عموم يقضي بقيام غيره مقامه. و الملخص أن المستفاد من التوقيع المروى في" الاحتجاج" و" الإكمال" و غيره مثل: (

أن السلطان ولي من لا ولي له

) و من جملة أخبار أخر: (

ان الفقيه منصوب في الجملة من قبل الإمام على سائر الرعية

) و لما كانت الوقائع على أقسام.

ص: 157

منها ما تحتاج إلى المبلغ و لا يتوقف نظام العالم عليها فقط هي مرادة للشارع و تلك كالأحكام الشرعية البدنية و غيرها مما فيه شائبة التعبدية، فلا ريب في وجوب الرجوع فيها الى الفقيه لتوقف التعبد فيها على الرجوع اليه واخذ حكم الله تعالى منه، و هذا مما لا ريب فيه.

و منها ما يتوقف نظام العالم عليه و للشارع تصرف فيه مثل المرافعات و قطع الخصومات و قسمة الميراث بين أربابه فيما به الخلاف، و أحلاف المنكر و غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها المعاش، و قد حدد الشارع لها حدودا لا يعرفها إلا الواسطة أو واسطة الواسطة فمثلها ايضا لا بد من الرجوع فيه إلى اقرب الوسائط، و ليس هو بعد الإمام إلا الفقيه فيلزم الرجوع اليه فيها ايضا عقلا و نقلا. و منها ما يتوقف عليه انتظام أمر الأمة و لا بد له من رئيس بحيث لا يكاد ينتظم بدونه، و لكن ليس للشارع دخل فيه غير إرادة إيجاده في العالم لا من موجد خاص. و نحن بعد التفكر في الأدلة عموما و خصوصا حصل لنا اليقين منها في وجوب الرجوع فيها إلى من يدور الحق معه، و ليس هو إلا الإمام فيرجع اليه في الأمور العامة مثل، اخذ الخراج، و تنظيم العساكر و قبض الغنائم، و تسوية الطرق، و حفظ الأموال و الأعراض، و تقوية المسلمين و غير ذلك مما يتوقف عليه انتظام سلطنة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بعده فمثلها لا شك بأنه من وظائف الإمام" عليه السلام" و لا يجوز لأحد أن يستقل به مع وجوده إلا بإذنه، و ان أمكن قيام الغير بها أو ببعضها فلا يجوز لأحد أن يولي أحدا على الناس أو يستقل هو بالولاية، و لا يجوز له قبض ما عين لمصالح المسلمين العامة و لا وضعها بمحل دون آخر، و لا أن يخص به فردا مخصوصا و لا غير ذلك إلا بإذنه و تصويبه لأنه المنصوب من الله بعد النبي (ص) فكل ما كان للنبي (ص) من الوظائف فهي له و حينئذ فهل يكون ذلك ايضا للفقيه في زمن الغيبة فله الاستقلال في جميع ذلك كما كان للإمام و لا يجوز القيام بها، أو ببعضها لغيره، و ان كان يمكنه إجراء الأمور على مجاريها، و وضعها في محالها و مع ذلك يلزمه الاستئذان من الفقيه فان استقل بها بلا أذنه فعل حراما و ضمن ما تصرف فيه، و ان وضعه بمواضعه بحيث لو اطلع عليه الفقيه لاستحسنه. و مثله ما لو كان تصرفه بحسب الظاهر أصلح لانتظام الأمر فان هذه الصلاحية لا تفيد مع مخالفته أو بدون أذنه أو لا يجب الأذن فيه مطلقا، أو مبعضا بحسب الأدلة، فكلما ثبت وجوب الاستئذان فيه من إجماع، أو سنة، أو غيرهما اتبع، و كلما شك فيه جرى فيه أصالة عدمه. يظهر من غير واحد من أصحابنا ان ذلك كله من وظائف الفقيه الا ما أخرجه الدليل و انه نائبه فكأنه هو في كلما لم يعلم من الإمام جواز إيكاله لغيره أو عزله عنه، و يظهر من آخرين عدم وجوب الرجوع اليه مطلقا إلا ما قام الدليل على الرجوع اليه فيه لان تنصيبه في مقام لا يوجب عموم الرجوع اليه و استئذانه، و ليس في الأخبار ما هو نص في ذلك بحيث لا يمكن انصرافها إلى بعض هذه الأمور و تورث المساواة من كل وجه، و متى لم تنهض بذلك و تبعضت الصفقة؟ بقي غير المنصوص عليه على الأصل الأولي فلعل في عدم توليته عليه خاصية يعلمها الإمام ككثير من الفوائد التي حرمناها حال غيبته" عليه السلام". نعم لا شك في انه أولى من غيره لو تساويا في الرشد، و المعرفة، و لا أظن أن هذه الأولوية توجب الرجوع اليه و استئذانه حينئذ، فيخصص الأصل فيها، لأنها ليست قطعية، و هذا أحرى في النظر باعتبار الدليل و لكن في النفس منه شي ء باعتبار فهم كثير من أصحابنا من تلك الأخبار العموم حتى انهم يلقوه إلقاء

ص: 158

المسلمات في بعض المقامات الغير منصوصة، و يحتجون عليه بخبر" الاحتجاج" و ما ضاهاه و لا يصرفون الحوادث إلى شي ء دون شي ء و قضية الاستنابة تقضي به و إلا لاقتصروا في بدلية التيمم على المنصوص، و لما أعلنوا بأن حكم البدل حكم المبدل مطلقا فكأنه هو و قاعدة الاحتياط ايضا تقضي به و الله العالم، و منها الأمور الحسبية التي يعلم بان نفس وجودها في الخارج مراد للمولى كإعانة المظلوم ورد الغيبة، و حفظ مال الغائب، ورد الأمانة و الوديعة إلى صاحبها و بذل الصدقة المندوبة و الرجوع إلى الظالم في إنقاذ الحق مع الحاجة اليه و تعذر الاستنقاذ إلا به لكن لا في مقام الترافع إلى القاضي، واخذ اللقطة بل جواز الالتقاط و المضي إلى دار الكفر مع الأمن على الدين للتجارة و غيرها، و مخالطة أهل الذمة في البيع و الشراء، و اشتراء المماليك المعلوم أسرهم من المسلمين.

و منها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بعد إحراز الشرائط غير التعزير و القتل فلا ريب في رجوع أمرهما إلى الإمام و صرح الشهيد في الدروس و غيره بجواز قيام الحاكم الشرعي بها من باب النيابة، و يظهر من جماعة عدم قيام الحاكم بها و من شيخنا في مكاسبه انه من خصائص الإمام و هذه الأمور و ان كان فيها ما لا يسمونه من الأمور الحسبية لكنها ألحقناها بها حسبة فلا يجب فيها و في أمثالها مما يكون مشروعية إيجاده في الخارج مفروغا منه حتى لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية و لا يلزم الرجوع إلى الفقيه إلا إذا اشتبه الموضوع.

و منها الولاية على مال الغائب بالبيع و الشراء و فسخ عقده الخياري، و كذا مال الصغير و تزويجه و المجنون مطلقا أو بعد البلوغ و الممتنع و المريض، المغمى عليه، و الميت الذي لا ولي له و غيرهم. و منه الحدود قيل، و قبض مال الخراج من الظالم و صرفه في مصالح المسلمين، و تبديل الوقف، و التصرف في الأعيان الموقوفة بنقلها من محلها إلى محل أخر لجهة الولاية، و التصرف في الأوقاف العامة، و صرف نمائها في المصالح العامة بحسب نظره و استمالة المخالف بدفع مال الصدقة المفروضة إليه و يجمعها ولايته على كلما هو قابل للولاية عليه و محتاج إلى متصرف فيه، و لا شك في ظهور بعض الأخبار بان ذلك من وظائف الفقيه و ان ولايته عليه ولاية إجبار لا من باب الإحسان، فيراعى فيه المصلحة مطلقا أو العائدة إليهم بل تصرفه ماض كتصرف من ناب عنه عليه، و نفوذه كنفوذ حكمه لا يناط بشرط غير ثبوته عنده و لو بعلمه، و قيل لا بل تصرفه في أمثال ذلك يحتاج إلى مراعاة المصلحة، فان انكشف الخطأ انتقض و لم يترتب عليه الأثر، و ربما قيل بالضمان فيتحالف في ذلك ولاية الإمام و تساوى ولايته ولاية غيره ممن لا ريب في مراعاة المصلحة في ولايته، و إليه نظر شيخنا في مكاسبه حيث ذكر: في معنى الرواية المرسلة (

أن السلطان ولي من لا ولي له

) أن المثبت و المنفي في الرواية هو الولي للشخص لا عليه بمعنى: أن احتاج إلى معونة غيره يجوز لغيره القيام بمصالحه، و ينبغي أن يكون ذلك القائم هو السلطان فتقرن ولايته بالمصلحة من حيث قصر المتولي لا أن ولايته ولاية إجبار لا أناط بشي ء كولاية المالك على ملكه و ان كان ظاهر الولي يوهم ذلك و هو حسن غير أن هذا لو جرى في الرواية لجرى فيمن (

كنت مولاه فهذا علي" عليه السلام" مولاه

)، أي من كنت وليه فيما يحتاج إليه فهذا علي" عليه السلام" وليه فلا تنهض حجة على ما تدعيه الإمامية من ظهور الخبر بالولاية الإجبارية على العباد المنتج للمساواة من جميع الجهات، بل ظاهره انه له الولاية على من لا ولي له لا انه كأحد القائمين بأموره فلو حصل من يقوم بأموره ليس للسلطان عزله عن الولاية على أموره مع علمه بأنه لا يفعل إلى ما يعود نفعه إليه،

ص: 159

كما هو مفاد ما ذكره شيخنا (رحمه الله) فانه خلاف ظاهره إذ مفاده و الله العالم أن السلطان أولى به من كل أحد و لا يجوز لأحد مزاحمته فتأمل.

الفريق الثاني: في ولاية الأب و الجد:

اشارة

ولاية الأب و الجد- و ان على- على قول، و سلطنته على بضع البنت، و تزويج الابن، و العقد لهما و على التصرف بمال الطفل بالبيع و الشراء مع وجود الحاكم الشرعي و عدمه، بل لا ولاية له مع وجودهما، و أما مع عدمهما في النكاح و الأموال فله الولاية لكن على نحو خاص لا مطلق كما كان ذلك لهما فهنا فصول.

الفصل الأول: في أولياء النكاح:

إن الولاية في النكاح و غيره فيما ثبتت فيه الولاية على الصغير، و المجنون مرتبة بالاتفاق فيقدم الأب و الجد على غيره مطلقا ثمّ الوصي لا مطلقا، ثمّ الحاكم بشروطه، ثمّ عدول المؤمنين على رأي و في المملوك تنحصر بالمولى، إما الأب و الجد فولايتهما ثابتة في الجملة فيما يعود إلى مصلحة الولد و هم أحق به من غيرهم، ثمّ الولد اعم من الذكر و الانثى، و الصغير و الكبير، و الغائب، و الحاضر، و الولاية اعم من ان تكون في مطلق المال أوفي النكاح أو في القصاص، أو في العفو عن المهر، أو التأديب، أو التعزير و غير ذلك. اعلم أن الأبوة لها قدر عظيم و مقام عال و شأن بليغ، و ان الله تعالى أمر بإطاعة الوالد و عدم الرد عليه و ان عقوق الوالدين من الكبائر، و هو أول العقبات و يكفي فيه [وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا] [فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لٰا تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلًا كَرِيماً وَ اخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً]، و من السنة ما لا يحصي بيراع فحينئذ ولاية الأب و في معناه الجد على الابن و ان نزل في جميع الأمور، و لزوم اطاعته في غير المحرم مما لا ريب فيه بل و عقوقه ميتا كعقوقه حيا- أعاذنا الله تعالى من ذلك- و مقتضى ذلك عدم استقلال الولد مطلقا بأمر من الأمور، و يحرم عليه مخالفة الوالد في جميع الأحوال فهو بمنزلة المالك للولد فيجري فيه جميع ما للمملوك من الأحكام، لكن حيث ثبت الخروج عن هذا العام في مواد مخصوصة، فيلزم ان نقتصر عليها و نجري على غيرها أحكام المملوكية، و لا ينافيه ما قضى (بان الحر الكامل املك بأمره من كل أحد) فانه مخصوص بما ذكرنا. نعم قام الإجماع، و وردت النصوص في عدم سلطنة الوالد في جملة من الأمور فيلزم الاقتصار عليها و اندراج غيرها مما اشتبه و وقع الخلاف فيه في العموم المستفاد من الكتاب، و السنة المزيل لأصالة عدم سلطنة أحد على أحد، و وارد عليه فلا معارضة بينهما كما لا يخفى فمن الموارد عدم استقلال البكر البالغة الرشيدة في النكاح مطلقا من حيث ولاية الأب على الولد مطلقا كما ذكرنا لا لاستصحاب الولاية حال الصغر و فساد العقد بدون رضاهما لتبدل موضوعه، لو قلنا به بناء على ان قيود الموضوع المستصحب لا بد من تحققها جميعا حين الاستصحاب بل لأصالة عدم اختيارها في النكاح مع وجود من له الولاية عليها في الجملة، لكن مع ذلك وقع الخلاف بين أعاظم أصحابنا في خصوص هذه المسألة، بعد ذهاب أكثرهم إلى استقلال الثيب في النكاح و ان لا ولاية حتى للأب و الجد عليها، و الباعث على الخلاف اختلاف النصوص و الفتاوى و هو كذلك فالأصل و الاستصحاب الجاريان في المقام غير

ص: 160

سليمين عن المعارض لا اقل من معارضة بعض العمومات و المطلقات السالمين لهما عن التخصيص، و من هنا ذهب جماعة و نسب للأشهر القول باستقلالها و عدم توقف نكاحها على اذن الأب و الجد للاصل و لآيتي (نفي الجناح) و آية (نفي الفصل)، و ان المراد في ان يتراجعا التراجع في العقد، لأن الرجعة من عمل الزوج و لكثير من السنة و فيها الصحيح المعتبر، ففي رواية الفضل (رحمه الله) الموصوفة بالصحة عند الجميع المرأة من ملكت نفسها غير السفيهة، و المولى عليها ان تزويجها بغير ولي جائز و هي اصح روايات الباب و اقواها فان سلمت من الدغدغة فالحكم كذلك و وجه الاستدلال بها: ان المراد من (و المولى عليها) خصوص المال لا هو و التزويج و لا التزويج فقط، و إلا للزم لغوية المحمول لأخذ الحكم حينئذ في الموضوع لأن (غير) و ما بعده إما صفة موضحة، أو بدل، أو عطف بيان، أو لمحض الاستثناء. فلو اخذ في الموضوع ان غير المولى عليها في التزويج بعد أي فائدة في ان تزويجها بغير ولي جائز، و ليس هو إلا مثل قولنا: (زيد قائم قائم) لعود المعنى حينئذ من يجوز تزويجها بغير ولي يجوز تزويجها بغير ولي و استهجانه معلوم فيلزم اختصاص من ملكت نفسها مع قيوده أن من ملكت نفسها في معاملاتها و معاشها، و لم يكن عليها ولي في ذلك يجوز تزويجها بغير ولي- و ان كانت باكرة- و يرشد اليه خبر زرارة و ابي مريم و موثقة البصري، و صحيحة ابن حازم، و خبر سعد، و العراقيان مضافا الى اعتضاد ذلك كما قيل: بالشهرة. و تنظر في الجميع جماعة فالأصل بأن المراد به اما أصالة عدم سلطنة الأب، و اختياره و عدم ترتب الأثر على فعله او أصالة جواز نكاح البنت و هما معارضان بثبوت الولاية له في الجملة، فخروج البكر البالغة و اختيارها في التزويج محتاج الى الدليل على رفع ولاية الأب أو انه حكم شرعي، و الأصل عدمه حتى يثبت، و أما الآيات فلا يكاد يظهر منها الإطلاق المدعى بل غايته جواز التزويج و ان توقف على شرط آخر لا مطلقا و الا لكانت معارضة لكل شرط بالنكاح على ان التقيد بالمعروف في احدها قد يستظهر منه الايماء الى الشرط للشك في التزويج بغير اذن الولى انه من المعروف مع انها واردة في المعتدة، و المعتدة هي المدخول بها كآية (العضل) و آية (حَتّٰى تَنْكِحَ) و لو سلم شمولها حتى للباكر المطلقة ثلاثا فتزويجها بالمحلل ايضا مشروط، و بعد المحلل تكون مدخولة. و الحاصل لا شمول فيها بحيث تطمئن النفس به، و أما صحيحة الفضل فالظاهر إنها لا دلالة فيها على المطلوب لانها غير مسوقة لبيان: ان البكر البالغة لا ولي عليها في النكاح بل لبيان ان من لا ولي لها يجوز نكاحها بغير ولي في قبال من ينفي النكاح بدون ولي، و لو فيمن لا ولي لها عملا بما اشتهر من النبوي (

انه لا نكاح إلا بولي

) فلا فرق بين ان نقول ملكت نفسها في معاملاتها او في نكاحها أو الأعم و لا يلزم الاستهجان فهو لرفع توهم المخاطب ان من ملكت امرها تبقى معطلة من حيث انه لا ولي لها، و لا تنكح الا بالرجوع الى ولي من لا ولي له فرفع الإمام ذلك، و جوز نكاحها بغير ولي فلا يلزم ان يتحرى لها ولي لكي تنكح- كما هو ظاهر النبوي- فهي مسوقة لبيان حكم آخر، و يمكن ان يراد (بغير المولى) أي من ليس لها اب و لا جد سواء كانت بالغة أو لا، لانها ممن ملكت نفسها فانه ليس ما بعد من ارادة البالغة ممن ملكت نفسها لا اقل من احتمال الامرين و معه تسقط عن الحجية في خصوص المتنازع فيه، و أما باقي الأخبار فمدخولة سندا أو دلالة لكن فهم اكثر الأصحاب (

من ملكت أمرها

) أي أنها بالغة رشيدة غير مولى عليها في سائر العقود و الإيقاعات، و يلزم من زوال الولاية عنها فيهما زوالها في النكاح مما يوهن ما احتملناه فيها بقرينة رواية

ص: 161

زرارة عن أبي جعفر" عليه السلام" و فيها: (

إذا كانت المرأة مالكة امرها تبيع و تشتري و تعتق و تتزوج ان شاءت بغير ولي

إلى أخره ففسر (المالكة لامرها) بما ذكرنا و ان احتمل ان يكون (تبيع) و ما عطف عليه خبرا ثانيا، فيتعين تفسير المالكية فيها بالخلو عن الولي بالنكاح فقط لا بالبلوغ و الرشد، و ان تبيع و ما بعده للاحتراز عن السفيهة مع جريان ما احتملناه في سابقتها فيها الا انه مع ذلك ففهم الأصحاب للرواية مما يرجح الاخذ بما فهموه من معناها. نعم يمكن تقييد اطلاق الصحيحة في احدهما و هو تزويج الباكرة البالغة بلا ولي بالمعتبرة المصرحة بأن ذات الأب الباكرة لا تستقل كصحيحة محمد، و فيها: (

و ليس لها مع الأب امر فهي البالغة و الا فالصغيرة ليس لها الامر المطلق حتى مع غير الأب

) فهو قرينة على المطلوب، و موثقة البقباق، و صحيحة ابن الصلت عن البكر: (

اذا بلغت مبلغ النساء أ لها مع ابيها امر قال: لا ما لم تثيب

) و حسنة الحلبي، و رواية عبيد و فيها: (

و اذا كانت ثيبا هي أملك بنفسها

) و رواية ابن ميمون، و رواية أبان، و صحيحة ابن أبى يعفور: (

لا ينكح ذوات الآباء من الابكار إلا بإذن آبائهن

) فان مفهوم الاستثناء انهن ينكحن بإذن آبائهن العاري عن إذنهن و صدر رواية ابن أبى مريم، و رواية تزويج الجواد" عليه السلام" و صحيحة الحذاء، و غيرها مما يدل منطوقا و مفهوما على المطلوب مضافا الى الاستصحاب، و عدم اختيارها في التزويج و عموم [وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰامىٰ] و الذي بيده عقدة النكاح و حينئذ يدور الامر بين تقييد الصحيحة و غيرها من أدلة المشهور، أو حمل ما لا يقبل الحمل منها على الصغيرة على تأكد الاستحباب أو القول بالتخيير في مقام التعارض حيث لا علاج فيوهن الأول ان تقييد المطلق ارجح من حمل المقيد على الاستحباب، و الثاني بعدم القائل به، و قد يتخلص عن الوصمة في الأول بان التقييد و ان كان ارجح لكنه مستلزم لطرح ما لا يقبل التقييد بما ذكر و لا بغيره، مثل مرسلة سعد عن الصادق" عليه السلام" (

و لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن أبيها

) و مثل النبوية الذي فيها (

و لكن؟ أن أعلم الناس أن ليس للآباء في أمور بناتهم شي ء

) و مثل ما ورد في جواز التمتع في البكر بلا إذن أبيها مع عدم القول بالفصل، بل العار في الثاني عظيم فاذا جاز فالأول بطريق أولى. و الحاصل ان هذه الصراح المنجبرة ترجح ارتكاب الاستحباب في استئذان الأب على التقيد لا اقل من المساواة بينهما، فالمرجع قاعدة الصحة المستفادة من العمومات إلا ان يقال (ان المعتبر منها غير آب عن التقييد و الآبي غير معتبر لكنه بعد عمل من لا يرى العمل بخبر الواحد فيها كالسيد و الحلي مع بعض المرجحات الأخر لا محيص عن حمل المعارض على الاستحباب، فظهر مما غبر قوة القول بالاستقلال و ان كان الاحوط و الأولى عدم استبدادها و استئذان ابيها (و ان استقوى استقلال أبيها الشيخ الصدوق و العماني، و كثير من المتأخرين، ثمّ ان بعض من أعوزه الترجيح ذهب إلى التشريك في الأذن فلا يصح النكاح بإذن أحدهما دون الآخر و هو و ان وافقه الاعتبار و قضى به الاحتياط، و مال إليه بعض المحققين و فيه جمع بين بعض الأخبار مع بعض، و عليه شواهد منها مثل استشارة عبد الرحمن موسى بن جعفر" عليه السلام" في تزويج ابنته لابن أخيه فقال: (

افعل و ليكن ذلك برضائهما إلى آخره

) و غيرها لكنه لقلة القائل به لم يكن لنا جرأة الإفتاء به، و على القول به الظاهر انه لا فرق بين الأب و الجد لأن الجد أولى من الأب فاعتبار اذنه يستلزم اعتبار اذن الجد فلا وقع للقول بعدمه، و ان قيل به و الانصاف انه لو لا عدم ظهور القائل بالتخيير لكان متجها لمتانة دليله، فانه المرجع في التعارض، بل

ص: 162

قد يقال به اذ عليه لا تعارض بين الاخبار، لأن منها ما يدل على كفاية نكاح البالغة الرشيدة من دون استئذان و لا أشعار فيها بعدم كفاية نكاح الأب. و منها ما يدل على تجويز نكاح الأب و لا دلالة فيها على عدم جواز استقلال الباكرة به، و لا منافاة بين الحكمين فحالهما كحال الأب و الجد بالنسبة الى الصغيرة، و بعض الاخبار و ان ظهر منها الاستقلال لكل منهما الا انه يمكن التصرف فيها بأحسن وجه، و لو لا ان احتمال الاجماع المركب على خلافه من حيث ان القول باحدهما لا يجتمع مع القول باستقلال الآخر بالاجماع المركب لكان القول به متجها بحسب الدليل. و يظهر مما ذكرنا ضعف القولين المفصلين بين المتعة و الدوام باختصاص الاستقلال في المتعة دون الدوام و عكسه، اذ لا شاهد له و ما تخيل من الشاهد عليه ممنوع. ثمّ ان الظاهر انها لو ذهبت بكارتها بلا تزويج فحكمها حكم الباكر و لو عضلها الولي استقلت به في المشهور و هو الحجة لا لنفي الضرر و العسر و الحرج لا خصيته من المدعى، و لو رفعه بالرجوع إلى الحاكم و لو عضلها عن بعض الأكفاء دون بعض مع رغبتها فيمن منعت عنه لا خيار لها، و الغيبة المنقطعة بحكم العضل على الأقوى.

الفائدة الخامسة و الخمسون (في مشاركة الأب للجد في الولاية):

بناء على الولاية لا يشارك الأب في ولايته حيث تثبت أحد من الأقارب إلا الجد بلا شبهة، كما علم في صدر المسألة خصوصا على الصغيرين في النكاح من دون إشكال، و به صرحت المعتبرة بل الإجماع عليه محصلا و منقولا، و لا يضر اختصاص بعضها بالصغيرة، لأنها مورد السؤال و لوجود الصغير في غيرها و لعدم القول بالفصل، و طرد الحكم بعض في أب الام و أب أم الأب و لكن الاحتياط بل الاصل يقضي بعدمه، و في سقوط (ولاية الجد بموت الأب قول معروف بين القدماء) كالصدوق و الشيخ و ابن زهرة و حمزة و غيرهم لأنه القدر المتيقن مما خالف الأصل من حيث اختصاص نصوص ولايته بما اذا كان الاب حيا، و بخصوص السقوط رواية ضعيفة في الدلالة لا في السند و ان اشتملت على ابنى سماعة، و هما واقفيان لكن وثقهما غير واحد فلم يكن فيهما ضعف اصطلاحا و لمفهوم موثقة البقباق، و فيها: (

اذا كان بينهما

) و قال بعدم السقوط جماعة، و نسب للاكثر للاستصحاب، و كونه اقوى من الأب عند التعارض ورد المفهومين و أن كان مفهوم الشرط حجة يكون الوجه فيه التنبيه على الفرد الأخفى في الخبرين، و استدلوا ايضا بأن الذي بيده عقدة النكاح هو ولي امرها كما في صحيحة ابن سنان، و الظاهر ان المفهوم يزيل حكم الاستصحاب كالمنطوق و كونه اقوى اجتهادا و الرواية يقيدها المفهوم و في الجميع نظر ظاهر، و كيف كان فلو زوج احد الوليين الصغيرين فلا خيار للصبية بعد البلوغ بلا خلاف، و ما ورده مما يوهم ان لها الخيار مؤول أو مطرح، و كذا الصبي في الاشهر، و عليه عمل الأكثر لأصالة الصحة في عقده بعد طرح ما تعارض من النصوص في ثبوت خياره و عدمه مع امكان التصرف فيها بحيث توافق الأشهر. نعم لا بد من الاقتصار على ما دل الدليل عليه فان الأصل عدمه صحة التزويج بدون الرضا مطلقا خرج منه الولي الإجباري على الصغيرين مع المصلحة، أو مع عدم ظهور المفسدة لا مطلقا و حينئذ فالتزويج بالكف ء بمهر المثل لا شك في نفوذه، و لا خيار لهم أو لاحدهما بعد البلوغ فيه، إما لو فقد احدهما بأن زوجاها بغير الكفؤ فاستظهر الاستاذ في مجلس المذاكرة (ان للصبية

ص: 163

الاعتراض بعد البلوغ سواء كان بمهر المثل أو لا و سواء كان مع المصلحة ام لا عملا بشرطية الكفاءة في لزوم العقد الصادر من الولي مطلقا لانصراف ما دل من نصوص الولاية إلى التزويج بالكف ء بحكم الغلبة الملحقة للنادر بالمعدوم فيعود الولي فضوليا، و لها رده بعد البلوغ و لو فقد مهر المثل و حصلت الكفاءة فالظاهر ان لزوم النكاح و عدمه يناط بمراعاة المصلحة فليس لها الاعتراض مع كون الأصلح لها ذلك لا في العقد و لا في المهر لعموم اخبار الولاية بالنسبة إلى العقد و لجواز تصرف الولي باموالها بالنسبة إلى المهر، فاذا جاز له ابراء ذمة الغير للمصلحة من دين الصغير و العفو عن صداقها فبالأولوية القطعية يجوز له تقليل مهرها اذا ظهر الصلاح، بل و ان كان لا لمصلحة على الاقوى لما تقدم من ان ولاية الأب و الجد كولاية المولى على العبد، و لذا اجيز تزويج الأب لها و ان كرهت كما في الخبر، و يرشد إليه جواز عفوهما عن نصف المهر: (

و لانت و مالك لابيك

) فليست ولايتهما كولاية الحاكم من باب الحسبة، و يراعى فيها الغبطة فلا وقع لتوهم انصراف إطلاقات الولاية بحكم الغلبة إلى التزويج بمهر المثل لا بالأقل منه الا للمصلحة بل يمضي لمجرد خلوه عن المفسدة اللهم الا ان يقال بظهور المفسدة في مثله من حيث ان الصبر على نقصان المهر ضرر على المرأة و هو منفي، و النكاح لا يخلو عن جهة المعاوضة للبضع بالمهر فيجبر هذا الضرر بثبوت الاعتراض لها في المهر خاصة دون العقد و لا بأس بالتفكيك بينهما و ليس هما شي ء واحد متى جاز لها الاعتراض في احدهما جاز في الأخر للتلازم بينهما، فكما إن العكس لا يمكن بان يكون لها الاعتراض في العقد دون المهر فالطرد كذلك فعلم أنهما امر واحد شخصي لا تبعض فيه اذا تزلزل احدهما تزلزل الآخر، و نسب لثاني المحققين في جامع المقاصد ان الأنسب في القواعد ثبوت الخيار للولي في العقد، أو الصداق بالنسبة إلى العبد المأذون لو تزوج بأكثر من مهر المثل أو المأذون فيه و لا يبقى الزائد في ذمة العبد، و يصح الزواج خلافا لمن قال به فما هو إلا لعدم التفكيك بينهما و ليس الرافع من الولي في الخارج أمرين للمرأة و لها الاعتراض في أحدهما دون الآخر بل هو أمر واحد و الا لصح إجازة اصل العقد في الفضولي دون المهر، و رده إلى آخر مغاير للمسمى قدرا أو عينا و منشؤه عدم قبول احد المتعاقدين لا أمر آخر. نعم يمكن ان يصح النكاح و يرجع بالمهر إلى مهر المثل في بعض الصور فيما اذا سبب البطلان غير عدم قبول احد المتعاقدين، و أما معه فلا، و لأجل ذلك ينتفي صحة الاعتراض لها في خصوص المهر بل ان ثبت لها الاعتراض جرى في العقد و المهر، و إلا فلا فيهما، و هذا توهم فاسد لما عرفت من لزوم التزويج الواقع من هذا الولي من جهة سلطنته على البضع كسلطنة من لا ولي لها على بضعها، و كسلطنة المالك على بضع مملوكه لا يناط بالمصلحة كغيره ممن له الولاية من باب الحسبة و الغبطة فدليله شامل لما نحن فيه، و لا انصراف فيه لغير محل البحث لكن حيث لزم الضرر المنفي في الصبر على الاقل من مهر المثل جبرناه بخيارها بين الرضا به أو الرجوع إلى مهر مثلها و النكاح، و ان كان فيه جهة المعاوضة لكنها ليست محضة بحيث يلزم من عدم إمضاء أحد العوضين رد الآخر بل يمكن التفكيك فيلزم النكاح دون الصداق المسمى في العقد في كثير من المقامات فإذا خلى التفكيك من المفسدة بقي العقد على لزومه و جبرنا الضرر بجواز الرجوع لما سوى المسمى و لو كان الواقع في الخارج امرا واحدا لاستحال التفكيك المزبور مع انه لا يستحيل في الشرع الحكم على العقد باللزوم و على الصداق بعدم الصحة فجمعنا بين ما قضى بلزوم العقد و نفي الضرر، و لا يقاس ذلك بالفضولي لأن التفكيك هنا قضى به الدليل كما قضى في غيره مما تصرف الشارع به من ثبوت النكاح دون المهر،

ص: 164

و لا يجري ذلك في كل نكاح بل الوحدة مسلمة فيما لا دليل على خلافه لانه انشاء واحد ان اجيز جاز و ان رد رد لكن هذه الوحدة لا تورث المنع عقلا أو شرعا بعد قيام الدليل على خلافها كما هنا من جهة ادلة نفي الضرر و هي لا توجب إلا ما يرتفع به فلذلك قصرنا الاعتراض لها عليه لارتفاعه به إلا ترى لو قال البائع: (بعتك هذا بهذا) فقال المشتري: (قبلت نصفه بنصفه) لا يثبت له بيع النصف، و لا يستحق البائع البدل و ما هو إلا لاجل ان القبول لا يطابق الايجاب، لان الايجاب انشاء واحد لم يحصل قبوله من القابل، و لا كذا لو بيع الكل بالكل فتبعضت الصفقة بخروج نصفه مستحقا للغير فانه يحكم بلزوم البيع في النصف الآخر، مع أن العقد غير قابل للتبعيض لانه انشاء واحد، و كذا في مسألة تزويج العبد الماضية فانهم يحكمون بأن التزويج بحاله و التعدي انما كان في الزائد على مهر المثل، و يحتمل في كيفية اختيارها في المهر امران التسلط على الفسخ و الرجوع إلى مهر المثل أو الرجوع بالزائد على المسمى فقط. و تظهر الفائدة فيما لو كان المهر عينا فانها ترجع إلى المهر في ذمة الزوج، و لا تجبر على اخذ العين على الاول و يلزمها قبول العين، و ترجع بالزائد على الثاني، نعم لو قبلت تلك العين و قنعت بها برأت ذمة الزوج كمن رضا بالمعيب المبيع من دون ارش. و الظاهر ان للزوج قهرها على اخذ العين و اعطائه ما يتم به مهر المثل، و ليس لها الامتناع من ذلك من حيث تملكها للعين- اذا كانت صداقا- على الثاني غايته ان لها الرجوع عليه فيما اشتغلت به ذمته، و هو الزائد لا تمام الصداق و عسى ان يكون له وجه، و منه يظهر انها لو عاوضت عليه أو نقلته بعد المطالبة مضى ما صنعته و لا يسقط باقي صداقها و ليس للزوج استرجاعه لو حكمنا بالثاني لا بالفسخ و على أي الامرين لو اعترضت المزوجة و ألزم الزوج بمهر مثلها فهل له الفسخ لعقد النكاح؟ لأنه انما اقدم على النكاح بالمسمى و دفع الزائد عليه مع عدم خطوره بباله ضرر منفى أيضا فيجبر بتسلطه على فسخ النكاح ام لا يسعه ذلك، و ليس له الخيار أو يفصل بين حالتي العلم و الجهل فمع علمه بالحال، و ان لها إلزامه بمهر المثل لو اعترضت يغرم و لا ينفسخ النكاح، و أما مع الجهل ينفسخ لانه مغرور و فيه ضرر عليه لكل وجه من أصالة لزوم العقد و عدم الدليل على الخيار، و بذل ما يتم به مهر المثل لا يعد ضررا لانه قيمة المثل للبضع و من ان الزامه باكثر مما أقدم عليه ضرر يجبر بالخيار، و التفصيل غير بعيد مراعاة للضرر و لها الاعتراض لو زوجها بالكف ء و مهر المثل للمجنون أو الخصى أو العنين أو الغائب غيبة منقطعة للضرر و لعدم شمول ادلة الولاية للمفروض و هو الحجة لا ما تخيله البعض من ان العيب مع الجهل موجب لفسخ النكاح و فعل الولي حال الصغر بمنزلة الجهل فانه ممنوع لأن الولي عالم و هو بمنزلة المولى عليه اذا كان عالما فيجري فيه حكمه من عدم الجواز مع العلم فما دل على الفسخ باحد العيوب مختص بما اذا جهل الزوج لا بما إذا علم الولى، و مع ارتفاع الضرر بما اذا حصل بالمرأة أحد العيوب أيضا و لم يحصل لها كفؤ سوى المعيب لا يبعد الصحة اذا كان التزويج أصلح لها، و اشتهر تقديم اختيار الجد لو زاحمه الاب في الكفؤ للصحيحة و الموثقة فان عقد قدم السابق و يقدم عقد الجد في الاقتران لصحيحة هشام، و في تقديم أب الجد عليه وجه غير وجيه لعدم النص لأن القريب اولى بحكم الآية خرج منها الجد مع الأب و بقي غيره.

ص: 165

الفائدة السادسة و الخمسون (في ولاية الجد و الأب على أموال الصغير):

اشارة

للجد و الأب الولاية على مال الصغير بالبيع و الشراء و ان كانا غير عادلين للنصوص المستفيضة و للإجماع، و لما تقدم من سلطنتهما على البضع ففحواه يدل عليها هنا كفحوى إجماع التذكرة على ولاية الفاسق في التزويج. و اشترط العدالة في المقام غير واحد لعدم أمانة الفاسق فلا يقبل إقراراته و أخباره عن غيره قيل، و لنص القرآن و المراد به آية (الركون) أو آية (النبأ) و كل محتمل، و لاستحالة أن يجعل الله الفاسق امينا، و كلها محل نظر لاندفاع المفسدة بمباشرة الحاكم لعزله، أو بجعل الناظر عليه و اختيار أحواله. و يشترط في تصرفهما عدم ظهور المفسدة لا مراعاة المصلحة كغيرهما، و قيل لا يعتبر في مباشرتهما شي ء. لنا المطلقات الظاهرة في سلطنة الوالد على الولد و كل ما ملك كما في رواية ابن يسار، و النبوي المشهور، و صحيحة ابن مسلم: (

ان الوالد يأخذ من مال ولده ما شاء

) و هذه و امثالها و ان قضت بظاهرها على عدم اشتراط تصرفهما بشي ء و هو خلاف ما ذهبنا اليه إلا ان التدبر فيما قضى باعتبار المصلحة في التصرف بمال اليتيم مطابقا للآية، و فيما مر بعين المصير إلى ما قلنا و عليه شواهد لو لا ذلك لكان المصير إلى عدم مراعاة شي ء أوجه لعدم صلاحية تخصيص ما دل على سلطنتهما من الآية و الرواية الدالين على اعتبار المصلحة لعدم استفادة ذلك منها و ان ظهر من بعضها العموم مثل قوله تعالى: (وَ لٰا تَقْرَبُوا* إلى آخره) فانها عامة حتى للجد و يتم في الأب بعدم القول بالفصل، و مثل رواية الحسين بن ابي العلا، و صحيحة الثمالي عن ابي جعفر" عليه السلام" و فيها: (

لا نحب ان يأخذ من مال ابنه الا ما يحتاج اليه مما لا بد منه ان الله تعالى لا يحب الفساد

) و ليس المراد من (لا نحب) الكراهة لمنافاته الاستشهاد بالآية فهي قرينة على ارادة الحرمة غير ذلك، و لأجله اطلق الحلي عدم جواز التصرف في مال الطفل الا بما يعود فيه صلاح المال قال: (و هذا الذي يقتضيه أصول المذاهب)، و استظهر غيره الإجماع على اعتبار المصلحة من دون استثناء لكن مع ذلك كله يلزم تقييدها بغير محل النزاع و المصير إلى الوسط لظهور بعضها فيه من جواز الاقتراض الذي لا يساوي التلف، و من جواز تقويم جارية الابن على نفسه لو لا هذا لكان المتجه استقلال الأب و الجد بالتصرف كاستقلال الولد فلا يشمله ما قضى بالمنع في غير الإسراف المنهي عنه حتى للمالك.

ثمّ ان الجد يمنع اباه من التصرف و لا يضر كونهما كالأب و لان آية (أولي الأرحام) تعين الاقرب، و ليس المراد منها يخص التفضيل مع الاشتراك في القرب بل هو نظير ان الولد أحق بالمال من الاخ فهو المتعين و ان ذهب جماعة إلى الاشتراك و يلزمهم اعطاء حكم الأب للجد الادنى، و حكم الجد للجد الاعلى لو فقد الاب.

الفريق الثالث: في ولاية عدول المؤمنين:

عدول المؤمنين فان لهم الولاية في الجملة غير أن الأمور الحادثة على أنواع:

منها ما يكون ايجاده في الخارج مطلوبا للشارع من كل احد لا بشرط.

و منها ما كان كذلك لكنه مشروط بشرط و هو ضربان:

الضرب الأول: ما يفوت بفوات شرطه.

الضرب الثاني: ما لا يفوت بفوات الشرط بل يلزم الشرط حيث يكون ممكنا و بتعذره لا يسقط المشروط. و ملخصه قيام غير الشرط مقامه عند التعذر.

ص: 166

و منها ما يريد ايجاده من جنس خاص أو نوع كذلك أو شخص بعينه و هو قد يكون مشروطا و غير مشروط على نحو ما سبق، و كل ذلك وارد في الشريعة المطهرة شيد الله تعالى اركانها بملاحظة حرام الله تعالى و حلاله الشامل للواجب، و المندوب، و المكروه، و المباح. و قد سلف في الفريق الثاني تفصيل القول في ولاية الفقيه عموما و خصوصا، و في أي حادثة اعتبرت و في أي الوقائع تعينت فلو فقد أو تعسر الوصول اليه فهل يسقط الامر بجميع ماله الولاية عليه أو لا يسقط؟ و مع عدم السقوط كلا أو بعضا فهل يعود المراد للشارع المقرون بالفقيه كفائيا؟ يلزم ان يقوم به كل احد او له من يقوم به في مطلق ما له الولاية عليه أو في أمور مخصوصة و ذلك القيام هل هو على جهة الوجوب المطلق أو الجواز أو يختلف ذلك بحسب المقامات؟ ينبغي التأمل في صور المسألة و العمل على ما يطابق اصول المذهب. و بالجملة ذهب المشهور إلى جواز تولى عدول المؤمنين لما هو مقرون تنظر الحاكم و مراد ايجاده في الخارج للشارع لا من خصوصه، لان المفروض مطلوبية وجوده للامر المطاع مطلقا و تعذر الفقيه أسقط اعتبار نظارته و اشتراط نظارته مطلقا لا في حال عدم تعذره ينافي ارادة وجوده مطلقا المعلومة لدى المكلف مطلقا و لو حين فقد شرطه. و بالجملة المعروف الذي اريد وجوده في الخارج منه ما يستقل العقل بحسن وجوده كحفظ مال الغير خصوصا اليتيم مع خوف تلفه، فانه يلزم مباشرته بمقدار ما تندفع به الضرورة على كل احد، و تسقط قطعا مرجوحية التصرف بمال الغير بدون اذنه بل تنقلب إلى الرجحان، و أما غيره مطلقا فيحتاج التصرف فيه إلى دليل يخصص حكومة العقل و الشرع بحرمة مباشرة مملوك من النفوس و العروض و النقود و غيرها بغير اذن مالكه، و لما قضى الدليل بالرجوع إلى الإمام أو نائبه الخاص أو العام في جملة الأمور التي تنتظم معروفا أخذنا به، و عند التعذر ينبغي عدم جواز التصرف لغيرهم من الآحاد و التولية، لأنه خلاف الأصل لكن فيما لا دليل عليه، و ما شك فيه و حينئذ فيحتاج تصرف غير الحاكم إلى نص عقلي أو عموم شرعي، أو خصوص في مورد جزئي، و حكم الشهيد في القواعد و الفوائد بجواز تولية آحاد التصرفات الحكمية عند تعذر الحكام لآحاد الناس الأعرف فالأعرف كدفع ضرورة اليتيم أو السفيه و المجنون، و استند للجواز بعموم (تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ) و الخبر: (

الله تعالى في عون العبد ما دام عونا لاخيه

) و (

كل معروف صدقة

) و استوجه جواز اخذ غير الحاكم الزكاة و الخمس من الممتنع و تفريقها في اربابها و كذا سائر وظائف الحكام سوى ما قام الدليل على مباشرة الحاكم له بنفسه غير عمومات ولايته كقطع الخصومة و غيرها بما مر، و بانه لو منع غير الحاكم من ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الاموال و هي مطلوبة لله تعالى لكن ذلك مع اليأس من الإمام أو نائبه و إلا وجب حفظها و دفعها اليه ليصرفها في وجهها و لا يصرفها غيره إلا مع اليأس على الفور في مصارفها لما في بقائها من التغرير و حرمان مستحقيه من تعجيل اخذه مع الحاجة اليه إلى آخر ما رام بيانه، و لم يذكر وجه عدم الجواز، لأنه قد استضعفه أو لوضوحه فان مجرد كونها من المعروف لا يوجب قيام كل أحد بها، و لا ينافي ذلك اشتراطها باذن الإمام أو نائبه أو الأب أو الجد مثلا كما هو في المرافعات، و اقامة الحدود، و مال الصغير و لا ريب من كون الكل معروفا، و وجه الضعف حرمان المستحق، أو تلف المال، أو صرفه في غير مستحقه، و كلها ممنوعة شرعا فيدور الامر بين ارتكاب التخصيص في ولاية الحاكم و بين حرمان المستحق من حقه و تعطيل المال و تعريضه للتلف أو دفعه لغير المستحق، و لا شك ان اطلاقات استحقاق المال و دفعها لأربابها أو لمن يوصلها اليهم كالزكاة، و الخمس، و مجهول المالك، و اللقطة، و غيرها. و ان خصصت بكون الدفع بنظر

ص: 167

الحاكم و عدم استقلال من بيده في التصرف فيه لكن القدر اليقيني هو ما اذا امكن الدفع اليه، و مع التعذر يعمل بتلك العمومات و المطلقات فيتصرف في المال و يدفع للمستحق حتى في حق الامام (أرواحنا له الفداء) لو تعذر الحاكم و علم الدافع ان رأى مقلده المتعذر ان يدفعه لآل عبد المطلب ممن يجب لهم الخمس، و ليس نظر الشهيد على الظاهر إلى تقييد عدم ولاية احد على مال احد أو نفسه بمجرد كون التصرف معروفا كما يظهر من مكاسب شيخنا (رحمه الله)، بل لعل نظره إلى ذلك و إلى عموم ما قضى باستحقاق المال المتصرف فيه لافراد معلومين الموجب لتسلطهم عليه لو لا المانع و هو توقف صرفه فيهم على نظر الحاكم مع وجوده، و ان تعذره لا يرفع ذلك الاستحقاق بحيث لا نصيب لمستحقيه فيه فلا مانع من قيام غير الحاكم فيه من افراد مستحقيه، لكنه لا يعم غيرهم إلا بدليل المعاونة فلا يرفع اليد من تلك الادلة، و تنظير شيخنا (رحمه الله) بعدم لزوم العقد الفضولي مع انه من المعروف قياس مع الفارق لأن عدم لزومه من جهة توقع حصول مالك العقد كعدم نفوذ التصرف فيما يعود إلى الحاكم مع توقع ملاقاته كما هو صريح كلام الشهيد (رحمه الله) فهو غير المفروض من جواز ذلك عند تعذر الحاكم أو تعذر الوصول اليه، أو فوت الوقت مع الانتظار كتجهيز الميت فالمعروف الذي يجوز التصرف في مال الغير المشترط بنظر فرد معين هو ما كان عند تعذر الشرط لا مطلقا فادلة المعروف حينئذ تجعله مأذونا به من الشارع، و كون المعروف هو التصرف في المال أو النفس على الوجه المأذون فيه من المالك، أو العقل، أو الشرع، يسلم في قسم من المعروف لا مطلقا و العقل و ان لم يوجب ذلك لكنه لا يمنع من القيام به و بانضمام أدلة المعروف اليه يحسنه، و كيف كان فليس الدليل القاضي بولاية الحاكم مع عدم وجود الامام بأقوى من الدليل القاضي بكفاية ولاية غير الحاكم مع تعذره، و امكان تصرف الغير الا فيما قضى به الدليل من دوران التصرف مدار وجوده في امر خاص مثل المرافعات مما كان موضوع الحكم فيها هو الحاكم فتدبر. ثمّ لو جاز تصرف غير الامام و نائبه فيه و وقع ذلك من غيرهما لا ريب ان للحاكم نقض ذلك التصرف ان وجد و لم يوافق نظره اذ تصرف غيره وجوبا أو ندبا ليس على وجه النيابة عنه كتصرفه بأذن الإمام، و لا على جهة النصب لفقد ما يدل عليه، و يتفرع على ذلك جواز مزاحمة الغير له ممن له اهلية ذلك التصرف، فلو وضع أحد يده على مال اليتيم أو غيره مما يجوز له التصرف فيه، و رأى الآخر المصلحة في رفع يد الاول جاز له ذلك ما لم يتحقق النقل اللازم من الأول لذلك المال، بل و مع تحققه مع بقاء العين و ظهور المصلحة في النسخ فحال الآحاد الذين لهم التصرف مع بعضهم بعضا كحال الأب و الجد من حيث جواز التصرف لكل منهما، و لا يجري ذلك في الحاكم الشرعي مع مماثله، لأن ولايته غير مشروطة بعدم مزاحمة مثله له و عموم ولاية الحاكم الأخر لا تقضي بجواز المزاحمة لمثله، و ان جاز له التصرف ابتداء فليس هو الا كالواجب الكفائي الذي يسقط عن الغير بفعله و ان ساغ له فعله ابتداء، و ليس يجري ذلك في غير الحاكم، لأنه غير مالك للتصرف بل مأذون فيه كغيره من باب الحسبة و دفع الضرر لا من باب الموضوعية و النصب بل كل حاكم ابتداء ينزل منزلة المالك المستقل، و بعد التصرف تنحصر الملكية فيه أما الأول فلجهة النصب، و أما الانحصار فلأنه شي ء وقع من أهله في محله فلا يصلح لغيره الاعتراض و التعرض له، فليس حال الحكام الا كحال نواب الامام مع حضوره من جهة عدم الاعتراض و المداخلة لواحد في عمل الآخر، و يؤمى اليه قوله" عليه السلام": (

اذا كان مثلك و مثل عبد الحميد

) فان معناه نفوذ ما فعل مطلقا حتى على مماثله

ص: 168

سواء زاحمه الغير ام لا، فلا فرق حينئذ بين الاستناد في ولاية الفقيه إلى التوقيع أو إلى عمومات النيابة، ضرورة ان عموم جعله حجة لا يشمل لما قام به الحجة الآخر و الا لسرى ذلك في الإمامين فهو و ان لم يجب ارجاع الأمر الحادث إلى خصوصه لكن لا يجوز مباشرة ما دخل فيه الآخر، لأن ذلك الارجاع لا يعم مثل هذه الصورة و الا لجاز للآخر نقض عمل الاول في العقود اللازمة ايضا، لأن له الدخول فيه ابتداء و خيال انه قبل التصرف الملزم من الاول يعود المتصرف فيه كالابتدائي بالنسبة إلى كل منهما إلا اذا تم لا معنى له بعد صدق تصرفه بوضع يده، و تحقق بنائه على مباشرته بحسب نظره و ان لم يفعل شيئا. و عليه فلا يجوز دفع وكيله لمثله و ان لم يتصرف الوكيل و لا يصح مباشرة عمل تصرف ببعضه دون بعض بل مزاحمة الاول مطلقا لا تجوز الا بالعزل لعروض احد أسبابه فان قيل ان هذا بعينه جار في الأب و الجد مع انه قبل تصرف احدهما بالعقد الملزم يجوز دخول الثاني فيه، و مجرد دخوله لا يكفي في منع الثاني فليكن الحاكمان كذلك لان كل منهما مشترك في الولاية على الدخول فيما عليه ولاية مع جواز مزاحمة كل من الأب و الجد للآخر، و ليست ولاية الفقيه تساوي ولاية الامام على الانفس و الاموال- كما سبق- ليكون الفقيهان كالإمامين، و يؤيد ذلك جواز تصدي المرافعة للحاكم الآخر مع دخول مماثله فيها قبل الحكم فلو اقتصرنا على التوقيع في النصب من دون ضم باقي أدلة النيابة اليه لما افاد المطلوب. قلنا نعم لكن ظاهر جعله حجة يصيره بمنزلة الامام فيما له الولاية عليه فدخوله فيه كدخول الإمام لا يجوز لغيره مزاحمته فيه لا قولا و لا فعلا فليس دعوانا انه بمنزلة الإمام مطلقا بل هو كهو فيما دخل فيه، فالعموم بالنسبة إلى المدخول فيه مما يجوز له ذلك لا بالنسبة إلى جميع ما للإمام" عليه السلام" الدخول فيه. و بذلك يظهر الفرق بينه و بين ولاية الأب و الجد اذ لا دليل يقضي بأن أحدهما كالإمام (ع) بالنسبة إلى ما دخل، بل غايته أنه يجوز لكل واحد الدخول و مجرده لا يورث عدم جواز المزاحمة. و أما التصدي للمرافعة من الآخر مع تصدي الأول لها فخارج عن مفروض المسألة، لأن وجوب الحكم فرع سؤال من له الحكم، فيجوز أن يسأله من غير الأول قبل حكمه، و يجوز إجابة الثاني له و ان تصدى الأول للمرافعة من حيث ان ذلك بيد المحكوم له فلا دخل له بما نحن فيه، كما ان الحاكمين ليسا كالوكيلين في ان أحدهما لا يمنع الآخر عن تصرف بني عليه الأول لو دخل في مقدماته، لأن دخول الوكيل فيما وكل فيه يتبع أمر الموكل عموما و خصوصا فكل توكيل يحذو حذو توكيل الإمام" عليه السلام" للفقيه بحيث يكون الزام كل واحد فيما وكل فيه ممضى و لم يظهر من الموكل إلا ذلك بان جعل كل واحد منهم بمنزلة نفسه كان حكمه حكم ما نحن فيه، فلا يجوز أيضا للوكيل الآخر الدخول فيما دخل فيه الأول و إلا روعي فيه الموكل عموما و خصوصا كما هو واضح و حينئذ لا يجوز مزاحمة الحاكم لمثله في كل إلزام قولي أو فعلي يرجع فيه إلى الحاكم فلو قبض مال اليتيم أو الغائب من شخص، أو عين شخصا لقبضه أو جعله ناظرا عليه فليس لمساويه مخالفة نظره لأنه كنظر الإمام" عليه السلام".

الفائدة السابعة و الخمسون (في عدالة الوصي):

اشارة

يشترط في ولاية ما سوى الامام" عليه السلام" و نائبه على ما هو من وظيفتهما شروط مستفادة من الاخبار و من مطاوي كلمات الاصحاب في بعض المقامات:

ص: 169

منها العدالة و الظاهر ان اشتراطها هنا لا على الموضوعية بل على نحو الطريقية مثل اشتراطها في قبول الخبر، و في المستأجر على العبادات البدنية، و في أمين الحاكم فمن عرف من نفسه أو تبين عند غيره انه لا يخون و لا يحابى في المال المقبوض له، و يصرفه في مواقعه جاز تصرفه فيه، و دفع الغير له ذلك و ترتب فعله عليه، لأن الواقع المتوقف عليها قد حصل بدونها و الحكم يدور مداره وجودا و عدما. و لعل ظاهر الفتاوى، و بعض الاخبار لا تنافي ذلك لكن يظهر من تعبيرهم بعدول المؤمنين، و من بعض النصوص التي تضمنت لفظ العدل الشرطية الذي ينتفي المشروط بنفيها. و تحقيق الحال ان تصرف غير الحاكم و الأب و الجد فيما كان من وظيفتهم و أمره لهم ليس هو من باب النيابة و التنصيب، و انما هو من باب الأبدية، و دفع الضرر، و إيصال المال إلى مستحقيه، و هو يحصل بتصرف العارف المأمون، و بظهور الصلاح و حينئذ فبأي طريق حصل هذا الوصف بالمتصرف جاز له ذلك، و صح ترتب فعل الغير عليه، و لما كانت معرفة المأمونية، و تصديق خبره يتوقف غالبا على عدالته فلا جرم ان تعتبر فيه طريقا فان ظهر ذلك للغير بدونها بعد أي داع إلى اعتبارها، و لا نص يقتضي باعتبارها هنا كاعتبارها في شهود الطلاق، أو امام الجماعة، أو غيرهما مما قضى فيه القاطع حينئذ لا فرق بين مباشرة ذلك العمل بنفسه، و بين فعل الغير المتعلق بفعله بعد ظهور الصلاحية فيما فعل، و لو اعتبرت العدالة موضوعا لحرم عليه ذلك، و على غيره كذلك و لا فرق بينهما فيقيد ما قضى باعتبارها لمطلقات أدلة فعل المعروف الشاملة باطلاقها، أو عمومها لمطلق العامل من دون اعتبار العدالة فيه إلا ان هذا لم يتحقق فيما نحن فيه لعموم آيتي (المعاونة على البر) و (القرب إلى مال اليتيم) و لعموم الاخبار المجوزة لفعل المعروف من فاعله، و لخصوص رواية ابن رباب و محمد و فيها: (

إذا باع عليهم القيم يأمرهم الناظر فيما يصلحهم و ليس لهم إن يرجعوا فيما فعله

) و موثقة زرعة و فيها قال: (

ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله إلى آخره

) و الثقة من يوثق به و ان لم يحرز رتبة العدالة، و هما مفسران لصحيحة محمد بن اسماعيل في قوله" عليه السلام": (

اذا كان مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس

) فيكون المراد بالمماثلة المماثلة في الوثاقة و ملاحظة مصلحة اليتيم، فيصرف بذلك كله ظهور اعتبار العدالة في صحيحة اسماعيل بن سعد في قوله" عليه السلام": (

و قام عدل في ذلك

) فيكون فيها بمعنى الثقة الذي يراعي المصلحة فحينئذ لا اشكال في مأذونية الفاسق لمباشرة هذا المعروف بنفسه مع قطعه بالقيام بها على وجهها بل هو مأجور و يسقط بهذه المأذونية الوجوب على الغير لو كان الواجب كفائيا من سائر الافعال لأصالة الصحة في عمله بعد حصول المأذونية له فيه، و لا يعارضها الا اعتبار العدالة موضوعا و قد عرفت سقوطه مثل: ما لو صلى على ميت و شك في صحة صلاته بعد اداء فعلها باذن الولي، و مثله قبول خبره فيما له الأذن في فعله لعدم مشروعية التبين فيما ملك الأذن فيه من الشارع مطلقا و إلا لما قبل اقراره بالنسبة إلى ما ملكه، أو كان مولا عليه و لتنقض باخبار الولي في مسألة الصلاة على الميت اذ لم يكن عدلا، و باخبار الأب و الجد الغير العادلين فيما يتعلق بالصغير، فلا وجه للإشكال بقبول خبره كما يظهر من شيخنا في مكاسبه. و أما ما يتعلق من فعله بفعل غيره فان علم ذلك الغير يكون فعله جرى على وجه المصلحة فلا بأس، و لا مانع من ترتب فعله على عمله، و ان تبين له العدم فاشكال من اغتفار الخطأ مع المأذونية لاشتباه العامل في صلاح ما عمل فيجري عليه حكم العمل الصحيح فلا بأس بترتب فعل الغير عليه الا ان يثبت للمباشر الخيار عند انكشاف الخطأ فتنفسخ المعاملة بغبن و شبهة،

ص: 170

و مع عدم الانكشاف يحكم بصحة علمه، و من ان ملاحظة الغبطة و المصلحة في مثل هذه الامور مرادة من العامل فينبغي إحرازها لمن يتعلق فعله بفعله، و احرازها بخبره لا يمكن لعدم قبوله من جهة فسقه في غير ما استثنى بدليله، فلا يجوز للغير الشراء منه إلا بعد احرازه للشرط، و احراز الغير للشرط يتوقف على العدالة فلا جرم من اعتبارها فيه، و في مكاسب الأستاذ (رحمه الله) ما ملخصه: (ان عموم أدلة القيام بذلك المعروف لا يرفع اليد عنها بمجرد تصرف الفاسق فلا يرتفع عن الغير وجوب اصلاح مال اليتيم و مراعاة الغبطة لأنه موضوع الحكم فاذا شك فيه الغير بقي الوجوب بحاله عليه و لا ينفع الحكم بصحة فعل الفاسق لجهة أصالة الصحة، لأن الصحة ليست موضوعا للحكم.

توضيحه ان القيام بالمعروف مراد من كل احد فلا يسقط بفعل الغير إلا بقاطع، و سقوطه بتصدي الامام" عليه السلام"، أو نائبه مطلقا و العادل مما قضى الدليل به، و أما سقوطه عن الغير- و ان قام الفاسق به- و جاز له ذلك فمشكوك فما دل على لزوم القيام باق بحاله لا يرفعها أصالة صحة فعل الفاسق كما لو شك المشتري في كمال البائع، مضافا إلى اعتبار العدالة في الصحيحة.

أقول بعد عدم ظهور الفساد في معاملة الفاسق و اذن الشارع له في الدخول بهذا العمل يلزم ان يكون محكوما بصحته إذ الاذن في الشي ء إذن في لوازمه. نعم لو كانت المباشرة منه مرتبة على تعذر العادل لتم هذا الكلام مع ان المفروض شمول ما قضى بالقيام بذلك المعروف له، و ان كان بوجود العادل و مأذونيته في التصرف، و ليس لذلك نظير في الشريعة في أن له التصرف، و يجب انتزاعه منه كما هو صريح شيخنا (رحمه الله)، بل و لا يلزم التفحص عن الصلاح في العمل للمأذونية كعدم لزومه في الأب و الجد و حينئذ فاما ان تكون العدالة موضوعا للحكم، فلا تشمله أدلة القيام بالمعروف بالنسبة إلى مباشرته ايضا، و أما ان تشمله فيجوز له التصرف فيحكم بصحة عمله حيث لا فساد، و إما التفكيك فلا ينهض به الدليل، ثمّ ان عدم وجوب أخذ الثمن منه، و إرجاعه إلى المشتري، و الحكم بصحة المعاملة مشكل، و عدم العلم بأن الذي يجب حفظه من مال اليتيم هو الثمن أو المثمن لا يكفي في صحة المعاملة بعد معلومية احد الطرفين للعادل و الشك في الآخر فان مال اليتيم قبل بيعه يلزم حفظه و رعايته، و كون الثمن من ماله فيلزم حفظه متوقف على صحة المعاملة بين المتبايعين و هي إما معلومة العدم كبيع غير البالغ، أو السفيه أو مشكوكة الحال من جهة الجهل بالصلاح، و على الأول يبطل العقد جزما، و على الثاني لا اقل من ان يحكم بتزلزله لعدم معلومية شرط الصحة، و عدم إحراز الصلاح في ذلك، فيتوقف ملكية اليتيم للثمن على الصلاح المجهول، و مع عدم معلوميته بالفحص و غيره يبقى وجوب حفظ المثمن عليه بحاله فيلزم أخذ الثمن و الفسخ مع المشتري أو استعلام الحال على حد أخذ المثمن من يده الذي حكم شيخنا بلزوم أخذه فتدبر.

و منها اشتراط الغبطة و الأصلح في تصرف غير الأب و الجد في مال اليتيم و غيره مما يعود للفقراء مثل نقله من مكان إلى مكان، أو اخذ القيمة دون العين مما يجوز له فيه ذلك أو ترجيح بعض أفراد المستحقين دون بعض، أو صرفه في الأمور العامة بحيث يصل نفعه لمن لا يستحق، و غير ذلك أما ملاحظة الغبطة في مال اليتيم فهو المشهور، و تعدى بعض فاشترط ذلك في الأب و الجد- و هو الموافق للاعتبار- في مطلق التصرف في مال الغير بدون أذنه، و لأصالة عدم الولاية لأحد على مال غيره فتجري فيما لا غبطة فيه بل

ص: 171

مطلقا إلا في ضرورة توجيه فيجوز بما ترفع به، و لخصوص قوله تعالى: [وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*] و ذكر المفسرون: إن (التي) بمعنى الخصلة التي هي أحسن و (القرب) الدنو- و هو اعم من المحاذات لغة- و المراد به في الآية كما ذكره غير واحد ان التصرف في مال اليتيم متى كان احسن من عدمه جاز باي انواع المباشرة و ظاهرهم انه اذا تساوت افراد الأحسنية بالنسبة إلى اليتيم، و كان في بعضها نفع للمتصرف جاز له اختيار ما فيه النفع ان لم يكن هناك أحسن منه، و إلا امتنع كما انه لو تساوت افراد تبديله ابتداء جاز ذلك استدامة، فلو باعه بنقد من النقود المختلفة مع عدم التفاوت بينها، ثمّ بعد ان قبض البدل جاز له تبديل ذلك النقد بغيره مما يساويه مثل ما لو باعه به ابتداء، و كذا لو كان بعرض و ان كان في التبديل فائدة للمتصرف ايضا فالمتعين حسب ما يظهر من تفسيرهم ارادة رابع المعاني التي ذكرها شيخنا في مكاسبه للقرب، و ثاني المعاني للاحسن في الآية- و هو ينطبق على الفتاوى- و حينئذ فكلما كان احسن من غيره يختار في امر مال اليتيم تركا و فعلا. و على هذا المعنى يحمل حسنة الكاهلي لانه اذا اثبت من الآية لزوم اختيار الأحسن مطلقا في مال اليتيم يكون تركه عليه ضررا بحكم الشارع فلا يتناقض صدرها و ذيلها، و لا يحتاج إلى ارتكاب صدق النفع فيما لو دفع بازائه ما يساويه مما اتلفه من مال اليتيم، بل حيث كان النفع مأمورا به في صدر الرواية يكون الضرر المنهي عنه هو عدم النفع، فكان ملاحظة النفع مرادة، و ما سواها ضرر بالنسبة إلى هذا الصنف الخاص فيشمل النهي ما وازى المدفوع لهم ما تلف منهم و ما لو نقص، و لا ينافيه ان دفع الموازى للمتلوف مطلقا مبرأ للذمة مطلقا، و ليس لليتامى حكم مخصوص بهم يلزم اعطاء ما يزيد على المتلوف منهم، لأن المرام حرمة الدخول مع قصد عدم النفع و ان بنى الداخل على دفع الموازي، و لا مانع من اختصاص هذا الحكم بالأيتام كما لا ينافي ذلك رواية ابن المغيرة في اعطاء اليتيمة عوض المهدى لها من المطبوخ المأكول منه شيئا من ماله و فيها: فأقول يا رب هذا بهذا قال" عليه السلام"

لا بأس

لظهورها في رفع الأصلح اليها لذهاب الزائد من المأكول على اليتيمة بلا عوض و هو الداعي لعدم استفصال الامام" عليه السلام" عن مساواة العوض أو زيادته فتأمل. و منه يظهر انه لا يكفي في التصرف عدم المفسدة بل يلزم مراعاة الأصلح في الافعال، و التروك فلا يختار إلا ما هو أحسن من غيره في مال اليتيم حتى الترك فلو كان التصرف أحسن منه وجب ذلك و لا اختصاص للاختيار في التصرفات الوجودية كما يظهر من شيخنا (رحمه الله)، و لا يكفي في جواز التصرف نفي المفسدة فقط لمنافاته للاعتبار، فان نفي المفسدة مراد للشارع في التصرف بكل مال لا اختصاص له باليتيم. فما ورد من الآية و الرواية من التأكيدات بمراعاة حال اليتيم من كل جهة، و تخصيصه بالذكر دون غيره مما يشرف الفطن على اعتبار ارتكاب الأحسن فيما يعود اليه مطلقا. نعم الأصلحية تناط بنظر المتولي كما و كيفا، و يجب على المتولي مراجعة أهل الخبرة في الثمن و المثمن، و في النقل و عدمه و في تقلبه من مكان إلى مكان و غير ذلك ليكون دخوله في هذا الأمر عن اطمئنان، و ليسلم من الضمان في بعض الموارد، و أما ملاحظة الغبطة و المصلحة في غير مال اليتيم مما جوزنا التصرف فيه لعدول المؤمنين عند فقد الحاكم، و وكيله فالظاهر انه يصح مع نفي المفسدة، و به صرح جماعة فلا يجري فيها ما حررناه في مال اليتيم غير إن العدول لغير الأصلح عنه مما لا يوافق الاعتبار،

ص: 172

و مما لا يحسنه العقل فيبقى تحري الأصلح في كل مال للغير به أسوة و يجري ذلك في مقام يجوز به تبديل العين فما تعلق الحق بعينه لا مطلقا بل فيما رخص الشارع في تبديله. نعم في غير المرخص فيه لا يبعد القول بجواز تحرى الأصلح لمن في يده مع ثبوت الضمان فيما تصرف فيه لو تلف و لا منافاة بين الرخصة و الضمان حتى لو كانت الرخصة شرعية، و قيل بعدم الضمان مع الرخصة في التصرف شرعا مطلقا، و عليه الجد الاكبر كاشف الغطاء لكن العلامة و غيره حكم بعد المنافاة و للمقام محل آخر.

و منها انقطاع الولاية بالبلوغ و الرشد فعدمهما شرط في ثبوتها في المولى عليه في مطلق الاولياء فلو بلغ الصغير كاملا ارتفعت الولاية عنه، و ان جن أو سفه بعد ذلك فوليه الحاكم، و لو مع وجود الأب و الجد دون ما لو اتصل الجنون و السفه بالصغر على الأشهر فيهما و الجد الاكبر فرق في النقص المتجدد بين الجنون و السفه فحكم (بعود ولاية الأب و الجد) بتجدد الاول دون الثاني، و وافقه في النكاح و الطلاق جماعة من معتبري اصحابنا مع ظهور بعض المعتبرة به هناك من حيث ترك الاستفصال فيها.

و الظاهر مساواة النقص في الولي و المولى عليه فتعود ولاية الولي بزواله منه و تعود الولاية بتجدد الجنون في المولى عليه خلافا لجماعة فحكموا بعدم التجدد بعد الانقطاع للأب و الجد بل الولاية حينئذ كالحاكم و هو متين للاصل المعتضد باطلاق ما دل عليها غير انه معارض بكل ما قضى بولايتهما المتجددة بعد الانقطاع لا مكان جريان ادلتها في المولى عليه ايضا و الجمع بين الطرفين أولى و عند التعارض تقدم ولاية الأب و الجد إلا مع ظهور الفساد، و لا يلزم الاجتهاد للحاكم في احوالهما فيتبع سلوكهما و ان زعم عملا بالاطلاق، و أما السفيه فذهب جماعة إلى عدم الولاية عليه بعد البلوغ الا للحاكم مطلقا و ان اتصل سفهه ببلوغه، و آخرون إلى التفصيل بين المتصل فالولاية للأب و الجد، و المنفصل فهي للحاكم و الأقوى الحاقه بالمجنون اذ كما ان عودها فيهما محتاج إلى دليل ايضا ثبوت الولاية لا بد له من قاطع في غيرهما، و ليس في الاخبار ما يفيد ذلك فان أصرحها (

السلطان ولي من لا ولي له

) و هو مع ضعفه يختص بالامام، و كون الحاكم بمنزلته حتى في هذه الولاية لم يثبت، و لو ثبت فهو ولي من لا ولي له، و الأب و الجد بل و سائر الاقرباء من العصبات أولياء عرفا خرج غير الأب و ابيه بالاجماع فولايتهما العرفية ثابتة.

نعم لو ثبت للحاكم عموم الولاية بدليل عام يلزم ان يقتصر في الخارج على دليله مثل الولاية على الصغير للأب و الجد و اثباته مشكل جدا مع أنه معارض بالأخبار القاضية بعدم النكاح الا بأذن الولي العرفي و هو نص خبر زرارة: (

ان المالكة لامرها تزويجها ما شاءت بغير امر وليها

) و الا لا يصح تزويجها الا بامر وليها فان الولي في صدرها هو الولي العرفي، و كذا في ذيلها.

و الحاصل متى فرقنا بين ولاية الامام" عليه السلام" و ولاية الحاكم فعود ولاية الاب و الجد بتجدد الجنون و السفه بعد البلوغ مطلقا اوفق بالدليل، و متى عممنا ولاية الحاكم كان عدمه اولى.

الفريق الرابع الوصي:

و هو من الأولياء في الجملة بعد الموت على اولاد الميت الصغار إذا جعله الموصى قيما، و وليّا عليهم- و لو بعد البلوغ- مع عدم الكمال لكن بشرط عدم الولي الاجباري من الأب أو الجد فله الولاية على مال الصغير يتصرف فيه باي أنواع التصرف مع عدم ظهور الفساد. و الحاصل ان ما كان للموصى الولاية عليه يصح ان يجعل تلك الولاية

ص: 173

للوصي فيكون وليا على ذلك، فتكون للوصي الولاية على الثلث، ان صرح به الموصى فيشارك الورثة حينئذ لكن ليس له تمييزه الا اذا نص عليه الموصى و لا ضرر على الوارث في الأشهر، و كذا تكون له الولاية بنص الموصى على اخراج الحقوق عنه من دين، أو صدقه واجبه حتى لو عين لها من ماله أشياء مخصوصة فليس للوارث بعد الموت، و هكذا من غير اشكال، و يجوز شرائه من نفسه لنفسه أيضا، و التغاير الاعتباري كاف على الظاهر المصرح فيه، و له ان يوصي على ما أوصاه به مع الأذن من الموصى سواء في ذلك الأطفال و الحقوق. و أما اذا لم يأذن و لم يمنع. فالأكثر على انقطاع ولايته بموته.

و الشيخ و جماعة جوزوا الايصاء له، لأن الاستنابة من جملة التصرفات التي يملكها حيا، و لأن الموصى جعله كنفسه فيثبت له ما يثبت له الا ان يمنع و إلا لما جاز للوصي التوكيل حال الحياة و مكاتبة الصفار ظاهرة فيه ورد الجميع بتوقف تصرف غير الوصي على الأذن من الميت التي لا يثبتها ما ذكر، و لا ينفع فيها عموم الايصاء لعدم شموله للايصاء بما له للغير، لأن ملحوظ الموصي تصويبه و نظره، كالوكيل الذي ليس له أن يوكل غيره لعموم الوكالة، و به يفرق بين المقام و بين الشك في موارد العقد، و أما المكاتبة فاجمال الجواب فيها يمنع من التمسك بها. نعم لا يبعد ان الوصي لو اوصى بما هو وصى عليه يكشف ذلك عن أذن الموصى له دون ما لو اطلق فالنظر إلى الحاكم- و فيه تأمل- لميل الأكثر إلى عدم كون وصي الوصي وصي في التركتين مطلقا إلا مع عدم الأذن بل يتوقف على أذن الموصى الاول في الايصاء لا مطلقا ايضا، بل في غير نكاح الصغير، و ان نص عليه الموصى من الأب أو الجد على الاشهر لأصالتي عدم انتقال الولاية اليه في الاحكام و عدم صحة العقد و لزومه مع رد الصغير بعد البلوغ، و لا يفيد عموم الوفاء بالعقد، و لمفهوم صحيحة ابن مسلم بل عمومها منطوقا في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان قال" عليه السلام": (

إذا كان أبوهما اللذان زوجاهما، فنعم

) فان التفصيل من الإمام" عليه السلام": بعد اطلاق كلام السائل قاطع للشوكة مضافا إلى حجية مفهوم الشرط، و مثلها صحيحة أبي حذيفة الحذاء، و صحيحة ابن بزيغ و خالف في الحكم جماعة فاثبتوا للوصي الولاية مطلقا سواء نص الموصى على ولايته في النكاح أو طلقها بحيث يمكن شمول إطلاقه للنكاح، و منهم من خص ذلك بصدور الإذن منه، و اعتمدوا فيه على ما ورد في تفسير من بيده عقدة النكاح فانه مفسر بالأب و الأخ و من يوصي اليه، و من يجوز أمره في مال المرأة و بحرمة التبديل للوصية بنص الآية، و ضعف شيخنا الاستدلال بالأول بأن المراد بذكر الأربعة في الأخبار الذين بيدهم عقدة النكاح اما التنبيه على حصر من بيده ذلك من المذكورين، و أما لبيان أغلبية من بيده ذلك و حينئذ فجملة الصلة في الآية ان اريد بها مجرد الحكم الوضعي، أي ان الولاية الإجبارية أو الاعم منها. و من الاختيارية بأن يفسر من بيده عقدة النكاح بمن استقل في عقدة بحيث لا يكون لغيره مدخل فيه باصل الشرع، أو بمن استقل كذلك أو تولى ذلك من قبل المرأة مثل وكيلها على النكاح، و أما ان يكون المراد بمن في يده الحكم التكليفي الرجحاني الراجع إلى المرأة الاعم من الوجوبي، و الاستحبابي، يعني ان الاولى بنكاحها و الأحق به ممن هو الولي الشرعي، أو العرفي نحو ما ورد: (

انه ليس لها مع الأب أمر

) و يمكن ان يراد بجملة الصلة مطلقا من أوقع النكاح قبل الطلاق، ثمّ المعقود عليها على جميع التقادير قد يراد بها خصوص الصغيرة أو الاعم منها، و من الكبيرة و الظاهر من بين المعاني في التفسير المزبور إرادة الأولوية، و الأحقية ممن بيده

ص: 174

العقدة. و ذكر الاربعة لكون عقدة النكاح غالبا بيدهم و لتعميم الولاية للإجبارية و الاختيارية لا لحصرها فيهم فلا دلالة في الرواية على أن ولاية الوصي من أي الولايتين، و لا إيماء فيها إلى ان ولايته كولاية الأب فعسى ان تكون كولاية الأخ، و كذا هي بالنسبة إلى الأب مطلقة تشمل الثيبة و الباكر. هذا و لكن في صحيحة ابن سنان في تفسير من بيده عقدة النكاح بولي امرها و المراد (بولي امرها في غير النكاح) و إلا لكان التفسير بمساوى المفسر و هو مرفوض لأنه مجمل لم يفد بيانا و حينئذ لا ريب ان الوصي على الصغيرة ولى امرها في ما يعود لها سوى النكاح فيكون عقدة امره بيده- و الاستدلال بها وجيه- لو لم يعارض بمرسلة ابن عمير المروية في آخر باب الوكالات قبل باب القضاء في تفسير (من بيده العقدة) بالأب أو في توكله المرأة أو توليه امرها من أخ أو قرابة أو غيرهما فلا بد من الترجيح و ميل الاكثر مرجح للمرسلة، و ضعف غير واحد من المتأخرين.

الدليل الثاني: برد عموم آية (التبديل) بأن ضمير (بدله) راجع إلى ايصاء الوالدين و الاقربين المتقدم ذكرهما على الآية، فلا يعم مطلق التبديل و التضعيف في غير محله لاستدلال الامام" عليه السلام" في غير واحد من المعتبرة في أحكام كثير من الوصايا بعموم الآية، فالضمير على هذا راجع إلى مطلق الايصاء أو إلى المتقدم لكن مع إناطة حكم الاثم باصل تبديل الايصاء لا خصوص المورد فهو خاص و المناط عام، فالآية بضميمة الاخبار المفسرة ظاهرة في المدعي. و يمكن ان يستدل ايضا بعموم ما ورد في توقيع الصفار عن العسكري" عليه السلام": (

جائز للميت ما اوصى على ما اوصى ان شاء الله تعالى

) و هذا العموم لخصوص المورد لا يترك، و برواية الكافي و التهذيب في المضاربة بمال الصغير و أخذ نصف الربح قال: (

لا بأس من جهة ان اباه قد أذن له في ذلك و هو حي

) دلت على نفوذ ما أذن فيه أبو الصغير حال حياته مطلقا بعد مماته و هذه أذنه للوصي في تزويج صغيرة و توليته له فيه و لا يمنع عموم العلة فيها اسم الاشارة المشار به إلى مال المضاربة. لأن سوق الكلام يقضي انه انما اتى به لمحض ربط العلة بالمعلول فقط فتلغى تلك الخصوصية المترائية، و مثله كثير في السنة و المسألة مشكلة. لأن كل من الدليلين وجيه إلا ان يقال ان بين الاخبار النافية لولاية غير الأب و الجد، و بين الآية المعتضدة بالخبرين المزبورين التباين الجزئي، و حيث لا مرجح لا بد من ترك العمل باحدهما فيرجع حينئذ إلى اصالة عدم ثبوت الولاية، و عدم صحة النكاح من دون اذن المزوج، فما عليه الاكثر احوى في النظر، و عليه فتنفى ولاية الوصي في النكاح مطلقا حتى على من بلغ فاسد العقل مع اضطراره، أو خوف مرضه أو وقوعه في الزنا، و عدم زوال عذره بدون التزويج، لأن هذه الوجوه لا يثبت بها انتقال ولاية الأب و الجد إلى الوصي بايصائهما له فانه مع عدم ثبوتها له لا يفرق فيها بين الموارد، فما وقع من بعض من نفى ولاية الوصي من اثباتها ببعض هذه الموارد لا وجه له. نعم تثبت ولاية الحسبة و هي مختصة بالحاكم لأنها من مناصبه فيزوجه الحاكم كما يزوجه مع عدم الوصي و كما يزوج غيره، و لا شك بولايته على المجنونين الفاقدين للاب و الجد مع الحاجة إلى النكاح للاجماع و النبوى و عموم ما دل على الرجوع اليه كما سبق فليس للمجنون بعد الإفاقة و لا لغيره قبلها، و تزويجه و فسخه بل لا بد من ترتب الآثار عليه كما مضى مفصلا.

ص: 175

الفائدة الثامنة و الخمسون (في عدالة الوصي):

اشارة

بعد ما أثبتنا ولاية الوصي على ما للموصى الولاية عليه مطلقا أو في غير النكاح مع عدم الأذن أو مطلقا فهل يعتبر فيه العدالة؟ فلا تجوز الوصية لمجهول الحال فضلا عن الفاسق أولا فتجوز الوصية لما سوى العادل، و تثبت ولايته مطلقا إلا مع ظهور الفساد فيعزله الحاكم مطلقا المشهور بل قيل انه مجمع عليه هو الأول لأن الفاسق لا امانة له فلا يؤتمن للعلة المنصوصة الموجبة للتثبت في خبره في الآية فيوجب ذلك عدم الاعتماد عليه في كل أموره مضافا إلى تعريض مال الغير للتلف من الورثة و ممن أوصى له الموصى بشي ء، و من الجهات التي عين الثلث بإزائها، و نوقش في عموم التعليل بمعارضته بقوله" عليه السلام": (

جائز للميت ما اوصى على ما اوصى به ان شاء الله تعالى

) فانه شامل لكل ما اعتبر الموصي من القيود في الوصية سواء كان القيد من مقومات الوصية أو الراجعة إلى انحاء الوصية لو فرض ان تعيين مجهول الحال أو الفاسق من الموصي للوصي ليس من مقوماتها التي تنتفي الوصية بانتفائه لبقاء الوصية على تقدير موت الوصي أو عجزه فهو من القيود الراجعة إلى انحاء الوصية، و على التقديرين فالخبر يعمه و رد:

أولا: بعدم شمول الخبر لمثل القيد المزبور، بل هو مخصوص بالقيود التي تنتفي الوصية بانتفائه، و مثله قوله" عليه السلام": (

الوقوف على حسب ما يقفها اهلها

) فانه لا يقضي بجواز تولية الفاسق فلا يشمل أيضا جعل الموصى له و ان جعله حقا للغير على هذا الوجه الخاص.

ثانيا: على فرض الشمول فعموم التعليل في آية التثبت حاكم عليه، و من هنا لا يجوز للحاكم تولية الفاسق في الأمور الحسبية و مثله الأب و الجد على مال الصغير في الأعرف فما هو إلا للحكومة المزبورة فإن عموم التعليل مانع من تولية الفاسق في كل أمر يلزم فيه إصلاح المال شرعا، فلا يرد جواز توكيل الفاسق أو ايداعه لماله أو هبته له مما لم يحب في مثله مراعاة المصلحة و لا يعد تبذيرا على ان القطع ببقاء الوصية على ما اوصى و عموم تبديلها لا يحصل بتولية الفاسق، و جواز توليته مع ضم أمين معه يجعل وجوده كعدمه من حيث عدم نفوذ تصرفه بدونه، فالمناط سلامة عموم التعليل عن الدغدغة، و متى سلم لا تنفذ وصية الفاسق حتى مع ضم الأمين بل للأمين الاستقلال بالتصرف، و لزوم اجتماعهما لا دليل عليه بعد سقوط نظر الفاسق من أصله اذ ليس هو كالأب أو الجد الذي لولايته موضوعية، و مع ذلك فقد ذهب إلى الجواز عصبة من أفاضل اصحابنا (رحمه الله) معتمدين فيه على أن المسلم محل للامانة و الاستيداع، و على أنها ولاية تابعة لاختيار الموصى فتحقق بتعينه، و المناقشة في الدليلين على ما حررنا ظاهرة اذ ليس مبنى الوكالة و الاستيداع على ملاحظة المصلحة، أو عدم المفسدة إلا اذا دخل في التبذير المحرم، و معه تتحقق السفاهة فيخرج الحكم عما نحن فيه، و لذا لا يعتبر فيهما الاسلام فضلا عن العدالة، و ذلك بخلاف تولية الغير على مال الغير الذي لا ريب في ملاحظة المصلحة فيه أو عدم المفسدة، كما انه ليس للموصى تعريض المال الذي اوصى به مطلقا للتلف فإن وصية الفاسق تكشف عن عدم تعلق نظر الموصى بوصول المال إلى اهله من الورثة و غيرهم حتى ما كان الحق فيه إليه، و لا حق للغير فيه مثل الوصية في صرف الثلث في النيابة، و وجوه البر المخصوصة لحبسه المال حينئذ على المصرف المذكور، و لا تسلط للميت عليه، فلا يجوز له ان يولي من لا يوثق بفعله اذ تولي الفاسق على المال انما يكون في

ص: 176

وقت ليس للميت سلطنة عليه فلا تعمه أدلة الوصية فان نفوذها مقصور على ماله فاذا جعله محبوسا على مصرف خاص كان هو كغيره في عدم جواز تفويض ذلك إلى من لا وثوق بفعله.

و قد ذكر جماعة في الوقف بأن الواقف و ان كان مسلطا على وقفه باي وجه كان إلا أنه بعد ان نفذ من يده، و أوقفه على وجه من الوجوه ليس له ان يولى امره إلى الفاسق الذي لا سبيل إلى العلم الشرعي بصرفه في ذلك الوجه مع عدم العدالة الا بخيال ان التولية لم تكن خارجة عن الوقف لتكون بعده، و كذا الوصية بل هي في ضمنهما، و هو توهم لما مر من ان التولية جعل مستقل في ضمنهما كالشرط في ضمن العقد بل اولى بالاستقلال، و لذا لم يذهب احد ممن اشترط العدالة في الوصية و الوقف إلى بطلانهما بتولية الفاسق بل يقولون بلغوية التولية و صحتهما و لو ان التولية شرط غير خارج لما صحا فلا وقع للدليلين المرقومين. نعم عسى ان يفرق بين الوصية و الوقف فيما يعود إلى الميت من الأمور فان الوقف يرجع إلى التولية على مال الغير- و هو الموقوف عليهم- فلا يشبه ما يعود بالوصية إلى نفس الميت إلا فيما لو شرط الواقف في الوقف امورا يرجع فائدتها اليه مثل ما لو شرط اخراج مقدار خاص من نماء الوقف لعبادة أو حج أو تعزية أو غير ذلك فانه يكون كالوصية في صرف الثلث فيما يعود اليه فان عين له احدا جرى فيه الكلام. و الأظهر ان مراعاة المصلحة، أو عدم المفسدة المتوقفة على العدالة ان سلمناها فيما يعود للغير من الوصية، أو الوقف- فيشكل تسليم ذلك- فيما لا يرجع إلا إلى نفس الموصي من مصارف الثلث خصوصا فيما لا يتعلق بمال اصلا كالوصية بمباشرة تجهيزه و من اعتبر العدالة في الوصي، أو متولي الوقف ممن سبرنا أقوالهم- لا يظهر منه التفصيل في المسألة- و ان حكى قولا و أفتي به البعض و استحسنه شيخنا. و خلاصة القول في المسألة حسبما يترجح بنظري القاصر أن اعتبار المصلحة و عدم المفسدة في مال الغير مطلوب للشارع من كل من له الولاية عليه، حتى ما كان بنفس الوصية أو الوقف مالا للغير بلا شبهة في ذلك. و المشهور عليه فلا يفرق الحال فيه بين سائر الاولياء من الواقف، أو الموصي، أو الحاكم، أو غيرهم لكن ذلك- ان سلم- فبعد ان يكون مالا للغير، و إما قبله بأن يجب على من يوصى أو يوقف ان يراعي حق الموقوف عليه أو الموصي له بأن لا يجوز ان يوقف على أحد، أو يوصي لأحد إلا بان يراعي الغبطة و الحيف فيما أوصى به بعده فيلزمه ان يجعل الناظر عدلا فلا دليل عليه.

و من هنا يتضح ان العدالة معتبرة في المقام على وجه الطريقية لا الموضوعية فلو حصل الوثوق للواقف أو الموصي فيما لا يتعلق به حق الورثة أو الموقوف عليهم بشخص جاز له ان يجعله ناظرا أو متوليا و ان لم يكن عدلا، بل و متى حصل الوثوق للورثة بالناظر الذي عينه الموقف أو الوصي بأنه يقسم بالعدل و لا يخون و لا يحابي لا يجوز عزله لهم مع عدم الاتهام لأن المدار فيه على الواقع و قد حصل و من تصفح كلماتهم في جواز جعل النظارة من الواقف لنفسه على الوقف مع عدم اعتبار عدالته عرف صحة ما حررناه كيف و قد صرح في السرائر: (بانه لو جعل النظر إلى الأرشد عمل به، و ان كان فاسقا فالاقرب ضم العدل اليه) و في التذكرة: (و لو علم فسق المتولي، و شرط التولية له فالاقرب اتباع شرطه) و حينئذ فالجعل ثابت، و يجوز لمن له الولاية ان يولي غيره مطلقا مع قابلية المولى لحفظ ما دل عليه، و معرفته بصلاحه، و لا مانع بأن يعرضه العزل باحد أسبابه المورثة لتلف المال فمتى حصل الاطمئنان بعدم تلف المال لا يصح العزل، فالعدالة فيه طريق إلى الواقع- و هي أحد الطرق- و لا مرجح لها على غيرها من الطرق

ص: 177

فاشتراطها كاشتراطها في الاستنابة للعبادات اللازمة فلو أحرزت التأدية صح العمل و لو من الفاسق و استحق البدل و حينئذ فيلزم الموصى ان يوصى إلى العدل عند عدم الوثوق بمطابقة أفعاله للواقع فلا يصح ان يوصي إلى من لا يعلم عدالته و لا يثق بفعله و يصح في غيرها مطلقا و ظاهر كلماتهم تساعد على ما حررناه، فالشرط في الحقيقة هو وثوق الموصى، اما شرعا من حيث العدالة أو حقيقة لقطعه بعدم المخالفة و في السرائر: (و لو اوصى إلى الخائن فالاقرب بطلان الوصية، و كان كمن لا وصي له و لو قيل بجوازه، و ضم أمين اليه ان امكن الحفظ و إلا فلا كان وجيها) و في المقنعة: (لا بأس بالوصية إلى المرأة ان كانت عاقلة مأمونة) و استدلالهم بان الوصية إلى الفاسق ركون اليه في أفعاله و هو منهي عنه ب (و لا تركنوا) و ان الوصية أمانة، و الفاسق لا يؤتمن لوجوب التبين في خبره فان جميع ذلك ظاهر فيما ذكرنا من صحة الوصية مع المطابقة للفاسق، و يظهر من شيخنا في الجواهر اعتبارها في الموضوع عند مشترطها. و ان المشروط عدم عند عدم شرطه على حد غيرها من الشروط كالعقل و نحوه و لعله لجهة عدها في سياق الشروط الواقعية، و قد عرفت منافاة ذلك لكلماتهم فما استغربه من الرياض غريب و كيف كان فلا يكفي وثوق الموصي في ترتب فعل الغير من شراء و نحوه ما لم يثق ذلك الغير به اما شرعا أو واقعا، و لا تصح المعاملة معه فلو كان عدلا بنظر الموصي، و غير عدل برأي الغير لا يجوز للغير ترتيب آثار الوصية عليه، و كذا لو كان مجهول الحال عند الغير لما تقدم من ان العبرة بصحة الوصية الوثوق بتصرفات الوصي على حسب ما أوصى فيه، و ان العدالة تكفي شرعا و إن ظن الغير الخلاف، و نظير ذلك قيم الحاكم الذي نصبه باعتقاد العدالة مع فسقه واقعا أو عند غيره فينتج من ذلك إلحاق مجهول الحال بالفاسق في المقام، لأن عدم الاعتناء بالفاسق ليس لمجرد فسقه بل لعدم الأمن، و عدم احراز ما يردعه عن غير الواقع، و هذا المعنى لا فرق فيه بين الفاسق و مجهول الحال، و لا يحتاج فيه إلى أصالة عدم الملكة مع الشك في العدالة اذ الوثوق الشرعي معلوم الانتفاء مع عدم احراز الملكة الموجود في مجهول الحال، و مثله طرح خبره فانه لا يتوقف على إصالة عدم الملكة اذ ليس الفسق مانعا و إنما المانع عدم تحقق الوثوق الذي قد يلازم الفاسق، و قد يفارقه. نعم لا يتم ذلك فيمن يرى الحاق مجهول الحال من المسلمين بالعادل موضوعا فيثبت العدالة بعدم ظهور الفسق بعد الإسلام و كلامنا منا بعد الاغماض عن هذا القول و الفراغ من فساده على ان القائل به لا يجعل نفس الفسق مانعا، و ان انضم اليه الوثوق بمطابقة عمله للواقع من الموصي أو غيره و ذلك جار في كل مقام اعتبر فيه العدالة لاجل الوثوق، و يظهر من الشهيد في (المسالك) كفاية عدم ظهور الفسق هنا لاشتراط العدالة بخيال ان الفسق مانع، و المانع لا يشترط العلم بعدمه في التأثير بل يكفي عدم العلم بوجوده، و التدبر فيما سردناه لك يكفي في رده لأن مانعية الفسق من جهة عدم استئمانه، أو وجوب التبين في خبره و هما موجودان في مجهول الحال باقراره في غير المقام على ان قوله (رحمه الله): (بكفاية عدم العلم بوجود المانع في التأثير) لم يتضح لنا ما اراد منه لأن الاصل في المقام الشك بمنزلة العلم، و ان المانع و غيره من اجزاء العلة سواء في وجوب العلم بعدمه فان كان الشرط أو المانع وجوديين و شك في وجود أحدهما فالأصل عدمه فينتفي المشروط باصالة عدم الشرط، و يثبت الممنوع بأصالة عدم المانع- و ان كانا عدميين- فينعكس الأمر عند الشك فيثبت المشروط في أصالة عدم الشرط و ينتفي الممنوع بأصالة عدم المانع، و هكذا أو مما ذكرنا

ص: 178

يظهر انه لو أوصى إلى عدل ففسق لا تبطل الوصية إذا علم ان الداعي لها و الباعث عليها غير العدالة من الأوصاف و لا كذلك ان علم أن الداعي، و الوصف العنواني هو العدالة فإنها تبطل في المشهور، و أما لو جهل الحال فالعمل بالاستصحاب غير بعيد لاختلاف السبب الموجب للوصية، و لم يعلم تغير الموضوع. نعم لو كان الباعث على الوصية العدالة فانعزل الوصي بفقده لا تعود الوصية بعود العدالة، و قيل بالعود و له وجه من جهة ان تصويب رأيه حال عدالته ملحوظ للموصى مطلقا و الله العالم.

الفريق الخامس: المالك الكامل:

فانه مسلط على ما ملكه يتصرف فيه باي انواع التصرف بالضرورة من المذهب، و يكفي فيه (

الناس مسلطون على أموالهم

) الموافق للعقل، و النقل، و الحكمة الآلهية في أمور العالم، و خرج من هذه الكلية غير الكامل قولا واحدا فلا يمكن من التصرف فيما ملكه، و اختلف في بعض افراد الكامل ممن يجوز له التصرف بما ملكه عند عروض بعض الأسباب في خروجه عن الاصل الاولى، و عدم نفوذ تصرفه في بعضه أو في جمعه أو له التصرف مطلقا ثمّ على القول بعدم جواز التصرف في البعض أو في الكل، فهل يقبل أقراره فيه أو لا يقبل؟ فيما حجر عليه من أمواله، و هل تجري قاعدة من ملك فيه أو لا تجرى؟ و لقد اضطربت في ذلك آراء اصحابنا سلفا عن خلف و تشعبت فيه أقوالهم و منشؤه اختلاف النصوص، و صعوبة الجمع بينها، و قبول سند البعض عند جماعة، و استضعافه عند آخرين- وفقنا الله لنهج السبيل المستوي و الصراط المستقيم ان شاء الله تعالى-.

الأول من تلك الأسباب: المرض العارض للشخص الذي يتعقبه الموت إما مطلقا أو مع ظهور ذلك بالامارات التي لا تتخلف غالبا، فقد اشتهر ان هذا العارض يمنع المالك من التصرف في جميع ما ملكه و يمنع من نفوذ إقراره كذلك لو اقر للغير بشي ء لكن بشرط ظهور إرادة حرمانه للورثة من هذا الإقرار باماراته لا مطلقا و قيل بعدم النفوذ مطلقا على ما سيجي ء تفصيله إن شاء الله تعالى.

الفائدة التاسعة و الخمسون (تصرفات المريض):

لا ريب في نفوذ تصرف الصحيح الكامل في جميع ما ملكه بسائر أنواع الملك و أسبابه و ان قصد الاضرار بالورثة ما لم يعد سفها فيخرج عن الكمال، و كذا تنفذ جميع تصرفاته في المرض الذي لا يتعقبه الموت بلا كلام. و أما المرض الذي يموت به و ان انتقلت العلة و كان التصرف في السابقة مثلا فمع الاتصال لم يفرق بين العلتين، و يحتمل الفرق كما سيتضح لك ذلك فقد ذكروا ان ليس له التصرف إلا بالثلث مما ملك في الوصية و التنجيز.

و الأول عليه المعظم اذا كان الموصى به معلقا على الموت سواء دخل في مصاديق الوصية أو لا كالتدبير في احد الوجهين من كونه عتقا لا وصية به و منه النذر المقيد بالموت في وجه أيضا، و به النصوص متظافرة و معمول بها. نعم لو اجاز الورثة الوصية قبل الموت أو بعده بما زاد على الثلث نفذ ذلك و استحق الموصى له الزائد سواء كانت الاجازة في زمن الصحة و المرض و ليس للورثة الرجوع في ذلك على المشهور، و خالف فيه المفيد، و الديلمي، و الحلي، و قاسوه على اسقاط المرأة صداقها قبل التزويج و الشفيع قبل البيع و حجتهم واهية، و المفلس ان اجاز زمن الحياة نفذ لعدم المانع، و أما بعد الممات فلا بناء على انتقال المال بالموت إلى الوارث و بالإجازة إلى الموصى له، و أما اذا كانت الاجازة كاشفة عن سبق ملكه كما قيل، فنعم، و هو الأعرف فيكون ذلك تنفيذا من الوارث

ص: 179

لتصرف الموصى لا أن التصرف للوارث فالإجازة لتصرف الموصى تكشف عن عدم دخول الموصى به في ملك الوارث بالموت- كما هو مقتضى الوصية- و المنجزات تلحق الوصية بالاحكام ان اخرجناها من الثلث، و لا فرق بينهما كما لا فرق بين من له وارث و بين من لا وارث له سوى الامام في اخراج وصاياه من الثلث في المشهور و اطلاق النصوص و الفتاوى. و أما الثاني: و هو المنجزات فقد شاع الخلاف فيما بينهم بل لم نتحقق الأشهر في احد القولين لاضطراب كلماتهم في جملة الأبواب الفقهية بعد اتفاقهم ظاهرا بخروج ما كان حقا واجبا من الاصل مثل العتق عن كفارة. و النذر الذي لم يقيد بالموت سواء نذر الغاية ام السبب. و أما غير ذلك مما تبرع فيه المريض غير ما نقله بثمن المثل بما كان فيه المحاباة من هبة، أو عطية، أو بيع بدون ثمن المثل، أو اقرار بما فيه اتهام حرمان الورثة لأحد مطلقا أو غير ذلك، فقيل، بخروجه من الاصل، و قيل، من الثلث و ان المرض سبب شرعي يمنع من تصرف المالك في أزيد من ثلث ماله، و تزيل ولايته عليه و مرجع الخلاف إلى ان المال باق على ما كان عليه حال الصحة أو يتبدل حكمه عند المرض فيكون للورثة فيه الثلثان، و للميت الباقي، و ثبوته للورثة بالملك المتزلزل فان تعقبه الموت كشف عنه و ان برأ كشف عن عدم تبدل حكمه، و لذا ذهبوا إلى خروج المنجزات في المرض بعد البرء و الموت بمرض آخر من الأصل بلا خلاف فيه، و نسب القول بالخروج من الثلث إلى المتأخرين كالفاضلين، و من تأخر عنهما.

و من الأصل إلى من تقدم و المتتبع يجد التردد فيه ايضا ممن تأخر و قضيته تسلط الناس على اموالهم التي لا يخالف فيها أحد توجب الثاني كإطلاقات تسلط الإنسان على ماله ما دام الروح في بدنه و استقرار السيرة القطعية على عدم حساب ما يتلفه المريض في مرضه و يحابى به من الثلث من صدقة، أو هدية، أو شراء دواء، أو أجرة طبيب و غير ذلك من الاشياء التي لا يحرز غالبا فيها رضاء الورثة لما يعرض لهم من غيبه أو عدم حضور و لم نشاهد ان وكلاء الإنسان و عواد المريض، و أضيافه، و من دعاهم اليه استأذنوا الوارث في تناول شي ء من ذلك، أو امتنعوا من التصرف لصغر الوارث و الانتقال و ان روعي بعدم البرء، يلزم التجنب منه ايضا لان حكمه حينئذ حكم المبيع بالخيار و الموهوب قبل ذهاب عينه اذ المفروض انتقال المال بالمرض إلى الورثة و ان كان متزلزلا و لو التزم القائل بالانتقال بجميع ما ذكرناه، و حكم بضمان ما يحابى به المريض لقابضه و رجوع الورثة عليه بعد الموت بثلثي المال المقبوض فهو مع استهجانه مناف لإطلاق ما دل على ندبية الاعادة و الحضور حالة الاحتضار، و تعاهد المريض، بل قد يجب ذلك فان التصرف بامواله من لوازم ذلك و لم نعهد في أمثاله طلب الرخصة من الوارث من زمن الأئمة (ع) إلى الآن في شي ء مما ذكرنا، مضافا إلى اطلاقات خروج الدين من الاصل الشاملة لما يستدينه المريض حال مرضه المميت، و على كل حال فعلى من حكم بالانتقال بعد اعترافه بملكية، المريض للمال زمن الصحة، و تسلطه عليه لا بد له من برهان ينهض بمدعاه، و لا يحتاج المنكر إلى الدليل لظهور ان الأصل معه، و ما ورد من النصوص و الفتاوى بالخروج من الاصل مقرر للاصل المزبور، و مما يتفرع على ذلك ان الثلث لو لم يف بالدين زمن المرض بقي في ذمة الميت، و لا يجوز مطالبة الوارث به- و هو كما ترى-، لا اظن ان القائلين بخروج المنجزات من الثلث المعللين له بانتقال المال إلى الورثة زمن المرض يلتزمون بذلك و لو فرقوا بين المنجزات و الدين طالبناهم بالفارق مع جريان العلة في الامرين و لو اقتصروا في ذلك على خصوص الوارد في الاخبار تبعضت الصفقة

ص: 180

عليهم، و خرج من الأصل كل منجز لم يذكر في خبر و هم لا يدعونه، و لا عثرنا على قائل به، و مع ذلك كله فقد ذهب غير واحد من محققي اصحابنا إلى عدم خروج المنجزات من الاصل و ان حكمها حكم الوصية كالاسكافي و الصدوق و المبسوط في الوصية و الغنية في عتقه، و جملة من كتب الفاضل، و المحقق، و الشهيدين، و ثاني المحققين، و فخر الاسلام، و التنقيح بل قيل: ان عليه عامة المتأخرين و ظاهر الخلاف في عتقه دعوى اجماع الفرقة و اخبارهم به، و قال جماعة: ان النصوص به متظافرة. و استدلوا عليه بأمور:

منها ما عن المحقق الثاني (ان الاصل عدم صحة المعاملة بالنسبة للزائد عن الثلث). و قال شيخنا: (أني لم اتحقق معناه) و لعل وجهه من ان المرض المميت يورث انتقال ما سوى الثلث إلى الورثة انتقالا متزلزلا فتكون المعاملة بما يزيد على الثلث تصرف في مال الغير موقوف على الإجازة، فالأصل عدم صحتها، أي عدم لزومها كرهن المبيع بالخيار، أو إجارته من دون خيار. و الأصل بمعنى القاعدة المستفادة من الأخبار في (انه ليس له الا الثلث) و جواز تصرف المريض بأمواله، و ان قيل به لا يلزمه صحة معاملته، و لزومها في ما كشف عنه موته بانه ليس له- و هو حسن- غير انه موقوف على ثبوت الانتقال كذلك قبل الموت- و هو عين المتنازع فيه- فان ثبت ذلك لا يحتاج حينئذ إلى الاستناد إلى الاصل في صحة المعاملة فيما زاد على الثلث بل يكون من التصرف بمال الغير بغير اذنه الممنوع نفوذه مطلقا.

و منها ما في المختلف ان امضاء الوصية من الثلث و القول بخروج العطايا المنجزة من الأصل مما لا يجتمعان لاشتراكهما في المقتضى لحصر الوصية بالثلث و هو النظر في حق الورثة المنبه عليه في الأخبار مثل قوله" عليه السلام": (

لا أبالي أضررت بولدي أم سرقتهم

) ذلك دل على التسوية بين السرقة و الإضرار بالورثة المتحقق بالوصية فيما زاد على الثلث و بالمحاباة في ضمن العقود المنجزة مع ان خروج المنجزات من الأصل يوجب اختلال حكمة حصر الوصية بالثلث لا مكان التجاء من يريد الزيادة في الوصية إلى العقد المنجز فيعاوض كل ماله بدرهم فرارا عن رد الوصية اذا أوصى و لقوله" عليه السلام": (

ان الوصية ترد إلى المعروف عن المنكر، فمن ظلم نفسه و أتى في وصيته بالمنكر و الحيف فانها ترد إلى المعروف و تترك لاهل الميراث ميراثهم

). و منها ما دل على الاخبار على عدم استحقاق الميت من ماله غير ثلثه بحيث يستقل بالتصرف فيه.

ففي النبوي (

ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أموالكم

). و صحيحة ابن يقطين (

سألت أبا الحسن" عليه السلام": و قلت ما للرجل من ماله عند موته قال الثلث، و الثلث كثير

). و رواية ابن سنان عن الصادق" عليه السلام": (

قال للرجل عند موته ثلث ماله و ان لم يوص فليس على الورثة إمضائه

). و المروي في البحار عن الهداية عن الصادق" عليه السلام": (

قال فيها ليس للميت من ماله الا الثلث فإذا أوصى بأكثر من الثلث رد إلى الثلث

). و صحيحة شعيب عن الرجل (

يموت ما له من ماله قال الثلث و المرأة كذلك

) و ما دل على عدم نفوذ العطية في المرض كرواية سماعة في عطية الوالد لولده قال" عليه السلام": (

إذا كان صحيحا فهو ماله يصنع به ما يشاء، و أما في مرضه فلا يصلح

) و في أخرى (

إذا كان صحيحا جاز

) و روايته الأخرى عن الصادق" عليه السلام": (

عن الرجل يكون لامرأته

ص: 181

عليه صداق أو بعضه فتبرأ له و يحسب ذلك من ثلثها ان كانت تركت شيئا

). و مصححة أبي بصير عن الرجل يخص بعض ولده بالعطية قال" عليه السلام": (

ان كان موسرا فنعم، و ان كان معسرا فلا

) فكانه لاحظ في التفرقة بين الإيسار و الإعسار إلى الثلث، و ما دل على امضاء العتق من الثلث فان لم يف به تبعض المملوك مع وجود الثلثين، و بناء العتق على التغليب، مثل خبر بن الجهم عن أبي الحسن" عليه السلام" في رجل أعتق مملوكا له و قد حضره الموت و أشهد له بذلك و قيمته ستمائة درهم و عليه دين ثلاثمائة درهم و لم يترك غيره قال: (

يعتق منه سدسه لأنه انما له ثلاثمائة و له السدس من الجميع

). و خبر على بن عقبة عن الصادق" عليه السلام" في رجل حضره الموت فاعتق مملوكا ليس له غيره، فابى الورثة ان يجيزوا ذلك كيف القضاء قال: (

ما يعتق منه الا ثلثه و زاد في أخرى و سائر الورثة احق بذلك

). و خبر ابي بصير: (

اذا اعتق رجل عند موته جارية له ثمّ اوصى بوصية اخرى الغيت الوصية و اعتقت الجارية من ثلثه الا ان يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية

). و رواية اسماعيل بن همام في رجل أوصى عند موته بمال لذوي قرابته و اعتق مملوكا له و كان جميع ما أوصى به يزيد على الثلث قال" عليه السلام": (

يبدأ في العتق فينفذ

) و هناك أخبار أخر استدل بها بعض المتأخرين ضعيفة الدلالة على المطلوب و ان لم تكن تخلو من اشعار. و ناقش في الجميع جماعة من المتأخرين منهم شيخنا بحلقة درسه اما الاصل فيما علمت، و أما ما في المختلف من حصر الوصية في الثلث لعله للنظر إلى ترفيه حال الورثة فالعلية ممنوعة بل تلك حكمه و إلا لحجر على المريض من التصرف في ماله بما يزيد على الثلث و لحسب منه و التزام ذلك و ان اقتضاه دليلهم كما قدمناه مشكل و لعلهم لا يدعونه، كما انه لا بأس من لزوم اختلال الحكمة الباعثة على حصر الوصية في الثلث كاستعمال الحيل الشرعية في الربا. و ورد (

نعم الشي ء الفرار من الحرام إلى الحلال

). و أما الاخبار الخمسة الأول الناطقة بعدم استقلال التصرف بما زاد على الثلث، و المناقشة فيها مبني على مقدمة و هي ان المرض الظاهر في انه يفني المريض هل يوجب سلب ولاية المالك عن التصرف بماله حيث يشاء أو لا يوجب ذلك؟ بل له التصرف بماله إلى الموت فان قيل بالأول حسبما يظهر من بعض ادلتهم كانت نصا في المطلوب اذ بعد فرض خروج الإنسان عن المالكية أو الاستقلال بها عند الموت يكون الترخيص له في الثلث حقيقيا كما في النبوي، و يكون السؤال في الأربعة عن المقدار الذي يستحقه الإنسان من ماله بعد الحجر عليه فيتم المدعى حيث يكون مفروغا منه عند السائل، فمعنى ما للرجل من ماله عند موته؟ يعني هل يبقى من المال شيئا يصح للرجل ان يجعله بحيث يصير بعد خروجه عن ملكه مصروفا فيما يريده من اعطائه لأحد أو صرفه في وجه من الوجوه فيحسن الجواب من الامام" عليه السلام" بتشخيص الثلث من امواله لذلك و حينئذ فليس له غيره نجز أو اوصى، و ان قيل. بالعدم كما هو الاظهر، و أنه غير محجور عن التصرف بماله إلى الموت و بعده ينتقل الجميع إلى الورثة و حينئذ تكون هذه الاخبار ظاهرة في الوصية لا في المنجزات فالمفروغ منه عند السائلين و غيرهم تسلط الورثة بعد الموت على المال كله فسألوا انه هل للانسان ان يعطي شيئا من ماله بحيث لا ينتقل منه للمعطى الا بعد الموت، فاجاب الامام" عليه السلام" (

بأن له ذلك في الثلث و ليس ذلك إلا في الوصية اذ فيها ينتقل المال من الموصي إلى الموصى له في زمان لا يملكه الإنسان بل يملكه وارثه و الا فهو له ما دام حيا و ان اوصى

).

ص: 182

و الحاصل انهم سألوا عما تنفذ فيه الوصية فأجيبوا بالثلث و ليس هذا حجرا على الإنسان لاشتراك الصحيح و المريض فيه، فما يظهر منهم بأن المريض من المحجور عليه بالنسبة إلى الوصية بأكثر من الثلث ليس له وجه، و المنصف بعد التأمل في هذه النصوص يجزم بان السؤال فيها عما يكون للشخص بعد موته إذا أوصى في حياته لا عما يستقل الإنسان بالتصرف فيه حال المرض كما زعم على أن حمل الموت في هذه الروايات على مرض الموت خلاف ظاهرها و لا معنى لمجاز المشارفة هنا كما تخيل، فهي إما نص بما له قبل الموت مطلق التصرف فيه و هم لا يدعونه، أو تخص بحال المرض المميت و هو لا يظهر منها، و الضدية في بعضها لا تقتضي ذلك بل ظاهرها البعدية مؤيدا بما في ذيل رواية ابن سنان، و خبر الهداية من التصريح بالوصية فهي قرينة على ارادتها فيهما و في غيرهما لا أقل من تساوي الاحتمالين المورث لإجمالها و لا يؤمن ذلك ان الحمل المزبور يقضي بثبوت الثلث له، و ان لم يوص و تقيدها بالايصاء خلاف الاصل، لأن التقيد بالوصية في كون الثلث له و قد وقع في رواية ابن سنان من قوله" عليه السلام" (

و ليس على الورثة امضاؤه

) ففي غيرها كذلك لأن الاخبار يفسر بعضها بعضا و يكشف بعضها عن بعض. و بالجملة ان ما كان من الاخبار بغير (عند) فهي صريحة فيما بعد الموت لو اوصى و ما اشتمل على الظرف فكذلك أيضا فان قول القائل (المال يزيد عند حياته) لا ريب في ظهوره بما قبل الموت و لو في حالة المرض و يقابله عند مماته في عدم شموله لحال الحياة بوجه و الا لتصادق حال المرض و لا ريب في بطلانه، فالإنصاف عدم دلالتها على المدعى بوجه. و أما الأخبار الخمسة التي بعدها فالظاهر من لا يصلح في خبر سماعة الكراهة من جهة تفضيل بعض الأولاد و إرادة ما يفيد المطلوب ابعد من الكراهة، و يكون المراد بالجواز في التي بعدها رفع الكراهة لان سوقهما واحد و الحمل و ان ساوى حملهما على المطلوب غير انه يكفي في عدم الاستناد اليهما مع ان التفصيل في الخامسة بين الايسار و الاعسار يرشد إلى الحمل المزبور لزوال علة عدم الصلوح المفيد للكراهة بالايسار. و أما المنع من الابراء الوارد دون الهبة فقد خدش فيها بعدم صحة هبة ما في الذمة، و ان زعم بعض من عاصرناه بان الموهوب ليس ما في الذمة بل بمقداره من مالها يساوى ما في الذمة فيحتسب بدلا، و قال في رواية أبي ولاد إيماء إليه و هو تمحل بعيد مع ان جواب الإمام" عليه السلام" عن الإبراء لا بد من حمله على الكراهة لجوازه قطعا مع إمكان ان يكون الاحتساب في رواية أبي ولاد من الاستحباب رفقا بالورثة لا انه في الواقع من الثلث. و أما أخبار العتق فحملت على الوصية بالعتق لا العتق المنجز و يؤمى إليه (

اعتق ثمّ أوص

) في رواية ابي بصير، و كذا في خبر ابن همام فكان جميع ما أوصى به على الثلث لكن يأتي الحمل المزبور في الثاني الحكم بتقديم الإعتاق مع أن الحكم ملاحظة الأسبق في المتعدد من الوصايا، و مع ذلك كله فالانصاف ان هذا القول لا يخلو عن نصوص ظاهرة فيه ظهورا بينا لكن مع معارضتها لنصوص القول الآخر فان أمكن ترجيح احدهما لزم العمل عليه، و الظاهر رجحان العمل باخبار الخروج من الاصل لان الثاني مذهب من الرشد في خلافهم فتحمل على التقية، و ان استبعده شيخنا في جواهره من جهة عدم الاشارة فيها على كثرتها إلى ان ذلك مذهب الجمهور كما في غيرها لان الاخذ بها حينئذ اخذ بما يخالفهم و هو واجب لقوله" عليه السلام": (

خذ بما خالف القوم و ان الرشد في خلافهم

) و ليس في اخبار العلاج لزوم وجود الاشارة في المتعارضين إلى ان ذلك مذهبا لمخالفينا و لو فرض

ص: 183

التساوي فحيث ان التخيير هنا باطل يلزم الاعراض عن الجميع و الرجوع إلى الاصل، الموجب لخروج المنجزات و غيرها من الاصل و لا يبعد القول بالحاق بعض المنجزات تعبدا بالوصية في الخروج من الثلث لا مطلقا كما في بعض افراد العتق في المرض لمن عليه دين و قيمته ضعف الدين و لا يتسرى لغيره كالعتق مطلقا و غيره من المنجزات كلزوم الاقتصار على المرض الذي يحقق فيه الموت لا مطلقا من دق أو سل أو استسقاء أو غيرها، و ما شك فيه فالاصل عدمه لكن ذلك ايضا في النفس منه شي ء لان الخروج عن قواعد لزوم المعاملات بمثل هذه الاخبار في غاية الاشكال مع وجود الاجماعين المحكيين و الشهرة على الخروج من الاصل مضافا إلى الاستصحاب، و عمومات لزوم التصرفات و إطلاق ما دل على ان الميت أحق بما له ما دام فيه الروح، و إن أوصى، أو قال بعدي فليس له الا الثلث، و قال" عليه السلام" في رواية ابي بصير (

ماله يصنع به ما شاء إلى ان يأتيه الموت

) و (

ان لصاحب المال ان يعمل به ما شاء ما دام حيا ان شاء وهبه، و ان شاء تصدق به، أو تركه إلى ان يأتيه الموت

) و حمله على غير المريض ينافيه جعل الموت غاية للحكم، و المرسلة (

في الرجل يعطي شيئا من ماله في مرضه قال اذا بان به فهو جائز إلى آخره

) و موثقة عمار عن الرجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه قال: (

اذا ابان فهو جائز

) إلى غير ذلك مما يظهر منه المطلوب بل الأصل الماضي كاف في المقام.

الفائدة الستون (ما يخرج من أصل التركة):

الظاهر عدم الخلاف في خروج الواجبات المالية من الأصل، و أن أوصى الميت بها، و منها الحج لأن الشارع جعله بمنزلة الدين فيشمله حكمه، و أما الواجبات البدنية الفائتة فان أوصى بها أخرجت من الثلث إن وسعها و ان لم يوص فنسب للمشهور عدم وجوب الاستئجار للواجبات البدنية المحضة على الوارث مطلقا كالصلاة و الصوم للأصل، و عموم أدلة الإرث و الوصية فان الأخذ بمقتضاها يوجب عدم مزاحمة الواجب البدني لها، و مال بعض الاصحاب (رحمه الله) إلى وجوب الاخراج من الأصل على من ورث الميت لإطلاق الدين في الاخبار الكثيرة عليهما الموجب لكونهما من أفراده فيثبت لهما أحكامه فهو اما ادخال موضوعي، أو حكمي، و أيدوا ذلك بتعليل الامام" عليه السلام" لاخراج حجة الاسلام من الأصل بانها دين عليه أو بمنزلة الدين، و بما ورد من (

ان دين الله أحق بالقضاء

) و في الدليل تأمل اذ مجرد اشتغال الذمة بها و لابدية فعلها لا يوجب ثبوت جميع أحكام المالي حتى في الإخراج من الاصل، اذ يكفي في التنزيل، و التشبيه الشبه في حالة واحدة لا في جميع ما يتعلق في المشبه به، سلمنا ان المراد بالاطلاقات الحقيقية لا التشبيهية و كون الدين موضوعا لمطلق ما ثبت في الذمة فالكبرى ممنوعة و هي ان كل دين يخرج من صلب المال لان القدر المتيقن من المخرج من صلب المال هو ما كان من جنس المال، و الواجب البدني خارج عنه ليس من جنسه، و إخراج اجرة الاستنابه مبنى على ان الدين هو الأجرة، و هو خلاف المفروض من كون الدين هو نفس الصلاة أو الصوم لأنه الواجب على الميت دون أجرته لعدم وجوب بذل الأجرة، على الميت، فالدين غير قابل لإخراجه من المال، لأنه عمل بدني، و ما هو قابل غير دين فلا يجب. و لا ينافي ذلك وجوب الايصاء على الميت به الذي مرجعه إلى وجوب دفع الأجرة عليه لأن الموجب لصدق الدين هو وجوب البذل على الميت لا وجوب الأمر بإخراجه استنابة بل لوجوب الأمر بالبذل عليه لم يجب

ص: 184

إخراجه من الأصل ان لم يأمر به لسقوطه بعدم أمره، و الاستنابة عن الميت في الصلاة و ان كانت قابلة لاخراجها من مال الميت لتوقفها على بذل المال لكنها ليست واجبة على الميت بل الواجب عليه الأمر بها. نعم ينتقض ذلك بالحج، و يلزم ان نقول فيه ان الشارع جعله بمنزلة الدين حكما للنص فيؤدى من أصل المال، و يخرج من الأصل فيحتاج في إلحاق غيره به إلى دليل يقضي بأنه بمنزلة الدين ايضا، و عموم أخبار الدين لا تقتضي ذلك لحملها على التشبيه دون الحقيقة فلا تفيد مع وضوح الفرق بين الحج و الصلاة و ان كان كل منهما نفس الدين لكن الحج متوقف على المال دون الصلاة و ان توقفه من باب المقدمة فتأمل، و استدل أيضا بما ورد من أداء دين المقتول عمدا من ديته من إنه أحق بديته من غيره، و المراد بالغير الوارث و الأحقيه تشمل أجرة الصلاة و الصيام سائر ما بذمته. و فيه ما قدمنا من عدم صلاحية ما ذكر مخصصا لأدلة الإرث و الوصية فتدبر.

الفائدة الحادية و الستون (في كلام القواعد في المنجزات):

ضبط في القواعد المنجزات التي تخرج من الثلث بإزالة الملك عن عين مملوكة يجري الإرث فيها من غير لزوم، و لا اخذ عوض بدلها. و ظاهره من قوله: (يجري أن العين لو لا التبرع بها مما تورث) و من قوله (رحمه الله): (من غير لزوم خروج مثل العتق عن كفارة و الوفاء بالنذر حال الصحة، و من العوض المماثل النكاح بمهر المثل). و هو جيد و ان كان التقييد بالعين يوهم خروج النماء و التبرع بالمنافع مع اطراد المسألة، و لا مفصل و مثله لو أبرئ من بذمته له دين و ضبطه الشهيد بما استلزم تفويت المال على الوارث بغير عوض، و لعله على عمومه لا تلتزم به أهل هذا القول، و المذكور في النصوص بعض التصرفات مثل العطية و الابراء، و الهبة، و العتق لكن الاقتصار عليها و ان أحتمل إلا انه لم يظهر لنا من زعم الخروج من الثلث.

بل ظاهرهم أن ما يجري مجراها ملحق بها فمن الهبة و العطية يتسرى إلى نقل العين مطلقا و لا فرق بين نقلها أو نقل المنافع، و من الإبراء يسري الحكم إلى فك الملك مطلقا بوقف و غيره و إلى إسقاط الحقوق المالية التي تورث لاتحاد المناط في الجميع و فهم معظمهم من الروايات ذلك و حينئذ فالتصرف الذي لا يكون من هذا القبيل كإتلاف المريض لماله بأكل و شرب و دواء و إن أسرف فيه لا يحتسب من الثلث على الظاهر، و إن تأمل فيه بعضهم، و هو ظاهر من جوز للوارث منع المريض عن بعض تصرفاته و مثله تزويج المرأة نفسها بأقل من مهر المثل، و إجارة النفس كذلك و نص بعض من ادعى الخروج من الثلث بأن للمريض إسقاط بعض ما يورث من الحقوق كحقي الخيار و الشفعة و الاختصاص في أراضي الخراج و غير ذلك مع أن الإسقاط كالإبراء.

الفائدة الثانية و الستون (في عدم مزاحمة المنجزات للدين):

الظاهر عدم مزاحمة المنجزات للدين لو قيل بخروجها من الثلث لكونه كالوصية و لا ثلث قبل الدين، و ينفذ قبل الدين على ما اخترنا من الخروج من الأصل لعدم الفرق بينه حينئذ و بين الصحيح، و لا يزاحم الدين تصرفات العاري من المرض، و عبارة الجواهر في حجره تعطي تقديم الدين على التنجيز فإنه بعد أن حكى عن الحلي (رحمه الله) نفوذ عتق المريض من الأصل و سقوط الدين قال: (و أصحابه الموافقين له في كون المنجزات من الأصل لا يوافقونه فيما إذا زاحم تنجيز الدين بل يخصونه بالنسبة إلى الورثة بل لعل

ص: 185

مقابلته بالخروج من الثلث المعلوم كون المراد منه بعد خروج الدين يشهد بعدم المزاحمة) و هو مشكل لا يلتزم به أحد فإنهم ذكروا أن التنجيز لو تعدد و استوعب الواحد الثلث لغي ما تلاه من التنجيز فهو بعبارة أخرى وصية، و العبرة فيه ثلث المال حال الموت لا حين الوصية كما قد يتوهم ذلك في الوصية فافهم.

الفائدة الثالثة و الستون (في إقرار المريض):

الإقرار الذي يتضرر به الوارث مطلقا من المريض لبعض الورثة أو الأجنبي سواء أقر بدين بعوض غير ثابت أو بغير عوض أو بدين من غير ذكر سببه أو بعين بغير عوض أو بعوض غير ثابت، أو بالتنجيز حال الصحة فإن أنفذه الورثة أو تحقق وقوعه حال الصحة عندهم نفذ بلا أشكال و إن لم يكن ذلك فقد اختلف في خروج ما أقر به من الأصل أو من الثلث على فرض خروج المنجز منه.

و فصل غير واحد فيه بين الاتهام و عدمه و حكم بخروجه من الأصل في الثاني، و بعض أطلق خروجه من الأصل، و قيل بخروجه من الأصل مع العدالة و عدم التهمة مطلقا و من الثلث مع عدمهما مطلقا فلا ينفع عدم الاتهام مع عدم العدالة، و به يفرق عن الأول، و اقتصر بعضهم على العدالة فقط، و قال آخرون أن الإقرار إن كان بدين فهو من الأصل مطلقا، و إن كان بعين يقبل إقراره مع العدالة و المأمونية إن كان حين الإقرار عليه دين يستوعب التركة و إلا فلا، و قيل بنفوذه من الأصل مطلقا بدين أو عين صحيحا، أو مريضا لوارث، و غيره إن كان مأمونا و إلا فلا حتى لو كان صحيحا و المشهور على ما قيل هو الأول، و هذه المسألة توجب تقديم مقدمة بها تتضح فوائد جمة و هي أن عندنا قواعد مستفادة من عدة نصوص و من مطاوي كلمات أصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) في مقامات عديدة، و هي (أن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز أو حجة، و إن من ملك شيئا ملك الإقرار به، و إن كل ما يلزم فعله غيره يمضي إقراره بذلك الفعل، و إن قول من ائتمنه المالك بالإذن أو الشارع بالأمر يقبل و لا يجوز اتهامه فكل من هذه القواعد يوردونها في مقام الاستدلال على ما يتفرع عليها فكأنها بنفسها دليل أو مضمون دليل و حينئذ فلا ريب و لا إشكال نصا و فتوى في نفوذ إقرار البالغ الصحيح الكامل على نفسه، و أما غيره مطلقا فمحل كلام فينبغي لنا التكلم في مؤدى هذه القواعد، و مقدار عمومها و تعارضها و ما دل على ثبوتها كي ينتفع بها الراغب في المقام و غيره مع الاستعانة بتصويب الحجة (عجل الله فرجه) و حينئذ فغير الكامل الصحيح المقر بشي ء لغيره لا يخلو من أن يكون من الأولياء، أو الوكلاء، أو الصغار، أو السفهاء، أو المفلس المحجر على أموالهم، أو المرضى، ثمّ المقر له أما الأجنبي أو القريب و المقر به أما دين، أو غيره، و الغير أما عين أو غيرها أو فك ملك مطلقا أو غير ذلك مما يصدق عليه الإقرار و يرادفه الاعتراف. و ربما استند غير واحد في جملة من المسائل المتفرعة في أبواب الفقه بنفوذ الإقرار مطلقا إلى القاعدة المستفادة من حديث (إقرار العقلاء) و قاعدة (من ملك) بل صرح بعضهم بأن مستند قاعدة (من ملك) هو قاعدة (إقرار العقلاء) و لكن الأوفق أن (من ملك) أعم مطلقا لعدم شمول الحديث لإقرار الصبي فيما له أن يفعله، و إقرار الولي و الوكيل على الأصيل مع شمول القاعدة الثانية لهما فهي أعم فحق لنا أن نبين معناها و إمكان ما يندرج فيها من الأحكام لوفور نفعها فنقول أن المراد بالملك في من ملك شيئا السلطنة الفعلية على الشي ء العام للأعيان و الأفعال مثل التصرفات ليدخل في عموم القضية بعض تصرفات

ص: 186

الصغير المالية مثل الوصية، و الوقف، و الصدقة و صحة اقراره بها فلا وجه لما يتراءى من بعضهم في حمل الملك في القضية على ملك الأعيان الشامل لملك الصغير لأمواله. إذ لا معنى للإقرار بالأعيان، و لا ينافيه قولهم (الإقرار اخبار بحق لازم) إذ معناه الإخبار بثبوته لا الإخبار بنفسه إذ المخبر به لا يكون عينا ثمّ (السلطنة) هي التسلط على التصرف و هو أعم من أن يكون أصالة، أو وكالة، أو ولاية و حينئذ يكون معنى (من ملك شيئا) أي ملك الإقرار بذلك الذي تسلط عليه، و معنى (ملك الإقرار به) هو إثبات الشي ء على نفسه و على غيره لكن هذا المعنى ينافي ما هو الظاهر عند الفقهاء إن الإقرار لا يكون إلا بحق لازم على المخبر فيختص بما أخبر به على نفسه دون غيره فلا يعم دعوى الوكيل، و الولي حقا على الأصيل أو شهادته عليهما لغيره و هو خلاف صريح استنادهم إليها في كثير من المواضيع كإقرار العبد المأذون في التجارة و الوكيل، و كل مالك للتصرف فلا يمكن إرادة غير المعنى اللغوي ثمّ أن ظاهر الجملة الشرطية كون العلة في الجزاء هو نفس الشرط لا حدوثه، و إن زال، و عليه فملكية الإقرار بالشي ء تابعة لملكية الشي ء حال الإقرار لا مطلق الملكية، و لذا اختار في الشرائع عدم قبول إقرار المريض بطلاق الزوجة حال الصحة لمنعها من الميراث و نص الفاضل في التحرير بعدم سماع إقرار العبد بعد عدم الأذن له بدين يسنده إلى زمان إذن سيده له بالتجارة قال (رحمه الله): (كل من لا يتمكن من إنشاء شي ء لا ينفذ إقراره فيه، فلو أقر المريض بأنه وهب، و أقبض حال الصحة لم ينفذ من الأصل) و في التذكرة (لو أقر الولي بالنكاح فإن كانت كاملة لم يعتد بإقراره) مستندا إلى أن إقراره وقع في زمان لا يمكنه فيه إنشائه، و على ما ذكرنا يكون حكم من حكم بنفوذ إقرار المريض بالهبة، و الطلاق حال الصحة إن نفوذه بالنسبة إلى أصل الهبة، و الطلاق، لأنه المملوك له لا الهبة، و الطلاق المقيدين بحال الصحة المؤثرين في خروج الموهوب من الأصل و عدم إرث الزوجة منه. نعم يظهر من الشيخ في المبسوط و تبعه الجد الأكبر في بعض أجوبته عدم إرث الزوجة في مسألة الطلاق و كأن وجهه عموم نفوذ إقرار المقر على ملكه و لو في الزمان الماضي لا ما احتمله بعضهم من أن إقراره إذا قبل في أصل الطلاق قبل في قيوده إذ الطلاق لم يقع حال المرض باعترافه فمعنى قبوله الحكم بوقوعه في الزمان الذي يمكن فيه ذلك، فاذا حكم بوقوعه في ذلك الزمان ترتبت عليه أحكامه لإمكان المناقشة فيه بأن معنى (نفوذ إقراره) هو نفوذه بالنسبة إلى بعض أحكامه مثل البينونة لا مطلق أحكامه حتى الإرث، و ليس معنى النفوذ الحكم بوقوع الطلاق حال المرض أو إن الإقرار يثبت الطلاق حال الصحة كما لو نفى زوجية امرأته حال المرض، فإنها تبين عنه، و ترثه و لا ينفع قوله (ليست لي بزوجة) في نفي الإرث مع ثبوت زوجيتها حال الصحة مثلا فلا جرم أن الشيخ لا يعتبر فعلية المملوكية فيما أقر فيه بل يكفي ملكيته لما أعترف به آنا ما، و كذا يظهر من الفخر ذلك حيث رجح قول الولي لو اختلف مع المولى عليه بعد كماله لكنه حكم في مقام آخر بعدم نفوذ إقرار الزوج بالرجعة بالعدة و إن اعتباره من حيث أنه إنشاء لها لا إخبارا عنها، فتم إلى هنا أن (معنى ملك الشي ء) مجرد القدرة على التصرف لا السلطنة المطلقة التي لا يزاحمه أحد فيها التي لا تكون إلا للولي الإجباري و الأصيل كما قد يتوهم لأنه خلاف ما يظهر من كلماتهم من الاستناد إلى القاعدة في كثير من الموارد كما غبر، فكان الأنسب بمعنى (ملك الاقرار به) أن إقراره كإقرار من ناب عنه ماض عليه حتى لا يسمع منه بينة على عدمه فضلا عن حلفه على غير ما أقر به الوكيل أو الولي فحينئذ لا فرق بين إقرار الشخص على نفسه و بين إقراره

ص: 187

مطلقا على غيره فيما يملك التصرف فيه لكن هذا المعنى بعيد لا يمكن الالتزام به لتصريحهم بخلافه فلا محيص عن أن القول بأن معنى العبارة هو إما كون إقراره نافذا بالنسبة إلى الأصيل مثل نفوذ إقرار الأصل لكن لا يترتب عليه جميع آثار إقراره فيكون الوكيل أو الولي كالشاهد على الأصيل فلو أخبر بأنه قبض مال موكله، أو زوج الصغيرة نفذ على موكله بحيث يكون كالشاهد للغريم و لا فرق بين أن يكون هناك دعوى بينه و بين الأصيل، أو مع ثالث أو لا. و بالجملة قوله كقوله (و لسانه كلسانه) و أما أن يكون أخص من الأول فيخص النفوذ في مقام الدعوى بالأصيل و لا ينفذ على غيره بمعنى لا تعرض فيه لقبوله بالنسبة إلى الأصيل لو كانت الدعوى ترجع على ثالث حتى يكون كالشاهد للثالث على الأصيل فيعتبر إقراره بما له إن يفعله فيما يتعلق بنفسه لا فيما يتعلق بغيره فيقبل قول الوكيل مثلا فيما إذا ادعى الموكل المضي فيما وكل فيه، و يقدم قول الموكل فيما لو ادعى الوكيل شراء السلعة بمائة أو ادعى الموكل شراءه بالأقل منها، لأن الموكل غارم و قيل ينفذ قول الوكيل في المسألتين و منشأ الخلاف هو احتمال أن يراد بملك الإقرار السلطنة المستقلة المطلقة بمعنى أنه لا يزاحمه أحد في إقراره، و إنه نافذ على كل أحد يراد به أن له مجرد الإقرار به مع إمكان أن يزاحمه فيه غيره ممن له سلطنة على الفعل فيكون ملك الإقرار بالشي ء على نحو السلطنة على ذلك الشي ء، فليس للمولى عليه مزاحمة الولي في إقراره إذا كان إجباريا من جهة أن ليس للمولى عليه مزاحمة في أصل الفعل بخلاف الموكل فإنه يزاحم الوكيل في إقراره في بعض الصور كما يزاحمه في أصل التصرف إذا عرفت ذلك فنقول (أنه قد ادعى جماعة الإجماع على القضية المزبورة) بمعنى أن ركون الأصحاب إليها في كثير من الموارد يكشف عن دليل معتبر لو عثرنا عليه وجب العمل بمضمونه و إن لم يكشف عن الحكم الواقعي كيف و قد عمل بهذه القضية في مقام الاستدلال جملة ممن يعتمد عليهم بحيث أن دليل لهم على الحكم سواها و لا يمكن أن يدعي أن دليلها الحديث النبوي المثبت لقاعدة إقرار العقلاء كما غبر إذ حديث الإقرار لا يدل إلا على ترتيب الآثار التي يلزم على المقر فقط دون الآثار التي تلزم غيره فلو أقر البالغ العاقل بأجرة شخص فلا يترتب عليه إلا ما يلزم المقر من أحكام الأبوة، و لا يلزم الولد شي ء من أحكام البنوة مطلقا نعم لو كان ذلك الابن المقر به ظاهره الرقية للأب ترتبت أحكام لازمة على غير الأب من حيث الرقية لا الأبنية، فيسقط عنه النفقة الواجبة لو كان حرا و دين الغريم مثلا لأن هذه الآثار تابعة للمال حدوثا و بقاء فظهر أن الدليل الإقرار لا ينفع في حق غير المقر من ولي، أو وكيل، أو عبد بخلاف القاعدة مضافا إلى أن نفوذ إقرار الصبي فيما له الإقرار به لا مستند له سواها لخروج الصبي عن حديث الإقرار لسلب عبارته بحديث (رفع القلم).

و كذا لا يمكن أن يكون مدرك القضية كلية قبول قول من ائتمنه المالك بالإذن أو الشارع بالأمر و عدم جواز اتهامه لأن بينهما التباين الجزئي من حيث عدم شمولها أيضا لإقرار الصبي و الرجوع فيه إلى دليل آخر لا يجري في الوكيل و الولي يخرج القضية عن كونها قاعدة واحدة على ما يظهر من القضية من أن علة قبول الإقرار ملكية التصرف للمقر به على أن قاعدة الائتمان لو كانت مدركا للقضية لما فرقوا بين كون الإقرار في زمن الائتمان أو بعده فخصوا النفوذ بالأول بالنسبة إلى القاعدة (من ملك) و قالوا (أن من لا يتمكن من إنشاء شي ء لا ينفذ إقراره به). فإن عدم النفوذ لا يريدون به حالة عدم التمكن إذ هو لغو لعدم ترتب أثر على المقر به بل المراد عدم نفوذ الإقرار اللاحق فيما أمكن فعله

ص: 188

سابقا، فقاعدة (من ملك) تشمل الصبي، و قاعدة (الائتمان) لا تشمله، و قاعدة (من ملك) لا تشمل ما بعد زمن الائتمان، و تلك تشمله فبينهما العموم من وجه.

نعم يمكن أن يكون مدرك من ملك ظهور اعتبار الشارع في تصديق من يملك أحداث التصرف بشي ء و عدم اتهامه سواء كان ممنوعا من التصرف لمقدمات غير حاصلة يمكنه تحصيلها أو لا فإنه على كل حال مما يصدق في إقراره و لا يتهم. و هذا الظهور مما تسالم العقلاء على قبوله من المعترف بشي ء على ما ولي عليه مطلقا بل هو أقوى من ظهور حال المسلم في صحة فعله فيترجح هذا الظاهر على الأصل، و إن أمكن المناقشة في اعتبار هذا الظهور لأنه لا حجية فيه بنفسه بل هو بعد محتاج إلى قيام دليل عليه و عسى أن يتخيل بأن قاعدة (أن كل ما يلزم فعله غيره يمضي إقراره بذلك الفعل على ذلك) مما يثبت عموم هذه القضية و هو لا وجه له بعد زوال الولاية.

و الظاهر أن هذه القواعد الثلاث تجتمع في إقرار ولي الصغير ببيع ماله لأنه يمضي فعله على غيره و مؤتمن من قبل الشارع و مأذون من قبل المالك و مالك للإقرار و تنفرد قاعدة الائتمان في إقرار الوكيل بعد العزل لعدم مضيه على الموكل و تتفرد قاعدة (من ملك) في إقرار الصبي بماله الإقرار فيه، و تتفرد الثالثة بإقرار الولي الإجباري و نفوذه بعد زوال الولاية.

فتلخص إلى هنا أنه لا دليل لنا على إجراء هذه القاعدة و كليتها سوى الإجماع المدعي الذي يمرضه ظهور الخلاف و التردد من معشرهم من أساطين أصحابنا كالفاضل في التذكرة و غيره حيث رجح تقديم قول الموكل عند دعوى الوكيل و المحقق (رحمه الله) تردد في قبول إقرار العبد المأذون و في قبول قول الولي في تزويج بنته لو أنكرت أو جهلت ذلك بعد ارتفاع الولاية، لا يقال أن إهمالهم للقاعدة في بعض الموارد إنما هو من جهة وجود المعارض الأقوى لأنا نقول: (أن الإهمال المذكور كما يمكن أن يكون من جهة المعارض يمكن أن يكون لاختلاف تفسير تلك القضية بما لا يشمل تلك الموارد أو لاختلافهم في معناها بحيث لا يقطع بمورد متفق عليه يتمسك فيه بها فلا ينفع الاتفاق المذكور، فنرى أن المراد بالموصول عند بعضهم هو البالغ الرشيد فلا تعم القضية للصبي فمتى لم تعم القضية إقرار الصبي و الاقرار على الغير اختصت بإقرار البالغ العاقل و هو داخل في حديث (الإقرار) فلا نفع في هذه القضية و إن أجمع عليها في مورد من موارد الحاجة إلا أن لا يعتنى بخلاف العلامة أو المحقق (رحمهما الله) و الإنصاف أنهم كثيرا ما يستندون إلى نفس هذه القاعدة مثل استنادهم في قبول دعوى المسلم أمان الحربي و لو بعد زمان ملكه لأمانه، و ليس لمن صحح صدقة الصبي و وصيته و حكم بنفوذ إقراره فيهما مستندا لها، و اتفقوا غير المحقق (رحمه الله) على سماع إقرار كل من ملك التصرف على غيره خصوصا في الولي الإجباري حيث لا يملك المولى عليه التصرف، بل السيرة مستقرة على معاملة كل من ملك التصرف على غيره وكيلا كان أو وليا أو غيرهما حتى في الجائر على قول معروف معاملة الأصيل في الإقرار ك (ه) في التصرف فلا جرم من أن يكون للقاعدة المزبورة مدركا غير ما ذكرنا بحيث لو اطلعنا عليه لما حصل لنا التشكيك في التمسك بها في مواردها، إذا اتضح لك ما حررناه نقول: إن خروج المقر به حال المرض من الأصل هو المعروف حتى عند بعض من يرى خروج المنجزات من الثلث، و استندوا إلى عموم إقرار العقلاء، و إلى قاعدة (من ملك) و في المهذب: (إذا أقر المريض الذي كاتب عبده حال المرض بأنه قبض مال الكتابة حال الصحة صح إقراره،

ص: 189

و عتق العبد) لأن المريض يملك القبض فيملك الإقرار به مثل الصحيح و إلى أنه لا يمكن التوصل إلى إبراء ذمته من حق ثبت عليه حال صحته إلا بالإقرار، فلو لم يقبل بقي الحق عليه، و منع المستحق من حقه و كلاهما مفسدة فالأوفق بالحكمة الآلهية قبول إقراره و إلى رواية سماعة عمن أقر لوارث بدين عليه و هو مريض قال" عليه السلام": يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا) و لا مفصل بين القليل و الكثير و رواية أبي ولاد عن رجل مريض أقر عند الموت لوارث بدين عليه، قال: (

يجوز ذلك. قلت: فإن أوصى لوارث بشي ء، قال جائز

) و خبر السكوني عن علي" عليه السلام" (

أنه كان يرد النخلة في الوصية و ما أقر به عند موته بلا ثبت و لا بينة

) و روايته الأخرى: (

في رجل أقر عند موته لفلان و فلان لأحدهما عندي ألف درهم ثمّ مات على تلك الحال أيهما أقام البينة فله المال فإن لم يقم البينة واحد منهما فالمال بينهما نصفان

) و رواية سعد بن سعد عن مسافر حضره الموت فرفع مالا إلى رجل من التجار، فقال: (

إن هذا المال لفلان بن فلان فادفعه إليه يصرفه حيث يشاء و مات و لم يأمر صاحبه الذي جعله له و لا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال" عليه السلام" يضعه حيث يشاء

). و هذا القول هو الأقوى عندنا بعد أن اخترنا خروج المنجزات من الأصل بل و هو الأوفق بالقواعد حتى على القول الآخر لعدم خروج المال المقر به عن المالكية على القولين و لا يزاحمه شي ء سوى ما ورد من أخبار الاتهام في الإضرار بالورثة مثل (

إن كان الميت مريضا

) و مثل (

إن كانت مأمونة عنده فليحلف لهم و أن كانت متهمة فلا يحلف و يضع الأمر على ما كان فإنما لها من مالها ثلثه

) و مثل (

إذا كان مصدقا

) و في صحيحة الحلبي: (

إذا كان مليا

) فإنها مع عدم المناقشة فيها تقيد مطلقات الأخبار المقيدة للنفوذ من أصل المال و تقيد الأصل أيضا فيقتصر على موردها تعبدا حتى فيما لا يفيد الإضرار بالورثة لكثرة المال المتروك أو لثروة الوارث و يحتمل السقوط مع الضرر رأسا فلا ينفذ أقراره حتى في ثلثه بحمل الإضرار بالورثة على عموم من يصل المال إليه فلو أوصى لجماعة بوصايا، ثمّ أقر بما يورث نقص تلك الوصايا حصل الضرر على الموصى له فلا ينفذ إقراره، و لكنه بعيد في الغاية و إن كان التعبير في النصوص بلفظ الوصية قد يعطيه. فالمنتخب من تلك الأقوال هو الخروج من الأصل مع عدم الاتهام، و من الثلث معه و على المتهم البينة عليه فلا يكفي احتماله أو ظهور القرائن عليه ما لم يثبت ذلك شرعا أو يقطع به و تكفي المأمونية مع الشك في الاتهام في عدمها و حينئذ فيجامع المأمونية الاتهام و لا تكفي المأمونية فقط مع الظن بالتهمة فكان الحكم بحسب ما يظهر من نصوص الباب و كلمات العلماء يدور مدار الاتهام وجودا و عدما، و إن المأمونية من الطرق الموصلة إلى عدمه كغيرها مما يورث عدم التهمة، و يظهر من بعض المتأخرين أن المأمونية شرط للخروج من الأصل لا أن الاتهام مانع و لم يتضح لنا دليله سوى ما ورد من كونه مأمونا أو مرضيا و هي لا تقضي بالشرطية و لا تفيد الخروج من الأصل حتى مع الظن بالاتهام فليس التعبير بها إلا كسائر نظائرها من كواشف الملكة في العدالة و غيرها من الطرق التي تكشف و لو ظنا عن الواقع، و أين هذا من زعم كونها شرطا يتبع الحكم وجودها كي يتفرع عليه عدم الخروج من الأصل من عدم معلومية الاتهام؟ مع انه ينافي ما ظاهرهم الاتفاق عليه من انفاذ الوصية بالدين من الأصل من دون

ص: 190

فحص عن مأمونية الموصي فلا وجه لهذا الاحتمال و مع عدم النفوذ مع التهمة فلو أقر بشي ء في مرضه ثمّ برئ منه و كان متهما قيل ينفذ من الأصل لأن البرء كشف عن عدم ثبوت حق للوارث حين صدور الإقرار فيبقى عموم الإقرار سليما.

و قيل لا ينفذ لصدوره زمان عدم النفوذ و عدم عودة حالة البرء لأنه المفروض، و الأول أقوى. هذا و لا ريب في تقديم قول المقر له بيمينه مع تهمة الوارث عند إنكارها و يمينه على ما صرح به البعض أنها على نفي العلم لا على البت، و الأوجه أنه يحلف على عدم ظهور قرائن الاتهام من المقر عنده و هو على البت و لو تبين الاتهام بعد تصرف المقر له مع ذهاب العين و عدمه و بعد موته لا رجوع للوارث على من بيده المال بأحد النواقل من المقر له لأصالة لزوم ذلك، و لا مكان رفع الاتهام و لو كان المقر له حيا، و لا يكلف من بيده رفع ذلك. نعم عليه يمين نفي العلم أما لو كان حيا يلزمه إما رفع الاتهام أو إرجاع عين ما أخذه أو مثله إلا إذا تلف منه بلا تفريط فالظاهر أنه لا ضمان عليه و الله العالم.

الفائدة الرابعة و الستون (في المعاطاة):

القول في المعاطاة الواقعة بين الناس في جميع الأجناس، و هي أخذ الشي ء من مالكه و إعطاء بدله له، و كثيرا ما يأخذ الشي ء بلا دفع قيمته فيكون البدل نسيئة، و ربما زاد المأخوذ على القيمة التي عينها المتعاطيان مع أن الثمن نسيئة و عين المثمن باقية كلا أو بعضا، و هذه من اقسام المعاطاة و هي مما يتعاطاها الناس في الحقير و غيره في شرق الأرض و غربها عند جميع الملل من غير صيغة و أكثر ما يستعملها الناس في البيع و الإجارة بحيث أن المبيع و المستأجر في الصيغة أقل قليل، و ينتهي الكلام عليها مفصلا بذكر أمور أولها.

أولها: أن هناك عمومات وردت من الشارع لم تزل أصحابنا تركن إليها في أغلب أبواب الفقه ك (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) و (تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) و (

الناس مسلطون على أموالهم

) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (

المؤمنون عند شروطهم

) (و البائعان بالخيار ما لم يفترقا

) و غير ذلك. و هذه العمومات لا ريب في ورودها من الشارع و صحة الأخذ بما تشمله و العمل عليه، بل لزوم ذلك في بعض المقامات (فأحل الله تعالى البيع) يقضي بحليّة جميع التصرفات المترتبة على البيع المفيد للملك مثل توريثه و نقله و إعطائه و عتقه و وطئه و الايصاء به له و غير ذلك مما يترتب على البيع، بل قيل أن الآية تدل على صحة البيع لا مجرد الحكم التكليفي، و إن تردد فيه شيخنا (رحمه الله) لكنك بعد التدبر فيما وقع في الكتاب العزيز من الآيات المتضمنة مؤدى التجارة عن تراض في ترتيب الآثار عند تحقق المبادلة من الطرفين حتى مع ضمان الثمن و مثله (عموم تسلط الناس على أموالهم) فإن مفاده إن ما يتصرفون فيه مقبول عند الشارع فيما هم مسلطون عليه من أموالهم، و لا ريب أن البيع و شبهه كالأكل و الشرب و اللبس في كونه من طرق الانتفاع بالمال و التصرف فيه و قد سلطه الشارع عليه فلا وقع لما يزعم من ورودها في بيان أصل التسلط في الجملة لا لبيان الأذن في مطلق التصرفات كي يتمسك بإطلاقه في صحة معاملة مشكوكه فالمراد (بالتسلط) التسلط حسب الطرق المقررة من الشارع فإنه خلاف الظاهر و لا قرينة تصرف اللفظ إليه بل ظاهر العبارة الإنشاء لإمضاء تصرف المالك على أي نحو أراد، و لو لا ذلك لما استدلوا به في كون الإسقاط يوجب السقوط، و في كون الأذن مبيحا للتصرف بتقريب إن الشارع سلطه على ما هو له من مال أو حق و ليس معنى التسلط إلا إمضاء الشارع لفعل من له ذلك فلو

ص: 191

قيد تسلط المالك على ماله و سلطنته على نحو ما قرره الشارع فلا يفيد ترتب الأثر على غير ما قرره الشارع بحيث يحتاج إلى دليل آخر غير القاعدة في إثبات صحة ذلك التصرف لطولب المقيد بالدليل، و كونه القدر المتيقن لا يثبت التقييد، و أما آية الوفاء بالعقد فظاهر الأمر فيها وجوب الوفاء بكل عقد أي الالتزام بترتيب الأثر الحاصل من العقد الواقع بين اثنين، فيعم كل عقد إنما الأشكال في عموم الآية للعقد الذي لم يتداول أو العقد الذي شرعه المتعاقدان لثمرة مقصوده فإن عممنا الآية لكل ما يسمى عقدا أمكن الاستدلال بها على العقد المستحدث كغيره إذا شك في صحته و فساده لفقد ما يحتمل كونه شرطا أو وجود ما يحتمل المانعية أو في اشتراط شي ء أو مانعيته فيحكم بالصحة و ترتب الأثر، و إن صرفنا العقود إلى المتعارفة في زمن الشارع فيحتاج في دخول المستحدث أو المشكوك في كونه متعارفا إلى دليل آخر غير عموم الآية أو إلى إثبات أنه من المتعارف ليندرج في عمومها، رجح جدنا كاشف الغطاء و بنوه و منهم الوالد بأنواره وفاقا لجماعة أن المراد (بالعقود) العقود المتعارفة قالوا: (أن الجمع المحلى و إن أفاد العموم بالوضع لكن ذلك في الخالي عن العهد أو مجاز آخر، و هنا ليس كذلك، و نظيره ما ذكروا في الاستغراق العرفي مثل: (جمع الأمير الصاغة) و لا ريب أن هناك عقود متعارفة بين الناس لتوقف أمر معاشهم عليها فلا ينصرف الخطاب إلا إليها، فكل عقد ثبت تداوله صح دخوله في عموم العقود، و ينفي شرطية المشكوك فيه أو مانعيته بالأصل و عموم الآية دون ما إذا شك في الصحة و الفساد للشك بكونه من المتعارف أم لا و هو وجيه و يعرف المتعارف بتعارفه زمن المستعمل الكاشف عن تعارفه في الزمن السابق بأصالة التشبيه و عدم التغيير، و به طفحت كلمات كثير من المحققين، و مثلوا للأفراد المتعارفة بالبيع، و الإجارة و الصلح، لكن ينبغي أن يتأمل في أن العقود منها جائزة و لازمة، و منها أنواع شائعة و غير شائعة و الأنواع الشائعة لها أفراد نادرة، و غير نادرة. و قد ألزم الشارع الوفاء بها فإن صرفناها للأنواع الشائعة و أفرادها الشائعة من العقود المعلومة اللازمة لغى التمسك بالآية رأسا إذ لا يبقى لنا شك في نوع، و لا في فرد من نوع حتى يتمسك بها عليه مع أن معظم الاصحاب لم يزالوا يركنون إليها و يتمسكون بها، فالأوفق بظاهرها أن تعم كل عقد سواء كان من الأنواع أو الأفراد مما يصدق عليه اسم العقد إلا ما يشك في صدق الاسم عليه فلا ريب بخروجه و شمولها للأفراد مطلقا من الأنواع الشائعة كأنه لا شبهة فيه، و أما للأنواع النادرة فكذلك و إن كان شمول العام لها أخفى من الفرد و حينئذ فكلما شك في نوع من العقود أو في فرد من نوع شائع أو غير شائع في أنه هل يجب ترتيب الأثر على وقوعه أم لا؟ حكم بصحته و لزومه للآية. نعم يخرج كثير من العهود عن الآية من جهة عدم لزوم الوفاء بها سواء كان ذلك العهد الخارج في الأحكام الآلهية أو في بين الناس و خروج الأكثر يوهن عموم العام بل صرحوا بعدم جوازه فيدور الأمر بين التزام خروج الأكثر أو حمل العموم على الشائع المعهود، و الأول ممنوع، و الثاني مخرج للآية عن الدلالة على ما هو المراد من التمسك فيها بالمشكوك، و لا يبعد أن ارتكاب الأول لو فرض أولى من الحمل على المعهود الذي معه يسقط التمسك بها في الموارد المشكوكة مضافا إلى أنا ننكر أكثرية الخارج بعد كون العموم إفراديا، فإن إفراد العقود الصحيحة أكثر وجودا من الفاسدة كما أن أفراد الواجب في التكاليف أكثر وقوعا، فالعهود اللازمة الوفاء أكثر افرادا من غيرها على أن استهجان تخصيص الأكثر إنما هو مع عدم بقاء كثرة يعتد بها، و هنا ليس كذلك حتى لو أريد الأنواع فإن ما يلزم الوفاء بها أيضا كثيرة، و جزم بعض من قاربنا عصره من الفضلاء في مؤلف له بلزوم الحمل في الآية على المعهود قائلا:

ص: 192

(أن الحمل على العموم حيث لا قرينة لازم) و إما مع وجودها أو وجود ما يصلح أن يكون قرينة ممنوع لأنهما يرفعان الظهور المعتبر في الحمل على الحقيقة و الآية في المائدة- و هي آخر السورة- و قبل نزولها قد علم من الشارع أحكام و عهود معلومة من الواجبات و غيرها، و علم صحة بعض العقود و بعض الإيقاعات فينصرف الخطاب في الآية إليها) و ضعفه لا يخفى إذ بعد الاعتراف بالسبق لا يصلح بمجرده أن يكون قرينة للتخصيص فيه بعد وجود غيره من الأفراد المندرجة تحت العموم، و لا دلالة للام العهد على ذلك ما لم يتيقن التخصيص و لم يلتزمه أحد في لفظ الفواحش و الزور و غيرهما مما له أفراد متعارفة و الكتاب نسق واحد فلو كان التعارف أو المعهودية تصرف العام لجرى ذلك في جميع العمومات الواقعة في القرآن. نعم يتم ذلك في المطلق مع غلبة الإطلاق لا غلبة الوجود إذا لم يكن شبهة في إطلاق اللفظ عليه على أن من وقفنا على كلامه من المفسرين يظهر منهم التعميم إلا الزمخشري على احتمال في كلامه. قال: (إن العقد العهد الموثق لشبهه بعقد الحبل، و هي العقود التي عقدها على عباده و ألزمها إياهم حتى قال: (و الظاهر انها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله و تحريم حرامه و انه كلام قدم مجملا ثمّ عقب بالتفصيل و هو قوله تعالى: (أُحِلَّتْ إلى آخره)) انتهى، و من أجله تردد الاردبيلي في آيات أحكامه في المراد من الآية و بالجملة فظاهر الآية تقضي بلزوم الوفاء بكل عقد، و لازم ذلك الصحة فيما يصدق عليه أنه عقد فالصغرى هذا عقد، و الكبرى كل عقد يلزم الوفاء به و تقييد الصغرى بالصحيح خلاف الظاهر كتقيده باللزوم أو بالمتداول أو بالمقرون بالصيغة أو مطلق التلفظ على اختلاف المشارب، فيخرج غير اللازم و غير الصحيح بدليله و ما يشك فيه يندرج في العموم.

و أما الأخبار الناطقة بأن (المؤمنين أو المسلمين عند شروطهم) فبان الشرط هو الالتزام- و هو مفيد- للصحة فيما هو كذلك و العقود عهود فيها إلزام و التزام أو أن الشرط الربط فيشمل العقد مطلقا لأنه تعليق أحد الطرفين و الشارع أمضى كل شرط فيعم العقود، و الخارج بالدليل لا ينفي حجية العام في الباقي و مثله دلالة قوله" عليه السلام": (

البائعان بالخيار

إلى آخره) فإنه و إن اختص على لزوم مطلق البيع و إمضائه عند الشارع بعد التفرق لا مطلقا العقد لكن المعلوم عدم الفرق و إليه نظر من أجرى جميع أحكام البيع في العقود اللازمة غيره على أن التفرقة لا تضر فيما نحن بصدده بل يكفي ما تقدم، إذا تمهد ذلك فنقول: إنه لا أشكال في أن الشارع رتب أحكاما على البيع و قد اضطربت كلمات العلماء في معرفة البيع الذي ترتبت عليه تلك الأحكام، و تحديده بالجامع المانع و منشأ الاضطراب فقد النص الصريح و الإجماع على أن البيع و ما يتحقق به البيع ما هو فتراهم بين من أقتصر على ما ثبت شرعا من معناه الجامع لشرائطه مع الظن بعدم ظهور معنى لغوي أو عرفي له، و إليه يومى قول من أشترط الصيغة مع باقي الشرائط المختلفة فيها و غيرها في تحقق البيع و لزومه، و بين من ظن ظهور معناه لغة و عرفا لكن جمد على أن البيع المؤثر هو كان مع الصيغة لا ما جمع جميع الشرائط المختلف فيها كالأول، و بين من لم يتحقق عنده دليل على الاشتراط مطلقا مع تحقق المعنى اللغوي أو العرفي عنده فوسع الدائرة، و اكتفى فيه بما يدل على الرضا من الجانبين من قول و تعدى بعضهم إلى الفعل أيضا بحيث يفهم منه نقل المالك ملكه بذلك اللفظ أو الفعل على القول الآخر إلى آخر بعوض معلوم بالطريق المعهود، كما أن الأغلب حصر المعوض بالعين و أطلق في العوض قيل و عليه استقر اصطلاح الفقهاء، و ما يظهر من بعضهم كبعض الأخبار الظاهرة في نقل

ص: 193

بعض المنافع حملوه على المسامحة في التعبير. نعم لا ريب في جواز جعل العوض عينا، أو منفعة، أو حقا و لا يضر فيه أن البيع نقل الأعيان الشامل للعوض و المعوض لظهور أنه مسوق لبيان معنى البيع مثل الإجارة لنقل المنافع. و الظاهر أن ما يقابل بالمال يصح جعله عرفا عوضا و معوضا فيشمل الحقوق و المنافع على تأمل في الأول.

نعم لا يبعد اشتراط تحقق المالية قبل النقل فيهما لكن فيه ايضا تأمل بالنسبة إلى المعوض لأنه خلاف ما عليه الأكثر في شرائط العوضين فيشمل حينئذ بيع خدمة المدبر و سكنى الدار و أرض الخراج و الحقوق القابلة للمعاوضة كحق التحجير و غيره و منافع الحر و بيع الدين و غيرها فإن خرج عن الكلية بعض الأفراد فبدليله، و هذا التعميم لجهة أنه لم يتحقق أن للفظ البيع حقيقة شرعية أو متشرعية، و الظاهر أنه باق على معناه العرفي كما حكم به جمع من المدققين و منهم شيخنا في مكاسبه فلا مناص إلا أن نصحح البيع في كل ما أستعمل العرف البيع فيه إلا ما استثناه الشارع و إن تداول عرفا فلا حاجة لنا في التعرض لما ذكروا من حدود البيع لانتشار المذاهب فيه فكل بحده مما ترجح عنده من معناه فالمهم تمييزه عن غيره من العقود لاختلاف أحكامها و الظاهر أن من البديهيات أن ما يتحقق به البيع عرفا أمر مضبوط معلوم عند العرف مع قطع النظر عن الشرع بل عند عامة الملل بل كثيرا ما رتب الشارع و المتشرعة من الفقهاء و غيرهم أحكام البيع مطلقا على بيوعات العوام الذين لا يهتدون إلى الصيغة و لا يحسنونها و لا غيرها فيردون المبيع بالعيب أو عدم الرؤية أو غيرهما و يمضون المبايعة بما يدل عليها مطلقا و يسقطون خيار الحيوان بعد الثلاثة و قبلها لا يسقطوه مع حصول الظن القوي لهم بعدم جامعية البيع لسائر الشروط، و لم نجد من يفصح حتى مع وجود العلم الإجمالي و تقبض أعاظم التجار من المتدينين الأعيان الغالية الثمن بقول البائع (هذا من نصيبك) و تبيعه من الغير، و تجري عليه أحكام الملك إلى غير ذلك ما يقضي بتحقق البيع العرفي قولا فما هو إلا لأن للفظي البيع و الشراء مما يستعمله عامة الناس معنى لا يشككون و لا يترددون فيه، و لا يحتاج فهمه إلى القرينة سواء كان ذلك بقبض العوضين أو أحدهما مع ضمان الآخر بالألفاظ الدالة على ذلك مطلقا و بعد تحقق البيع عرفا يثبت لغة و شرعا بضميمة الأصل فلا فرق حينئذ بين البيع معاطاة، أو بالصيغة المعهودة أو غيرهما مما يصدق عليه الاسم.

لا يقال أنه لا إشكال في ان للشارع تصرف في البيع فالأخذ بما جمع الشروط من افراده و الحكم عليه بالصحة أخذ بالمتيقن مما يترتب عليه الأثر عنده و كون المعهود من طريقة العرف ما ذكر ليس بحجة تامة في أنه عند الشارع كذلك خصوصا بعد النهي عن بعض البيوع و فسادها و بعد الجزم بأصالة الفساد في المعاملة فحينئذ لا بيع ماض و ملزم إلا ما جمع الصيغة الخاصة المنوية مع القصد إلى النقل مع الإيجاب و القبول و غير ذلك مما اعتبر فيه، و إن اختلف في اشتراطه، لأنا نقول مضافا إلى ما مر عليك من الحجة القاطعة إن النافي لصحة البيع و في فاقد الصيغة المعهودة و أمثالها إن نفاه عرفا فلا يسلم له عدم الصدق العرفي للاستعمال المعلوم و لعدم صحة السلب و للتبادر في فهم البيع من أسبابه حتى عند من لا يعرف الصيغة و لصحة (بعت المتاع) و لم أجر الصيغة و صحة الاستفسار عن إجراء الصيغة بعد قول البائع ذلك، و إن نفاه شرعا فممنوع أيضا بعد ما ذكروا من أن تحققه العرفي و ثبوته يثبته لغة و شرعا بضميمة الأصل، و عمومات الكتاب و السنة الدالة على تحقق البيع و جوازه و الإجماع القطعي المستفاد من عمل الناس و فتاوى أكثر العلماء في المعاطاة و إطلاق الأخبار في جواز بيع ما ابتيع اللازم لجواز بيع السلعة للمشتري و إن كان على طريق المعاطاة، بل في الصحيح إيماء لذلك ففي بيع المشتري قيل

ص: 194

أداء الثمن قال" عليه السلام": (

لا بأس بذلك الشراء أ ليس قد ضمن لك الثمن؟ قلت: نعم قال: فالربح له

) و هو قاض بجواز البيع بمجرد ضمان الثمن حتى مع عدم إجراء الصيغة و جواز بيع المشتري يقضي بملكيته له إذ لا بيع إلا في ملك كما نطقت به الأخبار، و في صحيحة جميل الواردة فيمن اشترى طعاما و ارتفع أو نقص و قد اكتال بعضه فأبى صاحب الطعام أن يسلم له ما بقي و قال: إن مالك ما قبضت، فقال" عليه السلام": (

إن كان يوم اشتراه ساعره على أنه له فله ما بقي

) و في صحيحة العلا: (

إني أمر بالرجل فيعرض علي الطعام حتى قال فأقول له: أعزل منه خمسين كرا أو أقل أو أزيد فيزيد و ينقص و أكثر ذلك ما يزيد لمن هو؟ قال" عليه السلام": هو لك

) الحديث. و ظهورهما في عدم جريان الصيغة لا ينكر و لو منع فيكفي عدم الاستفصال في العموم و لمفهوم الغاية في المعتبرة القاضية (بأن البائعان بالخيار ما لم يفترقا) و لعموم الصحيحين في أحدهما: (

إذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما

) و في الآخر (

إذا افترقا وجب البيع

) و الخبر (

إذا صفق الرجل على البيع فقد وجب خرج ما خرج و بقي ما بقي و لترك الاستفصال في خيار الشرط و العيب

) ففي الصحيح: (

عن الرجل يبتاع الجارية فيقع عليها فيجد فيها عيبا بعد ذلك، قال لا يردها على صاحبها

) و في الآخر قال: (

إن البيع لازم

) و في الخبر (

الرجل يشتري زق زيت فيجد فيه درديا، فقال: إن كان يعلم إن الدردي يكون في الزيت فليس له أن يرده

) و في الموثق: (

عن الرجل باع جاريته على أنها بكر فلم يجدها على ذلك فقال لا يردها عليه

) الخبر، و رواية ابن صدقة (

عن الرجل يشتري المتاع و الثوب فينطلق به إلى منزله و لم ينفذ شيئا فيبدو له فيرده، هل ينبغي له ذلك له؟ قال" عليه السلام" لا إلا أن تطيب نفس صاحبه

) و مكاتبة ابن عيسى (

المتاع يباع فيمن يريد فينادي عليه المنادي فإذا نادى عليه برأ من كل عيب فيه فإذا شراه المشتري و رضيه و لم يبق الا بعده الثمن فربما زهد فيه و ادعى فيه عيوبا و إنه لم يعلم بها فيقول له المنادي قد برأت فيها فيقول المشتري لم اسمع البراءة منها أ يصدق؟ فلا يجب عليه الثمن أم لا يصدق فيجب عليه الثمن؟ فكتب" عليه السلام" عليه الثمن

) إلى غير ذلك مما يلوح منه و يصرح بما ذكرنا غير أن المشهور ذهبوا إلى عدم لزوم البيع إلا بالصيغة الخاصة، و ذكروا لذلك حجج من الإجماع المنقول و من اقتضاء الأصول و من أن اللزوم يتوقف على نقل الملك بالبيع الصريح و الدال على النقل صريحا منحصر في الصيغة المخصوصة، و من بعض الظواهر كالصحيح (

الرجل يجي ء و يقول اشتر هذا الثوب و أربحك كذا و كذا قال أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟ قلت: بلى قال: لا بأس إنما يحلل الكلام و يحرم الكلام

)، و الخبر (

رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن من القصب من انبار بعضها على بعض من أجمة واحدة و الأنبار فيه ثلاثون ألف طن فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن، فقال المشتري قد قبلت و اشتريت و رضيت حتى قال: و أصبحوا و قد وقع النار في القصب عشرون ألف طن و بقي عشرة آلاف طن فقال" عليه السلام" العشرة آلاف التي قد بقيت للمشتري

). و ما ورد في شراء الكتاب المبين قال" عليه السلام" في الموثق (

و قل اشتريت منك هذا بكذا و كذا

) و في المرسل (

و قل أشتري منك هذا بكذا و كذا

) و فيه أيضا رواية أخرى و ظاهر الجميع يقضي أن البيع الذي لا يرد و البيع الصحيح هو ما قارن الصيغة و ضعف التمسك

ص: 195

بهذه الوجوه يظهر مما مر في مطاوي فوائدنا فإن حجية منقول الإجماع منفية على ما هو الحق و أصالة عدم صحة الملك و الانتقال أو ترتيب أحكام البيع قد عرفت زوالها بوجود الدليل القاطع لها حتى اصالة عدم اللزوم لانقلابه به بالنسبة إلى تمام العقود التي أولها البيع كما سيتضح لك ذلك على أن قبل ملك المشتري لا لزوم و لا عدمه و بعد تملكه للعين المبيعة لا يعلم المحقق منهما و ليس أحدهما أوفق بالأصل من الآخر، و أما الصراحة فلو سلمت فلا يتم معها الانحصار في الصيغة و مع عدمه تتبعض الصفقة و أيضا قد يمنع الصراحة فيها إن أريد بالصريح الدال بحسب الوضع الحقيقي و الأخبار المذكورة غير ظاهرة فضلا عن كونها صريحة بالمراد (فإن إنما يحرم إلى آخره في الخبر الأول تعليلا لصدره يعني أن ذلك لا بأس به من جهة إذنه له في الشراء فإن المحرم لمثل ذلك عدم الإذن فقوله (اشتر) يقضي بحلية الشراء للآخر، و أما حمله على إعطاء قاعدة كلية هي أن الحل و الحرمة تدور مدار الكلام وجودا و عدما و إن صدق تحقق العقد العرفي فالرواية غير ظاهرة في ذلك و خياله للبعض تمحل و تصرف في الخبر بلا موجب كما أن الباقي من النصوص المتوهم لا دلالة فيها فإن قوله (الباقي للمشتري و إن قضى باللزوم) مع الصيغة لكنه لا يفيدان الصحة و اللزوم لا يكون بغيرها و أخبار شراء كتاب الله مسوقة لبيان تعيين المبيع لا لبيان ما يتحقق به البيع و أين هذا من ذاك فهي ناظرة لغير هذا الحكم كما هو غير خفي على من سرد الأخبار حينئذ فإذا كان صحة البيع و لزومه تابعة لصدق البيع العرفي و تحققه يبقى الإشكال في معرفة البيع المذكور مع اختلاف العرف، و إن كان القدر الجامع مركوزا في الأذهان و حيث أن الأصحاب (رضوان الله عليهم) لم ير الاكثر منهم صحة البيع و لزومه و لا غيره من العقود بمجرد صدور الفعل من دون لفظ يدل عليه مع القدرة على التلفظ حتى كاد أن يكون إجماعا، بل نقل عليه الإجماع بل في بعض النصوص إيماء إليه فلا جرم أن حذوا حذوهم و لا نخالف معظمهم و إن لم يبعد الحكم بوقوع البيع بالفعل الدال عليه و ترتب أحكامه مطلقا لا مع عدم القدرة و العجز عن الكلام فإنه لا إشكال في صحته بل و لزومه بمطلق الفعل الدال عليه من إشارة و غيرها، و لا يجب على العاجز التوكيل و إن قدر عليه لفحوى ما دل على عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس مطلقا و لو حملنا إطلاقه على صورة العجز حتى عن التوكيل قصرناه على الفرد النادر، و الظاهر أنه لا خلاف فيه ثمّ اللازم أن يتحرى في العاجز أقوى الإمارات القاضية بالرضا في صدور العقد فلا تقدم الكتابة على الإشارة مع إمكانها متى كان أحدهما أصرح في الدلالة على الرضا من الآخر، و هكذا و الذي يترجح في النظر بعد الجزم باعتبار اللفظ في البيع و غيره هو الاكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي معتد به في المعنى المقصود وفاقا لجماعة من المحققين لكن يشترط في ذلك اللفظ أن يميز ذلك العقد الذي يوقعه به عن غيره من العقود الشرعية و معنى تشخيصه إيقاعه باللفظ الدال عليه بخصوصه و ذلك لاختلاف أحكام العقود فيلزم إما أن يعبر عن العقد المراد بلفظه الصريح الوارد من الشرع أو بلفظ لا يحتمل غيره لا قريبا فلا يقع على الظاهر بالكناية إلا إذا كانت كالصريح بحيث لا يحتمل السامع شيئا غير المكنى عنه و كذلك باللفظ المجازي و اللفظ المشترك و إن كان الاشتراك معنويا و قد ذكروا أن لا فرق بين (بعت) و (ملكت) أو (نقلته إلى ملكك) أو (جعلته ملكا لك بكذا) و جوز بعضهم البيع حالا بلفظ السلم و غير ذلك، و ذكروا في القراض بجواز انعقاده بغير لفظه مثل (تصرف فيه) أو (أنتفع به) و عليك رد عوضه أو خذه أو أقبضه بمثله، و في الرهن أيضا صرح بعضهم بانعقاده بغير (أرهنت من) الألفاظ مثل (وثيقة عندك) أو (أمسكه) أو (خذه بمالك) و كذلك جوز انعقاد الضمان بمثل (تعهدت المال

ص: 196

و تقلدته) و صحح غير واحد الإجارة بلفظ العارية و حكم البعض بانعقاد الاجارة بلفظ بيع المنفعة و صحة الوقف بلفظ (حرمت) و (تصدقت) مع القرينة مثل: (لا يباع) و (لا يرهن) و (لا يورث)، و ذهب الأكثر إلى جواز المزارعة بكل ما يدل عليها و إلى جواز النكاح بلفظ (التمتع).

و الحاصل أن المناط ما ذكرناه و إليه يرجع تعليل الفاضل في المنع بأن المخاطب لا يدري. بم خوطب؟ إنما الإشكال في أن المدار في ذلك على فهم المخاطب أو تبادر العقد المراد له و لغيره من ذلك اللفظ بحيث إن السامع مطلقا لا يحتمل سواه و لا يتردد بينه و بين عقد آخر، و لعل الثاني هو الأوفق فلا يكفي في تحقق العقد المراد سبق مقال أو اقتران حال يدل عليه حتى في المعاطاة على الأشهر إلا أن التزام ذلك ربما ينافيه تصريح البعض بوقوعه ببعض الكنايات و المجازات فالأحرى في الضابط هو اعتبار إفادة المقاصد بالأقوال الصريحة بذلك العقد أو النظر في الأحكام الشرعية المرتبة عليه فإن كان الذي يظهر منها أنها مرتبة على ذلك المعنى المؤدي بهذا اللفظ بخصوصه فلا يصح العقد و لا يلزم شرعا بغيره كما ذكروه في النكاح فلو وهبت المرأة بضعها لا يرتب عليه أحكام التزويج لأن اللفظ مدخلية في ذلك بخلاف ما لو كانت الأحكام المرتبة لا يظهر منها ذلك بل هي مرتبة على المعنى العرفي المؤدي بأي لفظ يكون بحيث لا يحتمل ذلك اللفظ غير ذلك المعنى المرتب عليه تلك الأحكام الشرعية فلا بد حينئذ من سبر الأحكام و النظر في النصوص، و هذا شي ء سار في العبادات و العقود بل في كل ما للشرع دخل فيه نظير السورة و الدعاء بالقنوت في الصلاة، كالدعاء غير التكبير في صلاة الميت و غيرها مما ليس للفظ الخاص فيه مدخلية و لا هو موضوع لذلك و ما شك في مدخلية اللفظ المخصوص فيه و عدمه شرعا تجري فيه الأصول، و أظن أن بهذا يجمع بين أغلب الأقوال المختلفة في المسألة، و عليه فيحصل البيع بالألفاظ التي تعينه و تميزه عن غيره غير أن بعضها يحتاج إلى القرينة أما لكونها ضدا أو لاستعمالها في غير البيع فمثل (بعت) لا تحتاج إلى القرينة و إن كانت ضدا بل صرح بعضهم بصحة البيع إن وقعت في القبول أيضا و لا كذلك مثل (اشتريت) لأنها ضد، و لم تشتهر في الإيجاب ك (بعت) و مثله (ملكت) بالتشديد لاستعمالها في الهبة و لا يفيد اقترانها بذكر العوض لأن الهبة المعوضة كذلك إلا أن يقال بأن (ملكت) مع اقترانها بالعوض بحسب الوضع التركيبي لا تحتمل غير البيع من الهبة المعوضة أو الصلح إلا بقرينة، و عليه فلا إشكال في صحة الإيجاب بها، و قيل أيضا إن (شريت) لا تحتاج إلى القرينة في الإيجاب و إن كانت ضدا بل تقديمها يكفي للزوم تقديم الإيجاب أو لغلبة ذلك، و نوقش بعدم جواز الاعتماد على غير القرينة اللفظية ورد بأن غير القرينة اللفظية لا تكفي في تشخيص العقود عن بعضها. و أما في تمييز الإيجاب عن القبول الراجع إلى تمييز البائع عن غيره فلا تعتبر بل يكفي استفادة المراد و لو بقرينة المقام أو غلبته، و كذلك لا إشكال في صراحة (قبلت) في القبول ك (بعت) في الايجاب و أما غيرها فلا، مثل (رضيت) و (اشتريت) و (ابتعت) و (ملكت) مخففا و ذكر الشهيدان: (أن الاصل في القبول (قبلت) و غيره بدل).

و يظهر من غيره (أن الأصل في القبول هو كل لفظ لا يمكن الابتداء به و ما سواه مما يمكن ان يبتدأ به هو البدل فلا فرق بين (اشتريت) و (أمضيت) و (أجزت) و (أنفذت) إلا في غلبة الاستعمال، و لو اختلف البائعان في تعيين الموجب و القابل منهما مع عقدهما باللفظ المشترك و استقرب شيخنا التحالف ثمّ عدم ترتب الآثار المختصة بكل من البيع و الاشتراء على واحد منهما دون ما اشتركا في حكمه و لعل له وجه يخرج على القواعد. و كيف كان

ص: 197

فيظهر مما غبر أن اعتبار العربية في البيع و نحوه لا وجه له بعد تحقق معناه فيصح بكل لغة تفيده و كذا بالملفق من العربي و غيره مثل (بعتك) (أين چيز را بصد) دينارا و بدرهم، و لكن جماعة اعتبروا العربية فيه و في كل عقد يلزم، و بعضهم أطلق إلا في الوصية و الإقرار و الوديعة و العارية و الوكالة و نحوها من العقود الجائزة لأصالة عدم النقل في الأعيان و المنافع و عدم الانتفاع و ترتب الأثر إلا بالمتيقن و لانصراف العقود إلى المعهود و للتأسي، و لان العقود نقلت من الأخبار إلى الإنشاء في ألفاظها المخصوصة و لم يثبت نقل ما يرادفها في المعنى من سائر اللغات إلى الإنشاء أيضا على أن الشارع اعتبر العربية في مواضع عديدة مثل القراءة و الذكر و التلبية و لم يجتزئ بما يرادفها مع أن المثبت و النافي لم يجوزوا ذلك في خصوص النكاح بل يظهر منهم عدم ترتب الأثر في الظهار و اللعان و الإيلاء و العهد و اليمين بغير الألفاظ العربية، و ضعف الجميع ظاهر بممنوعية استفادة الحصر و اندفاع الأصل بأدلة التعميم من الاطلاقات الدالة على صدق المعاملة و الإيقاع بأي لغة كانت و الأصل عدم الشرطية فيشمله عموم الوفاء بالعقود، و (

المؤمنون عند شروطهم

) و (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) و (

إنما يحلل الكلام و يحرم الكلام

) بناء على عدم ارتباطه بصدر الخبر و التأسي في غير ما علم وجهه ليس بحجة و بأن الترادف يقضي بالمساواة من كل وجه بعد الاعتراف به، و قياس المعاملات على العبادات لا نقول به مع أن المعاملات العبرة فيها بالمعاني دون الألفاظ، و ليس اعتبار اللفظ فيها إلا من جهة الكشف فقط، و اعتبار العربية في بعضها بدليله لا يقتضي التعدي لجميع العقود و إلا لجرى ذلك فيما ذكروا صحته في كل لسان، فالأقرب الجواز بغير العربية في جميع العقود و الإيقاعات إلا ما قام الإجماع على عدمه و إلا لبطلت معاملة غير العرب ممن لا يعرف العربية، و لا يعسر عليه تعلمه مع أنه لا قائل به، و عمل الصدر الأول، و ما بعده على عدمه، و على العربية فالظاهر أنه لا عبرة بالملحون و إن لم يغير المعنى و عدم كفاية عربية الصيغة فقط بل هي و ما تتعلق بها من جميع أجزاء الإيجاب، و القبول و يلزم أن يتعلم مع التمكن منه و في اعتبار الماضوية إشكال، و الأقوى العدم و إن أعلن به البعض للإطلاق في الآيتين، و لما دل في بيع الآبق و اللبن في الضرع بلفظ المضارع و فحوى ما قضى به في النكاح لكن حيث يكون المضارع صريحا في الإنشاء، أو تكون القرينة عليه ظاهرة.

ثانيها: أنه لا إشكال في أن جملة العقود و الإيقاعات لا تنعقد بالنية و لا يرتب بها عليها أحكامها بل لا بد من دال يدل على العقد و هو منحصر بالفعل و القول.

و الأول إما أن يكون في حالة الاضطرار أو لا. و الأول لا إشكال في تحقق العقد به و يعتبر فيه الصراحة بالمراد بما يورث الظن الاطمئناني.

و الثاني: إما أن يكون في الإيقاعات أو العقود المجانية أو المعاوضة و الأرجح في الأول الأوفق بكلمات السلف عدم كونه سببا في الإيقاعات المعروفة من الطلاق و الظهار و اللعان و الإيلاء و العتق و الإقرار و النذر و العهد و اليمين و هكذا فيما يشبه العقود من الإيقاعات كالوقف على الجهات العامة و الوصية لها و كالإذن الموجب لإباحة التصرف و سقوط الضمان و مثله الإجازة و بدل الزاد و الراحلة الموجب لوجوب الحج و الأخذ بالشفعة و التدبير بناء على أنه وصية لا عتق و عسى أن يقال: بل قيل بكفاية الفعل في السبعة الأخيرة إلا التدبير لتحقق العمل بين المسلمين الكاشف عن رضاء رئيسهم فإن بناء العرف استقر على أن بناء المسجد و بمجرد وضع الحصير فيه و القنديل في المشهد يكفي في وقفيته و أن دفع المالك العين المبيعة فضولا للمشتري يكفي في الإجازة و كذا الثمن و مثل

ص: 198

ذلك قبض المشفوع للشفيع و إعطاء العوض و أخذ المعوض لمن له الفسخ، و هكذا في اسقاط الحقوق فيكون الدليل القاضي بترتب الحكم عليها مخصصا لعموم ما دل على (أن المحلل و المحرم هو الكلام).

و الحاصل أن كفاية الفعل في مثل ما ذكرنا كان العمل عليه. و أما الثاني و هو العقود المجانية كالوقف الخاص و الصدقة و العطية و السكنى و التحبيس و الهبة الغير معوضة و الوديعة و العارية و الشركة الاختيارية و الوكالة العارية عن الجعل و الوصية للجهات الخاصة و الوصايا و الكفالة و الضمان فحكمها الأولي عدم ترتب الأثر إلا بالسبب الشرعي لكن يمكن أن لا ينكر كفاية الفعل في الصدقة و العطية و عدم احتياجهما إلى اللفظ فضلا عن الصيغة الخاصة. نعم في الهبة و الوديعة و العارية إن أمكن تحققها بنفس الفعل فهو أيضا كذلك و أما لو لم يمكن إلا بلفظ يدل على تمييز مفاهيمها فلا بد منه، و أما الصيغة الخاصة فهي أحد ما يتميز به المراد و لا انحصار لها فيها، و أما الوقف و السكنى فالظاهر منهم عدم انعقادهما بالفعل و إن كشف عنهما، و كذا في الوصية و الوصايا و الوكالة، و الكفالة، و الضمان لكن يبقى بعد اعتبار الصيغة الخاصة أو مطلق اللفظ الدال عليها بحيث أن يتشخص به المراد و يظهر من سلفي الجعفريين (رحمهم الله) إن كل ما جرى عليه العرف و أخذت به و عملت فيه مما ذكرنا سواء كان من فعل أو قول يترتب عليه الأثر و يحكم به لدخوله تحت الاسم و هو يكفي في صحته و ترتب الأثر عليه فحينئذ يلزم الفقيه تتبع الموارد فكل مورد يتحقق فيه ذلك و يندرج تحت واحد منها تلحقه أحكامه فلا فرق بينها، و من فرق من الأصحاب نظرة إلى عدم الاندراج في بعضها و عدم لحوق الاسم لا أن للصيغة الخاصة أو لمطلق الكلام خصوصية فينبغي التأمل في الاستعمال العرفي، و بعض من عاصرناهم أنكره غاية الإنكار و شنع على من يذهب إليه، و الإنصاف عدم تمامية الفعل الكاشف في بعضها و نفس السيرة مع خلاف المتشرعة لا تفيد شيئا و لو فرض كفاية ذلك فكونه مملكا أو مبيحا يظهر وجه في عقود المعاوضة لأنها هي محل الابتلاء فنقول: لا شبهة في عدم كفاية الفعل، و الرضا في خصوص النكاح مطلقا لمنافاته لحكم تشريعه و لاختلاط الزنا بالنكاح حينئذ و عدم تمييزه فهو و إن كان معاوضة و ذكرنا أن المعاوضة يكفي فيها الرضا ببذل العوض و المعوض، و قبض كل ما بذل له، و إن العمومات تقضي بالصحة لكن في خصوص النكاح موانع جمة تمنع من إجراء هذا الحكم بل الاتفاق على عدمه، و أما بالنسبة إلى سائر المعاوضات غير البيع فالأظهر جريانها فيها لو قلنا به في البيع، و حكم الفاضل بعدم القول بالفصل بين البيع و الرهن و يظهر منه عموم جريان حكمها في باب المعاوضة و استشكله في جامع المقاصد بثبوته بالإجماع في البيع دون ما هنا أي الرهن، و وجهه شيخنا بأن حكم المعاطاة أما إباحة أو بيع متزلزل و هما لا يأتيان في الرهن لعدم تصور الأول و منافاة الثاني للوثوق و لزوم الملكية التي لا تنافيه لو ادعى رجوعها إليه تحتاج إلى اللفظ لما أطبقوا عليه من توقف العقود اللازمة على اللفظ، و لذا توقف المحقق الثاني في إجراء المعاطاة في الرهن و جزم بعدمه في الإجارة و الهبة و القرض، و أما في خصوص البيع فالأقوال فيه على ما قيل؛ ستة اللزوم مطلقا و اللزوم بشرط أن يكون الدال على التراضي من الالفاظ أو ما يقوم مقامها في مقام عدم القدرة، و الملك لغير اللازم و عدمه مع إباحة جميع التصرفات، و إباحة ما لا يتوقف على الملك و عدم إباحة التصرف مطلقا و المعروف من هذه الأقوال، قولان: أشهرهما عدم ثبوت الملك بالمعاطاة و دونه في المعروفية ثبوته بها، و مال إليه غير واحد من المتأخرين لمعاملة الناس للمأخوذ بها معاملة الملك و لعموم (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) بالتقرير الذي سبق، و كذا

ص: 199

(تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) و (

الناس مسلطون على أموالهم

)، و إن منع شيخنا من دلالة الأخير على المدعي لاختصاص سلطنة المالك بتجويز تمليك ماله للغير شرعا و نفوذه لكن متى شك في أفراد التمليك الشرعي بعد القطع في حصوله بفرد خاص لا يثبته عموم التسلط إذ منعه في الفرد العاري عن القول لا يرفع السلطنة عن النوع و إنما يرفع نفوذ تلك السلطنة و إمضائها عند الشارع بهذا النحو فلا يقال بأن بيع المنابذة مثلا ممضي عند الشارع للخبر فيعارض عمومه ما قضى بعدم إمضاء الشارع له بل نفس الشك يكفي في عدم نفوذه عند الشارع لأن النافذ عنده فرد خاص من المملكات و ما شك فيه لا يثبت إمضاء له التسلط المزبور لكنك بعد التفكر فيما حررناه من معنى القاعدة تعرف أن لا وقع لهذا الكلام و إمكان الاستدلال بالقاعدة المزبورة و إن عمومها باعتبار أنواع السلطنة و أفرادها فكما أن التمليك للمالك أحد الأنواع فمتى شك فيه شرعا يستدل عليه بها فكذلك بالنسبة إلى أفراد التمليك كما قررنا فتأمل و نوقش أيضا في العمومات المزبورة بأن أقصى دلالتها هو إباحة التصرف و إن توقف على الملك و الإباحة المزبورة بمجردها لا تثبت الملك إلا بالملازمة في مثل البيع و الوطء و العتق و الإيصاء و تلك الملازمة لا بد لها من دليل شرعي ففي غير المقام نسلم لدليلها المجمع على قبوله، و في المقام تمنع للخلاف فيه غاية الأمر أن التصرف المتوقف على الملك يكشف عن سبق الملك عليه قبل التصرف بلحظة تتصل بزمانه و هو يكفي فلا دليل عليه من أول الأوامر فلا يقال أن مرجع هذه الإباحة إلى التمليك لعدم حصوله بأول حصولها فالقائل بإباحة جميع التصرفات لا يلزمه القول بالملكية من أول الأمر في المتوقف عليها بل يبيح الكل و يقول بالملكية عند التصرف و لا يلزم من لا يرى الملكية أن لا يقول بإباحة التصرفات المتوقفة على الملك.

و فيه ما ذكرناه من أن المتبادر من عموم الحل و التجارة عن تراض صحة هذه المعاملة الصادق عليها البيع و الشراء مع أن الالتزام المذكور بعيد عن مذاق الفقاهة فيه تمحلات كما قال الشيخ الأكبر جدنا: (أن القول بالإباحة المجردة مع فرض قصد المتعاطين التمليك و البيع مستلزم لتأسيس قواعد جديدة ثمّ ذكرها) و شيخنا تصدى للرد عليها ثمّ أنصف و قال (إنها بمحلها) و لا فائدة مهمة لنا في ذكرها تفصيلا غير أنه مما يوافق الحكم بالملكية الشهرة المحققة إلى عهد المحقق (رحمه الله) و الاتفاق المدعى في البيع و في توقف الهبة على الإيجاب و القبول مضافا إلى إصالة عدم الملك، و أما بحسب الدليل فلا ريب أن القول بها أقوى لعدم الموجب إلى رفع اليد عن العمومات المتقدمة بالطريق السابق و عن الأخبار الخاصة و عمل الناس المتلقي يدا بيد الممضي من قوام الشريعة و جهابذة العلماء و يلحقه في قوة الدليل القول باللزوم إذ بعد تحقق الملكية فزوالها بمجرد رجوع المالك الأصلي يحتاج إلى دليل شرعي لأن ملكيته بعينها قد انتقلت بهذا الناقل إلى الغير، فكما أن ملكية المالك الأصلي لا يزيلها إلا الأسباب التي حكم الشارع بإزالتها للملك فكذا هذه الملكية و الشك في تحقق وجود السبب المزلزل يكفي في عدم وجوده بعد إحراز الملكية و ليس حال المنقول للغير بأحد النواقل المرتب عليه الملكية كالموجود في يد شخص قد شك فيه أنه له أو لغيره للاشتباه في موضوعه أو للشك في سبب ملكيته أو غير ذلك لأن أصل الملكية مردد لا أنها قد حصلت مع إمكان عدمها فإن العدم و إن أمكن إلا أنه محتاج إلى قاض به لأن الملكية الثانية مستقرة لا متزلزلة فيلحقها حكم المستقر، و لا ينافيه أن الملك مردد بينهما فالمستقر مشكوك الحدوث من اول الامر فلا يترتب عليه حكمه لأن حقيقة الملك لا تنقسم بل هي أمر واحد، و إنما يأتي التزلزل من السبب المملك فهو

ص: 200

المنقسم، و السبب المملك الذي لم يجعل الشارع له تزلزلا لا شك في أن الملك معه يكون مستقرا و لا يكفي في تزلزله مجرد احتماله أو إمكانه فالرجوع بالمبيع للبائع أو بغيره من العقود الناقلة و عدمه هو من أحكام السبب و لا دخل له في حقيقة المسبب فمتى السبب عن حكم جواز الرجوع أثر الملكية و استصحب في الشك فيها بقائها و بقاء سببها المملك على ما هو عليه و هو معنى إصالة اللزوم في كل عقد لأن عدمه في الناقل و المنقول يحتاج إلى نص شرعي و يكفي الشك في وجوده في ترتب الأحكام على أنه لا ريب في أن المنقول صار من أموال المنقول إليه فهو مسلط عليه للخبر، و الرجوع فيه بلا رضاه إن جاز فهو مناف لسلطنته المطلقة عليه إذ لم يثبت بأن رجوع المالك الأصلي مما يرفع تلك السلطنة و يخرجها مما كانت له إلى غيره و عدم تسليم ملكيته له بعد رجوع المالك الأصلي بنفسه لا يفيد شيئا إذ المالك الأصلي زالت سلطنته و رجوعها برجوعه أول الدعوى ثمّ أي قاض بحلية هذا المال بلا رضا المنقول إليه و الحال (أنه لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفسه) و هو بعد رجوع المالك الأصلي لم يتحقق عدم صدق مال الغير عليه للشك في سببية الرجوع لإخراجه عن ماله فلا يحل هذا المال إلا إذا طابت نفس المالك و المفروض أنه مالك.

و الحاصل الحل للمال و عدم الأكل بالباطل و التراضي في التجارة لا بد فيه من الإذن إما من المالك الحقيقي و ذلك في النواقل القهرية مثل أكل المارة بالإذن من الشارع و إن لم يتحقق رضا المالك و كذا الأخذ بالشفعة و الفسخ بالخيار. و جملة الأمر أن كل دليل أسلفناه على صحة العقود فهو يجري في اللزوم أيضا في كل ما يتحقق النقل به عرفا و قد أمضاه الشارع حتى ما كان بغير لفظ فينتج من ذلك إفادة المعاطاة الملكية و اللزوم مطلقا لو لا ما نقل قيام الإجماع على عدم لزوم الملك في المعاطاة و ما في (القواعد) من أنه ينعقد على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا و تراضيا بالبيع و تقابضا و افترقا بالأبدان حملوه على إرادة بيان صحة العقد و تأثيره في اللزوم إذا وقع بين اثنين فلم يظهر منه المخالفة للمشهور و يؤيده نقل الإجماع في كشف اللثام على اعتبار اللفظ في العقود إلا أن عدم اللزوم الجاري في لسان الجماعة لم يتضح لنا أنه كذلك حتى عند القائلين بعدم الإباحة في المعاطاة و إنها تفيد الملك و إن اللزوم ليس في فروع الملكية فلعل إجماعهم المدعي على عدمه يعنى عدم الملكية التي يتفرع اللزوم عليها فهو عبارة ثانية للقول بالإباحة غير أن القول بالملك المتزلزل فيها المنقول قولا في المسألة مما ينافي الحمل المزبور، لكنك عرفت أن المعاطاة لو دخلت في البيع و صح إطلاقه عليها فالملكية و اللزوم لا بد من الجزم به لأنه من أحكام البيع الصحيحة التي لا تتخلف عنه إلا لدليل، و الإجماع و إن صلح أن يكون دليلا على عدم اللزوم فيحكم على استصحابه لكن تحصيله على وجه استكشاف قول الإمام" عليه السلام" على طريقة المتأخرين مشكل فالأحرى الجزم بتوقف الملكية على اللفظ و يؤمئ إليه خبر ابن أبي عمير الظاهر منه أن سبب التحريم و التحليل منحصر في الكلام لعدم تأتي الحصر المزبور إلا في انحصار إيجاب البيع في الكلام فلو وقع بغيره لم يتجه الحصر إلا أن ينفي إمكان تأتي المعاطاة في مورد الرواية لجهة أن المبيع عند مالكه الأول مع الإعراض عن أن خصوص المورد لا يخصص الوارد فلا تخل حينئذ عن إشعار كرواية ابن الحجاج و فيها (

و لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها

) فيظهر منها أن مواجبة البيع لا يكون بنفس إعطاء العين للمشتري، و رواية العلا و ابن سنان و يقضي به الأصل بمعنى عدم حصول النقل و الانتقال إلا بما قضى الدليل على سببيته

ص: 201

و إن المعاطاة لو كانت مملكة للزم أنها ملزمة و التالي يبطل بالإجماع، و إلى هذا و نحوه ذهب المشهور إلى أنها لا تفيد إلا الإباحة لكل من العوضين و تلزم بالتلف مطلقا و المسألة في غاية الإشكال، و قد انهى فيها و في تصاويرها من المتأخرين جماعة خصوصا شيخنا في مكاسبه غير أن المحقق من مورد المعاطاة هو ما قارن القبض فلو لم يكن هناك قبض فلا تتحقق معاطاة و في تحققها بالقبض الابتدائي إشكال، كأن يكن عند محمد مال أمانة من علي و عند علي و كذلك فتراضيا على المعاوضة فهل يترتب الأثر على ذلك أم لا؟ الظاهر عدم كفاية القبض الاستدامتي و مجرد كفاية استدامة القبض و قيامه مقام فعليته في بعض ما يشترط فيه القبض كالصرف و السلف و الرهن و الوقف على القول به لا يثبته في المقام لأن المدار في المعاطاة على صدق الاسم، و لعله لا يصدق في الفرض المزبور و مثله القبض في الذمة من الجانبين و أن جوزنا بيع الدين بالدين، و كذا لا يكفي فيها مجرد التخلية فيما لا ينتقل، و يكفي على الظاهر في ترتب حكمها على القولين القبض من جانب واحد سواء كان العوض أم المعوض على تردد في الأول فيعتبر في البيع قبض المبيع و في الإجارة قبض العين المستاجرة و هو و إن كان ينافي لفظ المعاطاة إلا أن السيرة قاضية به و لا دليل على صحتها غيرها لأنهم كثيرا ما يتسامحون في القبض العوض بل الظاهر كفاية مطلق وصول العوض إلى صاحبه كما هو المتعارف في قبض الماء من السقاء و في دفع عوضه إلى كوزه و في الحمامات و غيرها. نعم يعتبر تمييز البائع من المشتري في ترتب أحكام البيع و الشراء و هو يحصل قطعا بما إذا تعارف كون أحد العوضين ثمنا كالدراهم و الدنانير فيكون صاحب الثمن هو المشتري و في غير المتعارف يحصل بما إذا قصد بالمدفوع قيامه مقام المثمن بمعنى أن المدفوع منوبا به أن يقوم مقام الدراهم و الدنانير أما لو اشتبه البائع في المشتري أو كان كل واحد مصداقا لهما باعتبارين، أو يكون المعطي أولا البائع و المشتري هو الآخذ فالظاهر عدم ترتب الأحكام المختصة بالبائع أو المشتري و إن صحة المعاملة. ثمّ أنه لا إشكال و لا ريب في أن التصرفات الموقوفة على الملك لا تجوز على القول بالإباحة فإن غير المالك لا يسوغ له التصرف بالعين المملوكة بمجرد إذن المالك إذ هي ليست من النواقل المملكة إلا إذا دل دليل شرعي على حصول الملكية للمباح بمجرد الإباحة فيكون كاشفا عن ثبوت الملك له و هو في المقام مفقود و عموم (تسلط الناس على أموالهم) لا يمكن الاستناد إليه في الفرض لمعارضته لقواعد أخر مثل (لا بيع إلا في ملك) و غيرها الحاكم على العموم المزبور و مقالة دخول المبيع قبل بيعه في ملكه آنا ما مثل دخول العمودين في ملك الشخص قبل العتق فتصح مطلق التصرفات حينئذ و ذلك مقتضى الجمع بين عموم (تسلط الناس على أموالهم) و بين أدلة توقف البيع و العتق على الملك موهونة بأن قاعدة (التسلط) و إن شملت ما كان مباحا مطلقا لكنه لا يمكن شمولها لما لم يمضه الشارع من التصرفات المتوقفة على إمضائه، بل هي عامة للجائز من التصرفات شرعا فلا تعارض بينها و بين ما دل على توقف البيع و غيره على الملك حتى يحتاج إلى الجمع بين الأدلة بالملك القهري بل هو من باب الحكومة فأدلة عدم جواز بيع ملك الغير أو عتقه لنفسه حاكم على عموم سلطنة الناس على أموالهم القاضي بإمضاء الإباحة المطلقة من المالك و ليس من نظيره بيع الواهب للعين الموهوبة قبل تلفها لأن البيع رجوع أو كاشف عنه ككشف لمس المرأة في العدة عن الرجوع بها، فلا ملك تقديري كملك شراء من ينعتق ودية المقتول له بل و لا ضمني لتوقفه على القصد المفقود و لا الضمني في مثل بيع الواهب وذي الخيار لعدم تحقق الملك فيما نحن فيه سابقا، فالحكم بالبطلان أوفق بالقواعد كذا أفاد شيخنا في مكاسبه و فيه تأمل يظهر وجهه من (إبطال الحكومة المزبورة)

ص: 202

بل الظاهر فيه التزاحم و التعارض إذ بعد وجود البيع الضمني و نفوذه في كثير من المقامات شرعا و إمكان التقديرية في الملك فأي داع لعدم جريانها هنا فإن إباحة التصرفات تقتضي الجواز إذ البيع من جملتها و امتناع دخول المبيع في ملكه آنا ما إن كان عقليا فلا مسرح للعقل في منعه و إن كان شرعيا فقد وقع نظيره من الشارع و ليس هو من باب القياس بل لجهة عموم (التسلط) في غير ما دل الدليل على خروجه، و إليه يومئ تجويز القطب، و الشهيد للتصرف في ثمن المغصوب و جواز شراء البائع به شيئا مع علم المشتري بالغصب لأنه سلط البائع عليه و أذن له في إتلافه، و ظاهرهما، أن البائع يملك الثمن بمجرد دفعه إليه و لا يتوقف تصرفه فيه على إذن المالك، و جوز المختلف وطء الجارية المباحة بعين مغصوبة و إن علم البائع بغصبيته الثمن، و وجه الجواز ليس إلا تسليط المشتري للبائع على الثمن و إن أشكله غير واحد بأن لمالك العين حق تعلق بالثمن فإن له إجازة البيع و أخذ الثمن، و حقه مقدم على حق الغاصب للزوم أن يأخذ بأحسن أحواله، و منهم من بنى المسألة على النقل و الكشف في الإجازة فعلى تقدير الكشف لا عبرة بتسليط مالك الثمن للغاصب على ماله لرجوع الثمن إلى المالك الأصلي إذ الإجازة تكشف عن صحة العقد السابق و لزومه بالنسبة إلى المالك الأصلي. نعم بالرد ينكشف أن المشتري سلط الغاصب على ماله فليس أن يسترده، و أما على تقدير النقل فإجازة العقد الواقع على الثمن مشكل للزوم الدور إذ الإجازة موقوفة على ملكية الثمن و الفرض توقف الملكية عليها لو قيل بالنقل. و الحاصل أن حكم الأصحاب بعدم استرداد الثمن من الغاصب مما يقضي بحصول الملكية بمجرد التسليط و لا يجدي صرف حكمهم إلى صورة التسلط المراعى بعد الإجازة من المالك الأصلي لأن نفس التسلط علة تامة لاستحقاق الغاصب سواء في ذلك أجاز أم رد، فينحصر الحكم المخالف للقاعدة القاضية بعدم الانتقال بمجرد التسليط بالتسليط مع عدم الإجازة أخذا بالمتيقن فإنه كلام خال عن الفائدة بعد تصريحهم بتملك البائع للثمن مطلقا و إن جعل بعضهم الملكية أحد الاحتمالين فإن صرف الكلمات إلى صورة خاصة فرارا عن المحذور مع الوقوع بمحذور آخر لا طائل تحته، ثمّ الحكم بتملك البائع للثمن في تلك الصورة مما يشم منه بأن الإباحة و تسليط من له السلطنة على ماله في الملكية، و هي أظهر في الإباحة بالعوض التي مبنى المعاطاة عليها فهي معاوضة مالية تفيد الملكية من الجانبين، فإما أن ندخلها بالصلح أو البيع بوجه ما أو نقول: بأنها معاملة مستقلة قضى بصحتها لزومها (عموم الناس مسلطون) و (المؤمنون عند شروطهم) و كيف كان فلزوم المعاطاة على القول بالملكية في تلف العوضين لا ريب فيه لارتفاع مورد التراد بالتلف و لو مع الغبن، إذ ليست هي بيع الخيار المستصحب بعد التلف ليستصحب جواز الرد فيها من حيث أن الخيار متعلق بالعقد و من عوارضه لا من عوارض العوضين قبل صدور المعاملة فإن جواز الرجوع في المعاطاة كهو في العين الموهوبة قبل التلف و بعد تلفها يرتفع موضوع الجواز بخلاف الخيار المتعلق بنفس العقد الذي لم يرتفع موضوعه. و الحاصل إنا قد قدمنا بأن قاعدة اللزوم توجب لزوم هذا العقد لكن بعد جزم المشهور بجواز تراد العينين اقتصرنا فيه القدر المتيقن من الخروج عن تلك القاعدة و هو جواز الرجوع مع بقاء العوضين، و أما مع تلفهما أو تلف أحدهما فلا رجوع و لا يدل الدليل على أكثر من ذلك، و أما على تقدير الإباحة فمع تلف العوضين أيضا لا إشكال فيه لأن تلفه من مال مالكه و لا موجب لضمان كل منهما مال صاحبه، و استوجه جمع عدم اللزوم لأصالة بقاء سلطنة المالك على العين و لو بعد التلف فغايته ثبوت المثل أو القيمة، و عورض بأصالة براءة ذمته من مثل التالف أو قيمته

ص: 203

لأن يده على المتلوف قبل التلف لم يكن يد ضمان، و لو أراد المالك الرجوع في العين الموجودة اللهم إلا يدعي بأن سلطنة المالك على ماله و عمومها يشمل السلطنة على الموجود بأخذه و على التالف بالانتقال إلى بدله فتبقى سلطنته و تحكم على أصالة عدم الضمان. ثمّ إن القاعدة مع أن الضمان ينتقل إلى البدل في كل مضمون تلف و إن اختلفوا في البدل بين كونه حقيقيا أو جعليا و اختصاص الضمان بالبدل الجعلي أعني العين الموجودة لا وجه له و لو كان أحد العوضين في الذمة فالظاهر أنه في حكم التالف فيملكه من في ذمته على القول بالملك و يسقط عنه و الساقط لا يعود و كذلك على القول بالإباحة لعدم جواز مطالبة المديون بالدين عند إباحة المعوض فيستصحب فلا رجوع في الفرض المزبور مطلقا، و نقل أحد العوضين بالعقد اللازم يلحق بالتلف حكما لكن يجري ذلك على من منع من إباحة التصرفات الناقلة.

الفائدة الخامسة و الستون (في جواز التراد في المعاطاة):

جواز التراد في المعاطاة لا بد من قصره على القدر المتيقن و لا يؤخذ عريضة لأن أصالة اللزوم محكمة في الفرد المشكوك و يتفرع عليه أنه لو عاد أحد العوضين بعد التصرف فيه بأحد النواقل أو عادا معا بفسخ أو إرث أو شبههما للمعاطيان لا وجه للتراد حينئذ على القولين لأن جوازه المحقق هو ما كان قبل خروج العين عن ملك مالكها، و لا ريب بأنها خرجت بالنقل فارتفع موضوع التراد و جوازه بعودها مشكوك فلا يجري الاستصحاب، و على القول بالإباحة أوضح لأن جواز التراد لم يتحقق فيها لكي يستصحب بل المحقق في الإباحة إصالة بقاء سلطنة المالك الأول، و لا ريب في انتفائها بملكية المباح له عند النقل فإن التصرف الناقل يكشف عن سبق الملكية فلا تبقى للمالك الأول سلطنة، و ربما قيل بمنع كون الكاشف عن سبق المالك هو التصرف الناقل، و إنما الكاشف عنه هو العقل الناقل فمتى انفسخ رجع إلى ماله الأول من المالك و الإباحة للغير ما لم يسترد عوضه فالسلطنة بحالها و معها يحوز التراد إذا لم يمنع منه نقل العوض الآخر أو عدم فسخ عقدة الناقل و أيضا لا يسلم بأن البيع يكشف عن سبق الملكية لأن مدعي ذلك يرى توقف البيع على الملك من حيث لا بيع إلا في ملك، و منكره يقول؛ بكفاية إباحة التصرف و الإتلاف في جواز البيع و الثمن يملك فيه و الأول أوجه لكن الأقوى رجوعه إلى البائع إذا فسخ، و لو نقل أحد العينين بعقد جائز فليس لمالك العين الأخرى إلزام الناقل بردها ليرجع إلى عينه إذ تحصيله غير واجب على الناقل جوازا حتى مع رجوع صاحب العين الباقية فلا يتحقق التراد، و إن قيل بالإباحة لكشفها عن سبق الملك. نعم لا يجري ذلك في الهبة المجردة عن العوض لجواز رجوع المالك الأصلي فيما باعه بالمعاطاة في العين الموهوبة لعدم تحقق التلف المانع من الرجوع إذ لا عوض فيكون مملوكا فيجوز التراد حينئذ مع بقاء العين الأخرى على حالها بل و مع نقلها بمثل الهبة و إلا جرى عليها حكم التلف و إن كان عقدا جائزا كما ذكرنا، و لو باع العين ثالث فضولا و أجاز المالك الأصلي فالإجازة منه رجوع على القول بالملك على احتمال، و نفوذ البيع في إجازة الثاني لا ريب فيها، و على تقدير الإباحة يمكن كل منهما رده قبل إجازة الآخر و إن اختلفا فأجاز الثاني بعد رجوع الأول فيبتني الحكم على تقديري الكشف و النقل في الإجازة فإن كان الأول لغي الرجوع، و على النقل تلغى الإجازة، و الامتزاج بمال الغير مسقط للتراد على الملكية و موجب للشركة على القول بالإباحة لبقاء السلطنة على المال إلا إذا ألحقه المزج بالإتلاف، و لو غير المشتري هيئة المبيع كأن فصل الثوب أو طحن الأرز.

ص: 204

فالظاهر عدم جريان استصحاب جواز التراد لتغير الموضوع و من يتسامح فيه لا يسقط عنده حكم التراد، و أما على الإباحة فلا موجب لعدم التراد و المال على ما هو عليه، و يشكل الأمر في التغيير المتوقف على مصارف فإن جاز التراد عزم الراجع جميع المصارف؛ لأنه هو الذي سلطه على ماله، و يحتمل عدم الغرامة لعلمه بجواز رجوع المالك فهو أقدم على ضرر نفسه فلا يرجع على المالك بما غرمه لو رجع في عينه لكن لا يبعد أن تغيير المبيع يلحق بالتلف و لو مات أحد المالكين فليس للورثة الرجوع و لا دليل على إرث مثل هذا الحق، و ليس هو نظير الفسخ في العقود اللازمة ليورث بالموت و لا دليل على انتقاله للوارث بعد فقد من اليه الرجوع. نعم لو جن أحدهما يقوم الولي مقامه لبقاء حقه غايته منع المانع عنه.

الفائدة السادسة و الستون (في إجراء المعاطاة في غير البيع العقدي):

كلما لم يختص بالبيع العقدي تجري به المعاطاة و يترتب عليه أحكام البيع مطلقا سواء قلنا بالملك المتزلزل أو بالإباحة، إما على الملكية فظاهر، و أما على الإباحة فالأظهر أنه بيع عرفي لم يمضه الشارع إلا بعد التلف فإن تحقق التلف أو ما في حكمه جرى عليه حكم البيع، و قال بعضهم بأنها معاوضة مستقلة و له وجه غير أنه لا فائدة تظهر إلا نزرا، و ما فرعه على ذلك في المسالك من بقاء خيار الحيوان لو تلف الثمن كلا أو بعضا و عدمه و على فرض ثبوته فالإشكال في وقته فهو على القول بالإباحة لا بالملك و مع ذلك فلا فائدة لجريان حكم البيع على ذلك بعد التلف فتأمل. ثمّ إن المحقق من موضوعها الذي تترتب عليه الأحكام هو الإنشاء التمليكي أو الإباحي بالفعل الحاصل بقبض العينين للمتعاطيين أو ما في حكمه، و أما المقبوض بالقول الذي لم يجمع شروط تلك المعاملة فهو أيضا داخل في البيع، و يترتب عليه أحكامه بناء على عدم اشتراط اللزوم بشي ء زائد على اللفظ، و قد حصل ما يقضي بالنقل و الانتقال فيكفي، و إما على مقالة المشهور من اعتبار أمور زائدة على اللفظ ففي تحقق المعاطاة بمجرد ذلك الإنشاء القولي مطلقا أو بشرط تحقق قبض العوضين أو لا تتحقق به مطلقا كلام فيه لبعض المتأخرين، و عسى أن يكون ميل الأكثر إلى الأول، و إلى الثاني يميل كل من يبطل الملكية في المقبوض بالعقد الفاسد. و التحقيق أن المال المقبوض بالعقد الفاسد أي الصيغة الفاقدة لبعض الشروط إن كان بلا رضا من كل منهما بل حصر قهرا، إما على التصرف أو على العمل بذلك العقد أو على وجه الرضا الناشئ عن بناء كل واحد منهما على ملكية الآخر عن جهل بالفساد أو عن تشريع فلا ريب في حرمة التصرف في العوضين حينئذ لأن الرضا معتبر في جوازه، و أما لو أعرضا عن أثر العقد و تقابضا بقصد التمليك كان معاطاة صحيحة غب عقد فاسد و لا ريب في صحته إنما الإشكال في الرضا المقارن للعقد الفاسد الذي يعلم منه أنه بدونه أيضا يحصل لكن لم يقع، و في أن المقصد الأصلي من المعاملة التصرف واقعا هذا العقد الفاسد ليكشف عنه و لا يبعد القول بتحقق المعاطاة في القسمين و صحة المعاملة فإن عنوان التعاطي لمجرد الدلالة على الرضا فإذا تحقق حصوله كفى بل لو لم يحصل إلا قبض العوضين لكفى في الحكم بأنه معاطاة و لا تساعد كلماتهم إلا على ذلك و الله العالم.

ص: 205

الفائدة السابعة و الستون (في بيع الوقف):

لا ريب و لا إشكال في عدم صحة بيع الوقف الجامع للشرائط حتى الدوام، و أما المنقطع كالوقف على من ينقرض و ما لا يدوم فهو إما منقطع الأول أو الوسط أو الآخر و كل منها إما مع علم الواقف بالانقطاع أو جهله مع معلوميته أو مع الشك فيه أو عدمه و بعد الانقطاع مطلقا أو في بعض الصور هل يصرف في وجوه البر أو يرجع لمالك؟ و هل هو الواقف أو الموقوف عليهم؟ و على فرض جميع هذه الصور لو صححناها أو صححنا بعضها هل يجوز بيعه مطلقا أو في مقامات مخصوصة أو لا يجوز مطلقا في الجميع كلام لأصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) فأما منقطع الأول فلا ريب في بطلانه، و المشهور عليه لخلو الوقف عن موقوف عليه، و خالف الشيخ (رحمه الله) فحكم بالصحة و جعله كوقف الشاة، و الخنزير، و العبد، و زيد من باب تبعض الصفقة فيصح في الجامع و القابل، و يبطل في الفاقد.

و فيه وجود الفرق فإنه في المثالين تعلق بموجود من جهة توجه القصد إليهما فيصح في النصف بخلاف ترتب القصد بالنسبة إلى المنقطع مع أن الوقف المفروض مشكوك الصحة للشك في تناول ما شرع الوقف له من الأدلة لخلو الوقف عن الموقوف عليه، و لا يجري ذلك في منقطع الوسط و الآخر لعدم الخلو في الابتداء فينعقد و إن تأخر خلوه فيكون كالمبيع بالخيار في كونه عند حصوله في البيع، و تعذره في الوقف يرتفع حكمه لكن ظاهر الوقف هو اعتبار عدم خلوه عن موقوف عليه في جميع الأزمنة فيقتضي البطلان في الثلاث، و العمدة في المسألة ما عليه المعظم، و أما منقطع الوسط كالوقف على محمد، و عبده، و علي فاستظهر الصحة فيه جماعة من المحققين، ثمّ إن البطلان بعد محمد فيبطل في المثال في (علي) و يصح في (محمد) و احتمل الشهيد (رحمه الله) صحته في الطرفين، و بطلانه في الوسط، و صرف علته فيه إلى المالك، أو ورثته. و فيه أن سلسلة الترتيب لم تحصل فلم يكن الوقف على حسب ما يقفه أهله، فالصحة في الأول أقرب كالبطلان في الأخيرين، و أما منقطع الآخر فصحته منسوبة إلى أكثر الأصحاب، بل قيل لم نتحقق قابلا بالبطلان، و إن استشم ذلك ممن صرح بكونه حبسا كالوسيلة، و الجامع، و الإرشاد، و المختلف، و غيرها لكن يوهنه الظن بأن أرادتهم من الحبس حكمه، و يومئ إليه بعض كلماتهم بل لا تلتئم كلماتهم إلا على ما ذكرنا فقد قال غير واحد: إنه يكون (سكنى) أو (عمرى) أو (حبسا) بلفظ الوقف إذ الحبس عقد مستقل يحتاج إلى قصد مستقل و هم في صدد بيان الوقف الموجب لنقل العين إلى الموقوف عليهم، و خروجها عن ملك الواقف، و الحبس لا يقتضي ذلك فلا يمكن أن يحكموا به في المسألة المفروضة إلا على إرادة مساواتهما في الحكم. نعم من قال ببطلان الوقف المنقطع يمكنه القول بان من عبر بلفظ الوقف المنقطع، فالانقطاع قرينة على إرادة الحبس من لفظ الوقف فيدعي التصرف باللفظ و ذلك مطلب آخر عائد إلى التجوز باللفظ و عدمه و لا دخل له بانقلاب الوقف حبسا، لكن يظهر من بعضهم خلاف ما ذكرنا من المجمع حيث ثلث الأقوال في مسألة الوقف على من ينقرض وعد منها كونه حبسا عائدا إلى الواقف و ورثته.

و قد استغرب من ذلك بعض المتأخرين غاية الاستغراب قال: (و ما كنا نؤثر وقوع ذلك منه خصوصا بعد قول جماعة منهم بالانتقال إلى ورثة الموقوف عليه).

ص: 206

و قول آخرين (أنه يصرف في وجوه البر) و تصريح غير واحد: (بأن الأكثر على صحته وقفا) و التتبع يشهد به، بل عرفت عدم إمكان تصور القول بصحة ذلك حبسا و ما ذكر من اللازم المزبور كاد يكون صريحا بخلافه ضرورة ظهور كلام بعض، و صريح آخرين (بعود ذلك إلى الواقف بعد الانتقال إلى الموقوف عليه، و هذا لا يكون في الحبس الذي لم تنتقل فيه العين إلى المالك) إلى آخر ما قال انتهى. و لقد أجاد و أفاد غير أن انقلاب الوقف حبسا أي مانع منه فإن كان عقليا فلا مسرح له فيه، و إن كان شرعيا فلا دليل عليه، و مثله انقلاب النكاح الذي قصد الانقطاع منه إلى الدوام مع عدم ذكر الأجل، و لا عبرة بقصد الانقطاع فعدم إمكان القول بالصحة مع قصد الوقف لا بأس به لو انقلب بذكر الانقراض إلى الحبس بعد اشتراكهما في الحكم و عدم ترتب الثمرة بل هو في النكاح أشكل منه هنا لاختلاف الحكم بين الدائم و المنقطع، فلو قلنا بعدم الانقلاب هناك كما هو الأوفق فلعلنا لا نقول به هنا إذ الوقف مشترك بين الثلاث فيتعين بمتعينه و هذا طريق آخر و مقتضاه حينئذ عدم الفرق بين ما قرن بمدة أو كان لمن ينقرض في كون الوقف حبسا لكن الإشكال أن المتلقي من كلماتهم عدم الصحة وقفا في الأول و صحته وقفا في الأخير، فما حكمنا فيه لا يخلو من نظر. و كيف كان فالظاهر عود العين و منافعها بعد تصرم المدة أو انقراض البطن أو البطون إلى الواقف أو ورثته دون ورثة الموقوف عليهم فإن الناقل عن مقتضى الملك نقل مقدارا معينا لا نقل مطلقا، فمتى انقضى سبب الملك الذي أحدثه المالك رجع المنقول إلى حاله السابق كالعود بالإقالة أو الخيار فإنهما سبب لفسخ السبب الذي اقتضى النقل فعاد مقتضى السبب الأولي فلا وقع لما يدعى من أن الأوفق أن يرجع إلى ورثة الموقوف عليهم لأنه من ملك مورثهم لأن ملكية المورث له على وجه الانقطاع فلا يدخل في التركة لكي تشمله أدلة الإرث، و أضعف من ذلك القول بصرفه في وجوه البر لأن الصرف المزبور إما من جهة أنه مجهول المالك أو لبقائه على الوقفية و الواقف ترك ذكر المصرف فيصرف فيما ذكر، و الثاني بعد قصر الواقف الوقف على المنقرضين لا يمكن إذ لا سبب لبقاء وقفيته بعد الانقراض، و الوقف على حسب ما يوقفها أهلها.

و الأول لا يمكن إلا بعد إحراز إعراض المالك عن ماله و إباحته له على أن يصرف في وجوه البر و إحراز ذلك بنفس الوقف على من ينقرض لا وجه له لعدم استفادته قطعا.

نعم من استفاد أن المالك أخرج المال عن ملكه بالكلية لا ضير عليه إن صرفه في المصرف المزبور إلا أن استفادة ذلك في تمام الإشكال فلا جرم من عوده إلى ورثة الواقف حين موته لا حين انقراض الموقوف عليهم، لأن المال صار بحكم مال الميت و كونه كذلك في الزمن المتأخر لا يقضي بعوده إلى أهل ذلك الزمن من ورثته، و مثله ما لو فسخ المشتري بخياره بعد موت البائع فإن المبيع يكون للوارث الأول أو من يرثه و لا يعود إلى ورثة الميت حين الفسخ و إن افترق المشبه به عن المشبه بأخذ العوض و عدمه إلا أنهما من واد واحد، بل احتمال عوده إلى ورثة الواقف زمن الانقراض دون الوارث الأول- احتمال سخيف- لم يوجد له نظير في الشريعة و لو احتمل ذلك لجرى في دية المقتول التي تأخر أخذها نصوصا في القتل العمدي التي هي بعد العفو عن القصاص أو بالمصالحة عليه مع أنه لم يحتمل ذلك أحد. بقي الكلام في جواز بيع مثل هذا الوقف المنقطع و عدم جوازه قبل الانقطاع بناء على صحته وقفا فإن قلنا بملكيته للواقف امتنع بيعه للموقوف عليهم لعدم ملكيتهم له و مع كونه اكثر نفعا للواقف أو ورثته أو مع الخوف على اضمحلاله و لم يكن في بيعه ضرر على الموقوف عليهم إما لتبديله بما هو خير منه أو لجهات أخر فلبيعه وجه يخرج على قواعد بيع الوقف لو جاز، و يتولاه الولي

ص: 207

الخصوصي أو العمومي- و سيأتي الإشارة إليه- و في جواز البيع للواقف قبل الانقراض معلقا عليه على الموقوف عليهم أم مطلقا مع رضاء الموقوف عليه بالبيع و عدمه وجهان: و يمنع من الثاني لزوم الغرر لجهالة وقت الاستحقاق فلا يحصل التسليم التام كبيع مسكن المطلقة المعتدة بالاقراء المصرح بعضهم بمنعه.

و يصححه عموم (تسلط الناس على أموالهم) غايته أنه مسلوب المنفعة فإذا أقدم المشتري على شرائه فقد أقدم على ضرر نفسه فيكون شبيها ببيع الفضولي التي لا يعلم تحقق الإجارة و الرد فيها بأي وقت بناء على الكشف الحكمي، و يؤيده رواية ابن نعيم: (و فيها

لا ينقض البيع الإجارة أو السكنى و لكن يبيعه على أن الذي يشتريه لا يملكه حتى ينقضي السكنى على ما شرط

إلى آخره. و ليس لرضاء الموقوف عليهم دخل في جواز البيع و عدمه، لأنه لا يرفع الجهالة أن بقي حقهم و لا يصح أن رفعوا اليد منه إذ المنفعة مال لهم فلا ينتقل إلى المشتري بلا عوض و ليس من الحقوق التي يمكن إسقاطها لهم للشك في جوازه و عدمه المحكم فيه إصالة عدم الجواز. نعم يمكن أن يكون العقد مركبا من نقل العين من جانب الواقف و المنفعة من الموقوف عليهم، و يوزع الثمن بالنسبة لكن ذلك إن صح فهو بالصلح لان غيره ليس له شأنية نقل العين و المنفعة المجهولة بل مطلقا و يصحح الأول رفع الغرر بالنسبة إليهم لكنهم يكونون بالنسبة إلى البطون اللاحقة كالواقف فيجري فيهم حكمه لصيرورتهم بمنزلته، و يكون فائدة البيع عودة إليهم لا إليه، و أما لو قلنا بانتقاله إلى الموقوف عليهم سواء استقرت ملكيتهم له أو تزلزلت بمعنى رجوعه إلى الواقف عند انقراضهم فلا يصح بيع الواقف له إذ لا بيع إلا في ملك و لا فضولا لعدم تمكن الموقوف عليه من الإجازة من جهة ممنوعيته من البيع حتى مع إجازة الواقف ذلك لو قيل بعوده إليه من حيث اعتباره في الوقف بقاء العين فتدبر.

و إما على القول بصرفه في وجوه البر فحكمه حكم الوقف المؤبد كما أن الحكم في بيع بعض البطون قبل الأخيرة هو حكم بيع بعض البطون في الوقف المؤبد، و تفصيل القول فيه أنه بعد ما تحقق المنع عن بيعه للتعبد الشرعي المكشوف عنه بالنصوص من حيث أن الوقف له تعلق بحق الله تعالى لاعتبار نية القربة فيه و لمنافاة البيع لغرض الواقف و لحقوق البطون المتأخرة فلا يجوز بيعه لكن متى ارتفعت هذه الموانع ساغ بيعه و يبطل الوقف حينئذ بإجراء صيغة البيع لا بمجرد جواز البيع فيبقى وقفا إلى زمن نقله، و هو لا يكون إلا بعد إبطال وقفيته و إجراء حكم المملوكية على عينه كما قيل مع احتماله إذ لا بيع إلا في ملك إلا أن يقال بسبق الملكية آنا ما و محل الخلاف على ما تبين من كلماتهم في الوقف الخاص الذي يملك الموقوف عليه منفعته و له إيجاره و أكل نمائه، واخذ أجرة المثل ممن غصبه دون ما لم يكن كذلك كما في المساجد، و المدارس، و الرباطات؛ لأن إبطال وقفيتها أشبه شي ء بفك الملك كالتحرير مثلا إذ الموقوف عليه لا يملك سوى الانتفاع فلو غصب أحد مكان أحد في مسجد، أو رباط، أو مدرسة، أو سكن بها بغير حق فليس عليه أجرة المثل و إن أحرم عليه المكث الذي تفسد بها عبادته مع احتمال انه بعد الغصب يكون أحق به من غيره و ان أثم في نفس الفعل، لكن الأقوى عدمه و بقاء حق المغصوب فيه إلا أن يسقط حقه منه.

و الحاصل أن مورد الخلاف فيما كان ملكا غير طلق لا فيما لم يكن ملكا فيترتب على ذلك عدم جواز بيع المسجد إذا تعذر الانتفاع فيه بخراب طريقه أو القرية التي هو فيها و إن أمكن صرف ثمنه في مسجد آخر أو في الخيرات و المبرات خلافا لبعض من منحه الله تعالى بقوة الفقاهة من أسلافنا (رحمهم الله) فقد جزموا بجواز بيعه أو استعماله في

ص: 208

غير الجهة المقصودة للواقف عند تعذرها و صرف منافعها فيما يماثلها من الأوقاف مقدما لما اتصف منها بصفة ترجحه، و التخيير إن تساوت الصفات مع اعتبار الرجحان لا مطلقا و إن تعذر المماثل صرف في غيره على النهج المذكور و لو تعارض المماثل المرجوح مع غيره الراجح فالمماثل مقدم على الظاهر أو يقرن ذلك بنظر الحاكم الموظف للمصالح، و إن تعذرا يصرف في مصالح عموم المسلمين هذا في خصوص الأرض من مسجد أو رباط أو مدرسة أو ضريح مشرف أو ما في غيرها من الآلات و الفرش و أثواب الضرائح، و ما أعد لزينة المشاهد و الفرقان الذي عاد إلى الهجر و الاضمحلال الموقوف في مكان عاد كعوده فهي تجعل في المماثل إذا تعذر الانتفاع بها في خصوص المحل و إلا فعلى الترتيب السابق، و لو تعذر الجميع أشبهت الملك المعرض عنه فيحتمل فيها العود إلى المالك و مع اليأس عن معرفته تكون بحكم مجهول المالك، و يحتمل عدم عودها إليه و رجوعها ملكا للمسلمين تصرف في مصالحهم. و هذا كله حسن وجيه لكنه متوقف على كونه ملكا للمسلمين مثل؛ أرض الخراج المفتوحة عنوة مثل الأنفال، و ما اختص بالإمام في إباحته للمسلمين على القول به و خروج هذه الأشياء من ملك المالك متيقن من جهة النقل، أما دخوله في ملك المسلمين فلا دليل عليه، و بقاء هذه الأشياء بلا مالك لا يقضي بملكيتها للمسلمين جزما مع نفيه بالأصل السالم عن المعارض، و لعل الباعث على ذلك رواية مروان بن مالك في بيع ثوب الكعبة و جوازه، و ما اشتهر من جواز بيع حصر المسجد إذا خلقت، و جذوعه إذا انكسرت و خرجت عن الانتفاع به، و له وجه لكنه يختص بما كان ملكا طلقا مثل الأشياء المشتراة من المال المعين للمسجد أو للمشهد فمثله يجوز للناظر التصرف فيه و بيعه مع المصلحة حتى لو لم يخرج عن حيز الانتفاع، و أما الأشياء الموقوفة على المسجد أو الكعبة، أو المشهد مثل الحصر، و البواري، و ثوب الكعبة، و غيرها من سائر الآلات فذلك ملك أيضا لا يجوز بيعها. و على كل حال ينبغي أن ينظر في جزئيات المسألة مثل أجزاء البناء الموضوع في المساجد، و المشاهد، و المقابر، و الحمامات، و المدارس، و القناطر الموقوفة عموما و غيرها من الأعيان و الآلات مثل الكتب الموقوفة على الطلبة، و العبد المحبوس في خدمة الكعبة و الأشجار الموقوفة عموما و البواري الموضوعة و لو في غير المسجد لصلاة المصلين، و الماء المبذول في بعضها فكل ما قصد يوقفه الانتفاع العام لجميع الناس أو للمسلمين و نحوهم ممن لم ينحصر فيحكم عليه بحكم المباحات بالأصل اللازم بقائها على الإباحة الأصلية، و اللازم عموم جواز بيعها فيراعى فيها الأقرب فالأقرب إلى نظر الموقف. و أما ما لم يقصد به ذلك كوقف مثل الدكاكين، و الحمامات، و نحوها على جهة عامة فإنها لو عادت إلى التلف بيعت، و صرف ثمنها في تلك الجهة، لان المنظور فيها تحصيل المنافع و صرفها في مصارفها، نعم يقع الأشكال فيما اشتبه أمره بعد إحراز وقفيته في أنه فك ملك أو تمليك ليلحق كل واحد من القسمين حكمه من إبقاء عينه حيث يمكن و من أن مرجعه إلى نظر المتولي فله بيعه، أو تبديله، أو غيرهما.

و الظاهر أن الأصل في مورد الشك في الوقف (أنه فك ملك) فلا يجوزه تغييره مع إمكان بقائه مطلقا فاللازم حينئذ ملاحظة المقامات ثمّ ملاحظة نظر الواقف في خصوص القسم الثاني من الوقف فيعامل معاملة المسجد إذا كان ذلك ملحوظا للواقف أو قام عليه شاهد حال فلعل في الدكان المخصوص المعين منافعه لميراث مخصوصة الموقوف على

ص: 209

ذلك خصوصية في نظر الواقف في إبقائه و لو خرب أو عاد إلى الاضمحلال فعليك في التأمل.

و منه يظهر الاشكال في جملة من التصرفات في المشاهد المشرفة من تغيير هيئة الوقف أو حجب بعض حجراته عن الموقوف عليهم أو غير ذلك على ما نشاهده في زماننا من وضع الثريات في الحضرات و التصرفات بجدرانها و حجرها القديمة و تغيير هيئة الوقف من دون خوف عليه من انهدام و غيره فإن كل ذلك مشكل في الغاية، و الواقف السابق يخاصم المتصرف بين يدي الواحد الاحد. نعم يخلص من الوصمة لو حصل الأذن فيه من الحاكم الشرعي الأعلم فالاعلم و في التساوي يقدم الأرشد من العلماء فإنه الحجة من قبل الحجة (عجل الله تعالى فرجه) و له الولاية العامة حسب ما سبق بيانه، و يضمن على الظاهر من أتلف شيئا من هذه الموقوفات أو إجزائها مما لم يتسامح به عرفا فيجب في الجزء المتلوف أن يجعل مثله في مقامه أو يرجعه إلى محله و في الكل أن تصرف قيمته في بدله فمن خرب شيئا من الرباطات و الخانات بأن قلع من بنائها أو تصرف فيها تصرفا يقبل العوض غرم مثله أو قيمته و كذلك في إتلاف الجميع. هذا إذا لم يكن ذلك من شروط الواقف في العين الموقوفة، أما مع الشرط فالضمان قولا واحدا أو قيل بعدم الضمان لان ما يطلب بقيمته يطلب بمنافعه، و الاجماع على عدم ضمان المنافع في المدرسة، أو الخان لو اتخذ مسكنا أو محرزا أو غير ذلك، و قد منع الموقوف عليه منه فلا تجري فيه قاعدة (على اليد) لأن المراد من التأدية في الحديث الايصال إلى المالك فيختص بأملاك الناس و هو قوي و إن كان الاحتياط في السابق.

الفائدة الثامنة و الستون (في عمومات الوقف):

قد عرفت أن عمومات الوقف تقضي بعدم جواز بيعه مطلقا لكن أصحابنا منهم من لم يخرج عن العموم كالحلي و الاسكافي و فخر الاسلام إلا في آلات الوقف و اجزائه التي ينحصر طريق الانتفاع فيها بالبيع.

و منهم من خرج عن العموم و سوغ البيع في الجملة، و اختلفوا فيما يسوغ منه فمنهم من اقتصر على غير الوقف المؤبد لا مطلقا و عليه القاضي و نقل عن الصدوق و خصوا جوازه للطبقة الاخيرة لا غيرها مع الخوف من فساده أو الخلف بين أربابه و رجوع الوقف إلى ورثة الموقوف عليهم دون الواقف و ورثته و إلا عاد حبسا و لزمه حكمه، اللهم إلا أن يكون بيعهم مع تملكهم له و بقاء حق للواقف كبيع أحد البطون في المؤبد مع بقاء حق للبطون الآتية فلا يكون بحكم الحبس.

و منهم من حكم بجوازه في المؤبد في الجملة و سكت عن المنقطع فيحتمل منه التعميم، و يحتمل عدمه. نعم من قال برجوع المنقطع إلى الواقف و ورثته بعد انقراض الموقوف عليه يلزمه القول بعدم جواز البيع للموقوف عليه في المنقطع، ثمّ الظاهر من كلماتهم المختلفة في جواز بيع المؤبد هو جوازه فيما لو اضمحل بحيث لا ينتفع به كمندرس الحصير و الجذع المنكسر، و فيما إذا أختلف أربابه بحيث يحصل من الخلف تلف الاموال، و المتولي للبيع أما الولي أو الحاكم لو فقد الولي و يشتري بثمنه في الموضعين ما يكون وقفا و فاقدا للمحذورين تحصيلا لمطلب الواقف مهما امكن و فيما إذا أحتاج الموقوف عليه حاجة شديدة بحيث لا يكفيهم غلته، و ظاهرهم كفاية الظن الاطمئناني بأحد الامور المزبورة و إن عبر غير واحد من المجوزين بما يؤدي إلى الأمور المزبورة الذي ظاهره القطع بالتأدية لكن مع ضم من عبر بالخوف من أن يؤدى يصرف ذلك الظهور إلى كفاية

ص: 210

الظن، و قرينته تعبير الفقيه الواحد بالأمرين، و الذي يترجح في النظر هو جواز بيع الوقف الذي لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالجذع البالي، و الحيوان المذبوح، و الحصير الخلق، و تبديله بما ينتفع منه الموقوف عليه لعدم المانع من بيعه من إجماع و غيره فإن المنع من شراء الوقف الوارد في النصوص لا يشمل هذه الحالة و مراعاة البطون اللاحقة لازم فينتج ما اخترناه، و لولاه للزم إما تعطيله حتى يتلف أو الانتفاع به بالبطن الموجود و هما منفيان، ففي الأول تضييع لحق الله تعالى، و حق الواقف، و الموقوف عليه، و هو القاطع لاستصحاب المنع مضافا إلى أن المنع من البيع علته الانتفاع بالعين الموقوفة و بقاء الأجر و الثواب للواقف في الانتفاعات، و مع التلف تنتفي العلة فينتفي المعلول، و في الثاني تضييع حق البطون التي أراد انتفاعها الواقف به فلا وجه لترخيص البطن الموجود في اتلافه و اختصاصهم بثمنه.

و منه يظهر أن العين الموقوفة إذا تحقق تلفها بزمان متأخر إما لعارض، و لأن استعدادها لا يتجاوز مقدارا من الزمان معينا فإن أمكن تبديلها بما يبقى وجب ذلك على أول البطون و لا يلزم تأخير تبديلها إلى مجي ء ذلك الزمان ثمّ البدل إن كانت فيه هذه الصفة أيضا يلزم تبديله فيتسلسل لكن الظاهر أن الموقوف الذي لا يبقى بحسب استعداده إلى آخر البطون أو يعلم الواقف مدة بقائه لا يجب تبديله بما يبقى لجميع البطون بل ينتهي ملكه للموجود آخر أزمنة بقائه و لتبديله وجه، و البدل يجري فيه ما يجري في المبدل و لا يحتاج إلى الصيغة بل نفس البدلية كاف في كونه وقفا كالمبدل فتنتفع به البطون اللاحقة على نحو انتفاعهم في المبدل فثمن الوقف عند جواز بيعه تجري عليه جميع الاحكام المختصة بالوقف.

و منها أن المثمن ملك للمعدومين بالقوة و الثمن مثله و عدم تعقل ملكية المعدوم يسلم في ملكيته الفعلية لا الشأنية.

و الحاصل أن الثمن بعد أن كان بدلا لا يعقل تخلف ملكيته عن المبدل بل هما سواء و لا دليل على اختصاص بدليته فيقال إنه بدل في الملك الفعلي فقط فلا يلتفت إلى ما يقال أو قيل، أن عموم البدلية لا يثبت ترتب جميع اللوازم بحيث يثبت بها إن تعلق الحق بالمبيع و الثمن على نهج واحد، و إليه نظر من أنكر عموم البدلية في التيمم مع وجود الدليل اللفظي فيه، و فقده في المقام و لعدم حكمهم بوجوب إبقاء البدل كالأصل في كونه ممنوعا من التصرف فيه إلا لعذر بل ظاهرهم جواز تبديل البدل لأي مصلحة كانت بنظرهم أو بنظر وليهم، و وجه الرد أن المنقول إلى المشتري حيث يجوز بيع الوقف إن كان الاختصاص الموجود لم يكن مستقرا لتوقيته بوجود البطن الأول فإذا تم توقيته رجع إلى البطن الآخر فحاله حال المبيع بالخيار قبل انقضاء المدة في رجوع البائع و ان تعاقب بيعه للبطون قبل انتهاء أجله، و إن كان هو الاختصاص و الملكية المستقرة الذي لا يزول عن مالكه فيلزم فيه مراعاة البطون اللاحقة على حد بدله لعدم جواز اختصاص العوض بمن لم يختص بالمعوض و لا يشبه ما نحن فيه دية العبد الموقوف على القول باختصاصها بالبطن الأول و عدم اشتراك البطون اللاحقة فيه، و كذا بدل الرهن لو قيل بعدم كونه رهنا لأن الحكم في الأول متأخر عن تلف الموقوف شرعا فجاز منع البطون اللاحقة منه عقلا، و ليس هو من باب المعاوضة، و كذا الثاني فإن الرهنية تعلقت بالعين من حيث ملكية الراهن لها فجاز أن ترتفع الرهنية بارتفاع الملكية لا إلى بدل و إلى بدل كما هو بين، و يتفرع على ما حررناه أن المدار في الثمن مراعاة مصلحة البطون اللاحقة و زيادة الاجر و الثواب للواقف بزيادة انتفاع الموقوف عليه فلا داعي لوجوب اخذ المماثل للوقف كما عساه يظهر من جماعة

ص: 211

معللين بكونه أقرب إلى غرض الواقف، فإن الظاهر من أن الموقوف على حسب ما يقفها أهلها هو ملاحظة مدلول كلام الواقف بالنسبة إلى الوقف كبقاء عينه، و الانتفاع بنمائه و صرفه في جهته و لو تبدل ببيعه و انتقل الثمن للموقوف عليهم كان الملاحظ مصلحتهم، و زيادة الثواب، و المتولي للبيع الحاكم منظما إلى الموقوف عليهم، و كذا إلى الناظر المعين من جهة الواقف في الاولى؛ لأن النظارة المطلقة لا تنصرف إلى التصرف في العين في البيع، و إن اقتضت بقية التصرفات، و في سقوط نظارته بالنسبة إلى البدل، أو بقائها كالمبدل وجهان: من تعلق نظره بالعين الموقوفة فيقتضي تعلقه ببدلها و من انعدامها بتلفها، و لو بالمعاوضة فتفوت بفواتها و لو كان البدل نقدا لزم وضعه عند أمين حتى يمكن شراء ما ينتفع بنمائه، و لا يجوز صرفه في البطن الموجود لاشتراكه بين جميع البطون، و في لزوم الاتجار به مع الأمن من تلفه، و ظهور المصلحة في ذلك وجه لعدم الانتفاع ببقائه أمانة و كذا في لزوم تبديله إلى ما لا زكاة في عينيه لأن لا تأتي عليه الزكاة فيكون باعثا إلى منافاة غرض الواقف، و يحتمل عدم تعلق حق الزكاة به لما ورد من أنه لا صدقة في صدقه أو هو كمال الصغير في وجه و لو طلب البطن الموجود شراء ما ينتفع به ببيع الخيار فالظاهر لزوم إجابته.

نعم يلزم أن يكون الخيار مستمرا لا مؤقتا لاحتمال وجود البدل في كل وقت و لو أتجر به احتمل في النماء أن يكون كمنافع العين فيفرض أن الأصل هو العين و النماء يدفع للبطن الموجود، و يحتمل أن يكون النماء تابع للأصل لا يملكه الموجودون لأنه جزء من البيع و ليس كالنماء الحقيقي و لو كان الثمن مما له نماء كأن يكون حيوانا أو بستانا له نماء أو عينا تجري أو غير ذلك مما لا تأبيد فيه فالاحتمالان، و أما ما من شأنه التأبيد و البقاء فالمتجه صرفه في الموقوف عليهم و يجوز بيع البعض مع الشروط المرقومة كبيع الكل و يجري فيه ما يجري في الكل، و لو أحتاج البعض الباقي إلى التعمير فالظاهر وجوب صرف ثمن المبيع في عمارته إن شرط الواقف تعميره قبل القسمة بل، و لو لم يشترط لأقربية ذلك إلى مراد الواقف فيدور الأمر بين تعمير بعض الموقوف و حراسته عن التلف، و بين شراء البدل، و خراب الباقي من العين الموقوفة، و لا شك أن الثاني أقرب، و عسى أن يقال بملاحظة المصلحة فيما ينتفع به الموقوف عليهم فإذا كان البدل أصلح يشتري و لا يصرف ثمن البعض في الباقي و إن آل إلى الخراب، و لو كان لهم وقف آخر على نحو هذا الوقف، و أحتاج إلى التعمير، لا يبعد القول بصرف ثمن المبيع عليه و التخيير بينه و بين البعض الباقي أو تساويا في المصلحة، و المعتمد هو اتباع مصلحة الموقوف عليهم، و زيادة الثواب للواقف في البيع و صرف الثمن، و تقديم المصلحة الباقية- و إن كانت اقل نماء على المصلحة الفانية- و إن كثر نفعها و لو في بطون متعددة تنتهي فإن التأبيد ملحوظ للواقف و لو قلت منفعة العين الموقوفة بخراب و غيره و كان في بيعها و شراء البدل نفع يساوق منفعتها الأولية فالظاهر وفاقا للأغلب عدم جواز بيعها لأن الخراب مطلقا ليس بعلة لجواز البيع، و المقيد بعدم إمكان الانتفاع لم يحصل و حمل الانتفاع المنفي على المعتد به يحتاج إلى دليل، و العمل بعموم وجوب اتباع الواقف في حبس العين، و عدم جواز بيع الوقف ينافيه، و المنع عن بيع النخلة المنقلعة التي يمكن الانتفاع بها بتسقيف أو غيره يؤيد عدم الجواز.

نعم يظهر من بعض النصوص جواز البيع في المخروب مطلقا و حملها على ما يوافق المشهور أوفق بمذاق الفقاهة. و بالجملة لا يسوغ البيع إلا بزوال جملة المنافع، و لو تبعض فالوقف بحاله إلا إذا ألحق بالمعدوم أو كان ذلك الانتفاع تلف كحرق الخشبة الموقوفة

ص: 212

لمنفعة ما، و لو وقف البستان أو الدار بلفظهما، و لم يقل وقفت هذه العين فذهب بعضهم إلى بطلان الوقف بذهاب العنوان كعودهما عرصة و سلب الاسم عنها، و إن أمكن الانتفاع بهما بوجه آخر إذ العرصة لم تكن أولا، و بالذات ملحوظة في نظر الواقف و لا لاحظها من حيث انها جزء البستان أو الدار فإذا بطل في بعض الاجزاء لا يبطل في الجميع بل هي داخلة في الوقف من كونه بستانا أو مطلقا فهي جزء عنوان الوقف الذي فرض خرابه، و متى ذهب الكل لا بقاء للجزء. نعم لو لوحظ الجزء في الوقف لا مجال لبطلانه و حكم أيضا بان الوقف لا يباع إلا إذا بطل، و إن بيعه حال كونه وقفا محال، و ما حكم به موافق للاعتبار غير أنه موهون بان العنوان لا يصير الوقف منقطعا فيبطل بذهابه بل هو من قبيل العنوان الواقع في المبيع، فإن البستانية إذا وقعت مفعولا في البيع و نحوه لا يبطل البيع بانعدامها جزما.

نعم لو نزلت العنوانية منزلة الشرط فالوقف باطل من حينه لا إذا انعدم العنوان.

و الحاصل أن دوران الملك في العقود الناقلة مدار العناوين لم يذهب إليه أحد و لا له معنى محصل، و ليس التمليك من الاحكام الجعلية ليتعلق بالعناوين و لا ينافي ذلك ما ذكروا في الوصية بأنه لو أوصى بدار فانهدمت قبل موت الموصي بطلت الوصية لانتفاء موضوعها، لأن الموصى به لم يخرج عن ملك الموصي.

نعم لو كان ذلك بعد موت الموصي و قبول الموصى له لكان مما نحن فيه و بطلان الوصية في الفرض هو لا من جهة تبدل العنوان بل لجهة عدم تمامها و لزومها فيستصحب بقاء ملكية الموصي للعين الموصى بها أو لجهة أخرى و كون المقام غير ما نحن فيه يكفي في الفارق، و يوهن ما ذكر من أن الوقف لا يباع إلا إذا بطل أيضا بما مر عليك.

و ملخصه أن الوقف المؤبد لا يبطل بعد تحققه و إن فات شرط الوقف المرعي و هو الانتفاع بالعين، لأن الشرط في كل عقد ناقل يكفي فيه وجوده حال النقل فإن المبيع لا يخرج عن ملك المشتري و إن انتفت ماليته، فالاستمرار يحتاج إلى الدليل على أن نفس جواز بيع الوقف لا يورث الحكم بالبطلان و إن اقتضى خروج الوقف عن اللزوم إلى الجواز كما هو واضح.

إلى هنا وقف يراعه (قدس سره)، و الحمد لله أولا و آخرا

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.